جارٍ تحميل التاريخ...

بث تجريبي

ثقافة الإمام – ذ.عبد اللطيف الميموني

ثقافة الإمام – ذ.عبد اللطيف الميموني

 

أيها السادة الأئمة الفضلاء، تقدم لنا في الحصة السابقة أن وظيفة الإمام نبيلة وشريفة، قبل أن تكون تكليفا ومسؤولية، وتترتب عنها وظائف تخدم الفرد والمجتمع، والصغير والكبير، في الحي، والقرية، ويكون لها عند أدائها بشكل أمثل، وبطريقة أفضل، أثر بالغ على الناس، ولها نتائج إيجابية وطيبة تسهم في تقوية العلاقات بين أفراد الجماعة، وتنشر الوئام والألفة والمحبة بينهم.

ذلكم أن الإمام يتحلى بصفات الصلاح والاستقامة تؤهله ليكون قدوة للناس، مما يجعلهم تابعين له، ومقتدين به.

وبذلك يحظى بمحبة الناس وثقتهم به، وتعظم قيمته لديهم، ومن ثم يكون مؤثرا فيهم بإرشاده ونصحه، لأنهم يستمعون له بإمعان بسبب الثقة التي يتمتع بها من قبلهم، فيذيع صيته وتنتشر أخلاقه بين الناس، وهو المبتغى من هذه الوظيفة النبيلة، وسر النجاح فيها.

ولأجل ذلك كان لزاما على الإخوة الفضلاء من الأئمة الكرام المحافظة على هذه الصفات الحميدة، والأخلاق الرفيعة التي تجعل الناس يقتدون بهم في أحوالهم قبل كلامهم، وتكون لهم صورةً حسنةً في أذهان الناس، فيكسبون محبتهم ومن ثم حسن التعامل الإيجابي معهم؛ خصوصا حينما يتعامل الإمام بحياد تام، ويجعل الناس سواسية عنده، لا فضل لهذا على هذا، فيقبلون نصحه لهم وتتسع صدورهم لقبول قول الحق ولو كان مرا، بل يحظى باحترام الجماعة وتقديرهم له، لأن هدفه من النصح إرضاء الله عز وجل، ومنطلقه قول الله تعالى: ﴿إِنُ ا۟رِيدُ إِلَّا اَ۬لِاصْلَٰحَ مَا اَ۪سْتَطَعْتُۖ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُۖ وَإِلَيْهِ أُنِيبُۖ﴾ [هود: 88].

ذلك أن مهمة الإمامة تتطلب القدوة، ولاسيما حينما ينظر الناس إلى الإمام على أنه أب روحي رحيم، وأخ صادق معين، وشيخ ناصح أمين، يراعي أحوالهم، ويجيب دعوتهم بلا تمييز. ولا نحتاج في هذا المقام لتذكير الإمام بالحذر من الانحياز نحو طائفة معينة سواء كانت حزبية أو غيرها، لأن ذلك من شأنه أن يكون سببا في التنقيص من قيمته في نظر أهل الحي أو القرية المشارطة. وهذا مدعاة لفتح الباب لألسنة الناس ليتناولوا الإمام بالقيل والقال، والشكوك التي تهدم ما بني من الخير.

فينبغي أن يكون الإمام فوق التصنيفات كلها، وأن يكون في صف الحق وحده، لأن الحق هو الذي يلتف حوله الجميع.

كما يجب على الإمام أن يكون بمنأى عن التيارات الحزبية والمذهبية والفكرية كلها، فمهمته فوق كل ما ذكر، لأنه مقتدى به، ويحصل النفع بالاهتداء به.

ولأجل ذلك يلزمه أن يوطن نفسه ويستقل برأيه، ولا يتبع أهواء الناس، ولا ينجر لميولهم.  لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا»([1]).

فإذا كان الإنسان يسمع أيا كان ويتبعه في أي شيء فهو الإمعة. ولكي يتمتع الإمام بما ذكر ينصح بما يلي:

  • اللطف واللين؛ لأن ذلك من حسن الخلق، إذ هو أساس النصح والتوجيه، فهو في هذه الحالة كما قيل: لا يكون صلبا فيكسر، ولا رطبا فيعصر.
  • احترام قدرات الناس واختلاف مستوياتهم في الفهم والإدراك، وعدم التلفظ بأي كلمة قد تنال من مصداقية الإمام، لما تدل عليه من اعتبار الناس أنهم “عوام” وأنهم لا يفهمون، بل الناس يفهمون كل شاردة وواردة.

إن مكانة الإمام الرفيعة التي يرجى تحقيق أهدافها إنما تنال ببذل مجهود محمود. فبالإضافة إلى الإمامة في الصلاة، يتصدر مهامه: التعليمُ، فبالعلم يمحى الجهل، ثم التذكير، وبه تذهب الغفلة، وبمثل هذه الأعمال الجليلة ينخرط الإمام بفعالية في صلب موضوع خطة “تسديد التبليغ”.

إن هذه المنزلة المعتبرة التي حظي بها الإمام تجعله يطوق نفسه بمهمة جسيمة، وأمانة عظيمة، يقول ابن أبي زيد القيرواني في شأنها:

 “ويؤم الناس أفضلهم وأفقههم([2]).

ونقل ابن الحاج عن شيخه أبي محمد أنه كان يقول: “إذا أخذك وقت الصلاة بمسجد من المساجد، فإن كنت في بلاد المغرب فصل حيث كنت …” وعلل ذلك بقوله: “إن بلاد المغرب لا يتولى الإمامة في المسجد الأعظم فيها إلا من أجمع أهل ذلك البلد على فضيلته في العلم والخير والصلاح، وسائر المساجد لا يتولى الإمامة فيها إلا من أجمع أهل تلك الناحية على فضيلته وتقْدُمَته في الْعلْم، والْخير، والصلاح، وسائر المساجد لا يتولى الْإِمامة فيها إلَّا من أجْمَع أَهلُ تلكَ الناحية على فضيلته عليهمْ”([3]).

إن أهمية الإمامة تزداد شأنا حين يكون صاحبها معلما وواعظا ومصلحا، ومربيا، يتولى مهمة التعليم والتوجيه، وعلى وجه الخصوص تعليم القرآن العظيم ومبادئ العربية للناشئة، على عادة أئمة المغرب، الذين توارثوها منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم، وهي إرث نبوي وعمل الصحابة والتابعين والأئمة الأبرار. وبهذا العمل يكون مسجلا في صحيفة الذاكرين.

«ففي صحيح مسلم أن مُعَاوِيَة خرج على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر اللَّه، قال: آللَّهِ ما أَجلسكُم إلا ذاك؟ قَالُوا: واللَّهِ ما أجلسنا إِلَّا ذاك. قال: أما إِنّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول اللَّه ﷺ أَقلَّ عنه حديثًا مني، وإن رسول اللَّه ﷺ خرج على حلْقة منْ أصحابه فقال ما أجلسكم؟ قالُوا: جلسنا نذكر اللَّهَ ونحمدُه على ما هدانا للإِسلام، ومنَّ به علينا، قال: آللَّه ما أجلسكم إِلَّا ذاك؟ قالوا: واللَّه ما أجلسنا إِلَّا ذاك. قال: أَما إِنّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أَن اللَّهَ عز وجل يباهي بكم الملائكة»([4]).

ومعنى: «يباهي بكم الملائكة»: يظهر فضلكم لهم، ويريهم حسن عملكم ويثني عليكم عندهم. وأصل البهاء الحسن والجمال. وفلان يباهي بماله وأهله أي: يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم، كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله([5]).

وبهذا العمل تحصل الطمأنينة والسكينة خصوصا في المسجد، لما يسوده من التزام بآداب مجلس الذكر. ولذلك كان معلم القرآن أفضل الناس، لأنه قصد نفع العباد وإفادتهم. فعن عثمان ﭬ عن النبي ﷺ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»([6]). وهذه المهمة كما لا يخفى على شريف علمكم من الأعمال التي تحافظ على تواتر القرآن الكريم جيلا عن جيل، إلى يوم الدين، مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَ۬لذِّكْرَۖ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَۖ﴾ [الحجر: 9].

فتمسكوا معاشر الفضلاء بهذا التراث العظيم، وعضوا عليه بالنواجذ؛ تقربا إلى الله تعالى، وخدمة للأمة، ونصحا لها لتحقيق المبتغى من الحياة الطيبة بالدين. هذا وخير ما يختم به المقام أفضل الصلاة، وأزكى السلام على ملاذ الورى، وشفيع الأنام سيدنا محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأخيار، وصحابته الأبرار، والتابعين لهم في الجهر والإسرار، والحمد لله رب العالمين.

 ([1])  أخرجه الترمذي في جامعه، باب ما جاء في الإحسان والعفو. وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

 ([2])  الفواكه الدواني 1/205 . للشارح أحمد شهاب الدين الأزهري.

 ([3])  المدخل: فصل في نية الإمام والمؤذن وآدابهما. ( 2 / 200 ).

 ([4])  صحيح مسلم، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.

 ([5])  شرح النووي على صحيح مسلم، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه.

 ([6])  رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم 4739


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)