You may also like
Page 1 of 5
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
مشاهدينا الأعزاء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
في هذه الإطلالة سنتناول وإياكم قضية تتعلق بفكرة القانون: مفهومها نشأتها وتطورها وضرورتها. فمعلوم أن القوانين والتشريعات صارت عصب الحياة المعاصرة، فهي التي نظمت جميع مناحي حياة الناس، ويسرت سبل معيشهم، ونظمت علاقات الأفراد والمؤسسات، وحققت استقرار المعاملات وحفظت الحقوق وأداء الالتزامات والواجبات، ورعت مصالح الناس ووفرت لهم الأمن والأمان، وزجرت الفساد والمفسدين، وقهرت الجناة والمجرمين.
إن هذه المقاصد والغايات التي تحققها القوانين في المجتمعات لا تخفى على أحد، ولكن في سياقنا نحن المسلمين نجد من يحمل تمثلات خاطئة عن القوانين من قبيل مناقضتها للشرع، وأنها غير جديرة بالالتزام والامتثال.
فحري بنا في هذه الإطلالة أن نتوقف هاهنا لإزالة هذا الغبش، وتصحيح هذه التصورات وتعديل هذه التمثلات. فكثير ممن يحمل هذا الوهم يعتبر التقنين كلمة أو عملية أجنبية عنا وعن تراثنا.
لكن الباحث أو القارئ المبتدئ سيجد أن عبارة القانون الذي اشتقت منه عبارة التقنين، استعملها علماء المسلمين منذ زمان مبكر بمعنى القواعد العامة المطبقة على جزئياتها بلا تخلف، أو بمعنى النظام العام الذي يحكم مجالا معينا، لذا نجد مؤلفات سطرت بهذا المعنى منذ القرن الرابع، وتوالت إلى القرن الثامن في كل من المشرق والمغرب، وفي مختلف مجالات العلوم، ومن بين ذلك: القانون في الطب لابن سينا، والقانون في اللغة للنهرواني، والقوانين الفقهية لابن جزي.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فالتقنين فرع عن التقعيد، إذا كانت القواعد القانونية تتسم عادة بشروط أهمها: العموم والتجريد والإلزام، فإن أهم هذه الشروط في الحقيقة شروط للتقعيد، فلا قانون بدون تقعيد.
فإذا سلّمنا بأن التقعيد أصل التقنين، فقد ورد في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله ﷺ مجموعة من النصوص التي تحمل كل شروط القاعدة، فالتقعيد بالنص له صورتان: الأولى: أن ترد الآية أو الحديث في تعبير موجز جامع دستوري، فيكون ذلك بالنسبة للفقهاء كلية تشريعية جاهزة الصياغة.
والثانية: أن يرد النص القرآني أو الحديثي يحمل حكما عاما صالحا لكثير من الفروع والجزئيات، فيعمد الفقهاء إليه ويستنبطون منه قاعدة أو قواعد كلية.
وأمثلة التقعيد من القرآن والسنة أجل من أن تستقصى في موعظة، وعلى سبيل الاستئناس والمثال نورد من القرآن آيتين، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزْرَ أُخْر۪ىٰۖ﴾ [الأنعام: 166]، وقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَاكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَٰطِلِۖ﴾ [النساء: 29].
فكل من الآية الأولى والثانية تمثل قاعدة كلية يمكن الفصل بها فيما لا يعد من الخصومات كل في مجالها، وذلك عين التقنين، ومن السنة نورد حديثين: «لا ضرر ولا ضرار»[1]، وحديث: «المسلمون على شروطهم»[2]. وما قيل عن الآيتين يقال عن الحديثين.
كل ما تقدم يثبت أن فكرة القانون أصيلة عند المسلمين، وكانت هذه الفكرة ملهمة للمتشرعة فيما يقررونه من القواعد والأحكام، وليس من باب العجب أن نقرأ أن ابن المقفع حاول إقناع الخليفة أبي جعفر المنصور في بداية العهد العباسي بالتقنين في رسالة سماها “رسالة الصحابة”، واقترح عليه جمع الأحكام الفقهية وإلزام القضاة بالحكم بها.
فكان هذا الدافع الأساس الذي حدا بالخليفة أبي جعفر المنصور إلى أن يطلب من الإمام مالك رحمه الله وضع كتاب جامع يحوي اختياراته الفقهية المستنبطة من الأصول الشرعية مع مراعاة اليسر والسهولة في ذلك.
ومن مرونة هذا الفقه وحيويته أنه واكب تطور المجتمعات والدول في عصرنا الحاضر، فألهم المشرعين في بلاد المسلمين وغير المسلمين قوانين وتشريعات لتنظيم أحوال الناس؛ من أحوالهم الشخصية إلى العلاقات بين الدول في السلم والحرب.
إن الفقه الإسلامي اليوم يعد أعظم ثروة تشريعية قانونية أنتجها الإنسان على وجه الأرض، فلا عجب أن تجد من الأوربيين من استلهم قوانينه المعاصرة من الشريعة الإسلامية. وإن تأثر المسلمين بالاستعمار وبتقدم الحضارة الغربية وتطورها، لم يقض على الفقه أو يجمده، بل تكيف الفقهاء مع الأوضاع الجديدة، فقننوا الفقه وجعلوه على شكل نصوص ومدونات قانونية تستجيب للمعايير والضوابط التي ارتقى إليها الفكر الإنساني المعاصر، انسجاما مع ما تتميز به الدولة الحديثة من ضرورة توفرها على مدونة من النصوص الحديثة القادرة على التحكم في مسارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
فما وصل إليه الفقه من التقنين مسار طبيعي لتعقيدات الحياة وتطور المجتمعات، فكل تقنين في أي أمة إنما يتغيّا حفظ النظام، وصون الحقوق، ورعاية المصالح العامة، فكيف إذا كانت هذه الأمة مسلمة تعتمد في مصادر تشريعها على شرع الله تعالى كما هو الحال في بلدنا المغرب.
ففي بلدنا الذي يتفيأ ظلال إمارة المؤمنين نجد أن تقنين أحكام جديدة تضبط مستجدات الحياة وإحداث لوائح تنظيمية للمؤسسات العمومية والخاصة لهو من أهم دواعي وجود سلطة دنيوية. وميزة الدولة الحديثة هي ضرورة توفرها على مدونة من النصوص الحديثة القادرة على التحكم في مسارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إذ بها تستطيع المؤسسات أداء مهامها في دائرة احترام النصوص المنظمة ضمانا للحقوق ودرءاً للتصرف بداعي التشهي أو الانحياز إلى جهة على حساب جهة أخرى. والإمام الأعظم يمتد تدخله في التشريع إلى ثلاثة مجالات:
وما كان في حيز العفو غير مشمول بدلالة نص شرعي فهو صالح لأن يغطى بقوانين ملائمة يراعى فيها صلاحيتها للانسجام مع النسيج التشريعي الإسلامي فلا تكون مناقضة لتوجهه ومقاصده.
وقد ظل الأئمة يستحدثون ضمن هذا النوع من التصرفات غير المنصوص عليها أحكاما مناسبة اتكاء على نصوص تشريعية معروفة فأوجدوا نظما ضبطت بها قطاعات عديدة من الحياة، منها نظام اقتصادي عالج قضايا البيوع والشركات والإجارات والوقف وما إليها من القضايا الاقتصادية، ومنها نظام زراعي تمثل في أحكام إحياء الموات والمغارسة وأحكام الماء وإكراء الأرض بجزء من الخارج منها، ومنها نظام متكامل للمحافظة على البيئة تشكل من نظرية حريم الماء والأشجار وإحداث الأدخنة، ومنها نظام متكامل للعمارة يتشكل من أحكام البنيان ورفع الضرر عن الجيران، وتوسعة الطرق وإحداث مرتفقات العقارات، إلخ…
لقد تأسست في الفقه السياسي الإسلامي قاعدة كلية إجماعية تنص على أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وهي تعني تعليق كل التقنينات على تحقيق المصلحة. وفي جميع تلك التقنينات يراعى فيها أن لا تصادم حكما قطعيا في الشريعة ولا تعارض المصلحة المتوصل إليها بالرأي مصلحة أكيدة بالشرع.
والمشرع قبل صياغته لكثير من القواعد القانونية يبادر إلى قراءة نصوص الشريعة واستعادة الأحكام التي راكمها النظر الفقهي، وذلك من أجل إعادة توظيفها بسحبها على مستجدات الحياة لتكون سندا تشريعيا لكثير من التقنينات التي يمكن أن تعتبر تجليا راهنا لمضامين تلك النصوص وتلك الأحكام المقررة.
فحينما تسن الدولة مثلا قوانين للمحافظة على الغطاء النباتي وتلزم الناس بالحصول على إذن من الجهة الحكومية الوصية لاقتلاع الأشجار، فإن ذلك التقنين يجد سنده القوي في قول الله تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ اَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰٓ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اِ۬للَّهِ وَلِيُخْزِيَ اَ۬لْفَٰسِقِينَۖ﴾ [الحشر: 5]. والآية تشير إلى أن الرسول ﷺ لم يقدم على قطع النخيل في ظروف خاصة إلا بعد أن أذن الله له بذلك.
وحينما نريد تحفيز الناس واستحثاثهم على المشاركة السياسية بالإدلاء بأصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية، فإن من المفيد تذكيرهم بقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُواْ اُ۬لشَّهَٰدَةَۖ وَمَنْ يَّكْتُمْهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلْبُهُۥۖ﴾ [البقرة: 283]، وحين نروم إحداث تقنينات تحد من حوادث السير القاتلة فإنه يتعين تذكير الناس بقول الله تعالى: ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِۖ إِنَّ اَ۬لْعَهْدَ كَانَ مَسْـُٔولاٗۖ﴾ [الإسراء: 34]. ولا شك أن الحصول على رخصة السياقة قد أعقب عهدا أعطاه طالبها بالتقيد بقانون السير، وبالإمكان تذكير الناس بانضواء المجازفة بالسياقة تحت مفهوم القتل الخطأ إن لم يكن عمدا مع ما رتبه الشارع على قتل النفس من جزاءات دنيوية وأخروية.
[1] – رواه مالك في الموطأ والحاكم في المستدرك وصححه.
[2] – أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.