جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

الفتوى الشرعية في المغرب بين الماضي والحاضر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

الفتوى الشرعية في المغرب بين الماضي والحاضر.

 


 

تعتبر الفتوى الشرعية في مسائل الدين وأحكامه من الأمور الأساسية التي اهتم بها الأمراء والعلماء في الإسلام، وأولوها عناية فائقة ضمن عنايتهم واهتمامهم بالقضايا العامة للأمة، باعتبارها أمرا ضروريا واجبا متحتما، وحاجة ملحة في حياة المسلمين.

ذلك أنها أمر يتعلق ببيان شرع الله، وما يجب على المسلم معرفته من أحكام في أمور دينه ودنياه، حتى يكون على بينة وبصيرة من أمره بما يأتي ويذر من الأقوال والأعمال إيمانا منه ويقينا بأنه لا يحل لامرئ أن يقدم على أمر تعبدي أو تعاملي حتى يعلم حكم الله فيه.

وقد بدأ الإحساس والشعور بأهمية هذا الأمر وجلاله في الدين، مع الجيل الأول من الصحابة      -رضوان الله عليهم- في صدر الإسلام حيث كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يعرض لهم من أمور وقضايا يستفتونه لمعرفة الحكم الشرعي فيها، فكان يجيبهم عنها بما علمه الله يفتيهم فيها بما ينزل عليه من وحي في شأنها، كما جاء في عدة آيات قرآنية، وبما يلهمه الله إياه، ويلقيه في روحه وقلبه، يبينه لهم بسنته النبوية وهديه النبوي، مصداقا لقول الله تعالى: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون”. كان بذلك أول مفت في الإسلام، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى لفظا أو معنى.

وعنه أخذ الصحابة –رضي الله عنهم- أحكام الشريعة وتلقوها، وتشبعوا وتمسكوا بها، وعلى سنته وهديه في ذلك صاروا ودأبوا، فتعلموا وعلموا، وتفقهوا وفقهوا، وأفتوا في الدين وأفادوا، وعلى منهجهم ومنوالهم سار من أخذ عنهم من كبار التابعين ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين وعلمائهم الراسخين الذين يسرهم الله في كل عصر وجيل، وفي مختلف بلاد الإسلام وحواضرها، فنبغوا في مجال العلوم الشرعية كلها، فأصلوا أصولها وقواعدها، وفرعوا فروعها وأتقنوا مسائلها، وقاموا برسالتهم خير قيام على مستوى التدريس والتأليف والقضاء، فكانوا بذلك مرجع العامة والخاصة من الأمة وولاة الأمور فيما يجد لهم ويعرض من قضايا تتطلب بيان الحكم الشرعي فيها محققين بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم “العلماء ورثة الأنبياء”، وقوله:”لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك”.

وفي هذا الصدد، وبفضل الله ورحمته وسابغ نعمته وجميل عنايته ومنته، كان لبلدنا المغرب العزيز ومملكته الشريفة، ومنذ تكونت دولته المؤمنة القوية على أرض الأشراف الأدارسة، حظه ونصيبه من وجود هذه الطائفة في الأمة، فكان أرض العلم والعلماء، وموطن الفقه والفقهاء على توالي العهود والعصور، ونبغ فيه علماء أجلاء، قاموا برسالتهم العلمية والدينية، وأدوها خير أداء، تدريسا وتأليفا، ووعظا وإرشادا، وإفتاء وقضاء، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. كما يشهد بذلك تاريخهم الحافل بالعطاء العلمي المتنوع في كل أصناف العلوم الشرعية بصفة عامة، والفقهية والفتوى بكيفية خاصة، فكانوا بذلك مرجع بلدهم وأمتهم المغربية على مستوى الأمور المتعلقة بأحوال الناس فيما يتصل بأحكام العبادات والمعاملات، وعلى مستوى القضايا ذات الشأن العام التي كانوا يستفتون فيها من ملوكهم وولاة أمورهم في هذا البلد الآمن العزيز، حتى إنهم برزوا ونبغوا في هذا لجانب الفقهي والإفتاء المتنوع والغزير بشكل متميز ومنقطع النظير.

وذلك ما جعل بعض العلماء والمؤرخين الباحثين ” يرى أن العلماء المغاربة بذلوا مجهودات كبيرة في هذا السبيل، فأسهموا فيه بقسط وافر، فألفوا لنا مجلدات ضخاما حفظت لنا الأيام بعضها وغاب عنا البعض الآخر فيما غاب من تراث، غير أن ما وصلنا منه يدلنا على ما كان لهم من إسهامات مشكورة، وتعطينا صورة مشرقة عن العقلية المغربية التي استطاعت أن تساير التطور الزماني والمستجدات التي كانت تحدث لمجتمع طوال عصور التاريخ…”

“وأنهم نبغ فيهم طبقات من الفقهاء الكبار في كل عصر من العصور السالفة، ومن خلال اهتمام هؤلاء الفقهاء بدراسة الفقه ومسايرة تطوره، ووضع الشروح والتعاليق والهوامش على أمهات كتبهم، اهتموا كذلك بظواهر الحياة والوقائع اليومية للمواطنين، قصد إيجاد الحلول المناسبة لها، باذلين أقصى الجهود في ميدان تطبيق القواعد الفقهية في إطار المذهب، وبذلك أمكن الفقه أن يساير الأحداث والنوازل التي تتزايد باستمرار مع تزايد العمران وتطور الزمان والمكان، وتتبعوا بتحر ونزاهة كلما استجد من مجريات الأحداث في الشؤون الدينية والاجتماعية، فحلوا المشكلات العويصات مبينين بذلك سعة الشريعة لاستيعاب المستجدات، باحثين عن أقرب السبل للوصول إلى المصلحة العامة التي تناسب الوسط المغربي، فنتج عن ذلك ظهور فقه النوازل، أو فقه الفتاوى والأجوبة عن المسائل”، الذي يرى فيه بعض المؤرخين المعاصرين “أنه أهم مظهر فكر تبوء فيه المغاربة مقاما لم يكد يجاريهم فيه غيرهم دقة وإلماما، وأن بين النوازل والفتاوى ما تناول حالات خاصة وأوضاع معينة، وما تناول مناطق معينة، وما هو عام وضعا وحكما، وذكروا لذلك عدة مؤلفات وموسوعات، أوصلوها إلى ما يزيد عن مئة مؤلف، أمثال:” المعيار المعرب-للعلامة الونشريسي، والمعيار الجديد للعلامة الشيخ المهدي الوزاني. ولعل الرجوع إلى ما كتب حديثا في هذا الموضوع من بحث ودراسات حديثة معاصرة، على مستوى الرسائل والأطروحات الجامعية، وإلقاء نظرة فاحصة عليها سيطلع القارئ على هذه الحقيقة ويكشف له عنها بما يثير الإعجاب والتقدير لمؤلفيها وجامعيها.

وظل أمر الفتوى وحمل أمانتها العلمية، وإرشاد الناس وتوعيتهم بالمسائل الدينية من عبادات وأخلاق ومعاملات موكولة إلى إيمان العالم الفقيه، وشعوره بتلك الأمانة والمسؤولية وواجبه نحوها، في حرية تامة، لا يحجر عليه في شيء من أمر رسالته والتفقيه في الدين، اطمئنانا لما يتوفر عليه من تمكن في العلوم الشرعية وفقه متين، وتحل بالورع والصلاح والتقوى، وخشية الله ومراقبته في السر والعلن، وتمسك بثوابت الأمة ومقوماتها الدينية والوطنية، ومن ضمنها الأخذ بالمذهب المالكي أصولا وفروعا، والتزام الإفتاء بالراجح والمشهور فيه من الأقوال، وعدم الخروج عنه إلى أقوال المذاهب السنية الأخرى، حتى مع معرفته بها وسعة اطلاعه عليها، رعيا لمقصد شرعي عام، هو الحفاظ على الوحدة المذهبية الفقهية للأمة، واستبعاد التشويش على العامة بإيراد الأقوال المخالفة للمذهب والإفتاء بها، فكان هذا النهج السليم هو مسلك العالم الفقيه، ورائده وهدفه الأول والأسمى، وهذا ما كان عليه أمر فتوى العلماء بالمغرب سلفا وماضيا. فماذا عن واقعها اليوم وفي وقتنا الحاضر:

إن أمر الفتوى والتفقيه والإرشاد في مسائل الدين، أصبح الآن – والحمد لله – أكثر انتظاما وانضباطا أكثر من أي وقت مضى.

فإلى جانب وجود علماء فقهاء، واعين برسالتهم العلمية، وملتزمين بالثوابت الدينية والوطنية، موجودين في كل أرجاء المملكة، ثم تكوين مؤسسات علمية تهتم بالشأن الديني، وتسهر على تدبير حقله، وتكون مرجعا للمواطنين فيما يتعلق بمسائل دينهم، ومعرفة أحكام شرع ربهم.

تلكم هي مؤسسة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، التي يرجع الفضل في تأسيسها ووضع لبنتها الأولى إلى عهد المشمول بكرم الله، أمير المومنين جلالة المغفور له، الحسن الثاني، طيب الله ثراه وأكرم مثواه، عام 1401 هـ (1981م)، وعهد إليها جلالته بتأطير المواطنين في الجانب الديني تفقيها وإفتاء، ووعظا وإرشادا.

ويأتي عهد خلفه ووارث سره، أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، ليواصل مسيرة البناء والتشييد في هذا المجال، ويعمل على إتمام صرحه على أسس متينة، وتوسيع دائرة مؤسسات المجالس العلمية في مختلف مدن وأقاليم المملكة.

فما إن اعتلى جلالته – أعزه الله – عرش أسلافه الميامين، حتى وجه اهتمامه البالغ وعنايته الفائقة للشأن الديني وإصلاح حقله بضبط مجالاته، ورعاية القائمين عليه، وتأهيلهم للمهمة النبيلة المنوطة بهم خير قيام، بما يعود بالخير على المغرب وأمته المؤمنة، تدينا وتماسكا، واستقرارا واطمئنانا.

ويصون الوطن والمواطنين، مما أصبح يشهده الحقل الديني في المغرب وغيره من بلاد الإسلام من آراء مختلفة، وأفكار مغالية متطرفة، وخاصة في مجال الفتوى وتنوعها، والتجرؤ عليها ممن ليس أهلا لها، عبر مختلف وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمقروءة، وهو ما بلوره جلالته في الظهائر الشريفة والخطب السامية الموجهة إلى العلماء، بمناسبة إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية، وأثناء تنصيبها، فقد جاء في الظهير الشريف (2 ربيع الأول 1425 هـ/22 أبريل 2004م) الفقرة التالية:

” ومن المهام الجسيمة التي تنتظر مجالسنا العلمية مهمة القيام بأمانة الإفتاء الشرعي في النوازل الطارئة والوقائع المستجدة، والإنكباب على هذه المهمة الملحة باجتهاد جماعي، ينأى بها عن الذاتية والانغلاق، ويحقق به مقاصد الشرع الأسمى في التيسير ورفع الحرج، وفي الوسطية والاعتدال، لتصبح أمرا لازما بعد المصادقة عليها من المجلس العلمي الأعلى، وبعد عرضها على أنظار جلالتنا”.

وجاء في الفصل الرابع من نفس الظهير الفقرة التالية:

“تحدث لدى المجلس العلمي الأعلى هيئة علمية، تتكون من بين أعضائه، تختص وحدها، دون غيرها، بإصدار الفتاوى الرامية إلى بيان حكم الشريعة الإسلامية في القضايا ذات الصبغة العامة”.

وجاء في الخطاب السامي لجلالته، أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية بالدار البيضاء يوم 10 ربيع الأول 1425هـ / 30 أبريل 2004م ما يلي:

“وصيانة للحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي، فقد أسندنا إلى المجلس العلمي الأعلى اقتراح الفتوى على جلالتنا، بصفتنا أمير المومنين، ورئيسا لهذا المجلس، فيما يتعلق بالنوازل الدينية، وقطعا لدابر الفتنة والبلبلة، مؤكدين أن توسيعنا وتجديدنا للمجالس العليمة لا يعادله إلا حرصنا على ألا تكون جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء بها، بل نريدها ملتقى لكل العلماء المتنورين.