You may also like
Page 1 of 5
لما اشتد أذى قريش على أصحاب رسول الله ﷺ وعز عليهم المكوث بمكة لما لقوه من تعذيب وتجويع وحصار، حيث “…وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم”[1]، أذن الله عز وجل لنبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام بالهجرة إلى المدينة طلبا للحياة الآمنة المطمئنة التي تسعفهم في عبادة ربهم وفعل الخيور والمبرات.
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله ﷺ أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ﷺ في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ﷺ بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله ﷺ هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله ﷺ وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ﷺ: أخرج عني من عندك؛ فقال يا رسول الله: إنما هما ابنتاي وما ذاك؟ فداك أبي وأمي فقال: “إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة”. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: “الصحبة”. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا[2]“.
إن في هذا المشهد العظيم مستفادات كثيرة نشير في هذه الحصة إلى مستفادين مهمين، وهما منزلة أبي بكر رضي الله عنه، وأهمية خلق الأمانة.
_ منزلة أبي بكر الصديق:
أكد هذا الحدث العظيم مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث اصطفاه النبي ﷺ للصحبة في رحلة الهجرة، وهو الذي كرس ماله وولده وبيته لإنجاح الهجرة، وتحمل مختلف المتاعب وصنوف المشاق في سبيل أمن النبي ﷺ وسلامته، كما يفهم أيضا من جملة التصرفات النبوية ما كان له في قلب النبي الكريم من محبة خاصة، ومكانة سامية كما في خلافته في الصلاة وزواجه ببنته عائشة رضي الله عنها…
ومن أجل ذلك، عد أهل السنة والجماعة أبا بكر الصديق أفضل الصحابة الكرام، والأولى بالخلافة بعد وفاته ﷺ، وفي هذا وغيره من الشواهد والأدلة الكثيرة التي لا يسمح المجال بإيرادها في هذا المقام، نقض لما ادعته بعض الفرق الكلامية مما يخالف واجب التوقير والاحترام للصحابة عموما ولأبي بكر على وجه الخصوص.
قال الإمام أبو الحسن الأشعري: “وندين بحب السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين، ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله ﷺ أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وأن الله سبحانه وتعالى أعز به الدين، وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول ﷺ للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله ﷺ، ثم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه، وأن الذين قتلوه قتلوه ظلما وعدوانا، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله ﷺ وخلافتهم خلافة النبوة”[3].
إن صحة المعتقد، وما يستلزمه من توقير الصحابة، عنصر رئيس في الحياة الطيبة للأفراد والمجتمعات، لما فيه من الاستجابة لله تعالى ولرسوله ﷺ، وتوحيد صفوف المسلمين وتقوية شوكتهم…
قال تعالى: ﴿وَالسَّٰبِقُونَ اَ۬لَاوَّلُونَ مِنَ اَ۬لْمُهَٰجِرِينَ وَالَانص۪ارِ وَالذِينَ اَ۪تَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُۖ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِے تَحْتَهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ ذَٰلِكَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ﴾[التوبة: 101].
وقال ﷺ: ” الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه“[4].
_ خلق الأمانة:
إن الأمانة خلق عظيم من أخلاق الدين الحنيف، ينجم عن تفشيه في الأفراد والمجتمعات الأمن والثقة والطمأنينة والاستقرار.
والناظر في النصوص الشرعية، يخلص إلى أن لها ارتباطا وثيقا بالأمن الداخلي للإنسان، وهو الإيمان، وأمنه الخارجي الذي يعرفه وسطه ومحيطه، وهو الثقة والطمأنينة، وذلك أن الأمانة نتيجة للإيمان، وسبب للأمن، كما تجسد هذه النصوص:
قال تعالى: ﴿فَمَنَ اٰمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَۖ﴾[الأنعام: 49].
وقال سبحانه عز وجل: ﴿اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ ا۟وْلَٰٓئِكَ لَهُمُ اُ۬لَامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَۖ﴾[الأنعام: 83].
وقال الرسول ﷺ: “لا إيمان لمن لا أمانة له“[5].
واستحضارا لهذه القيمة العلية، ورغم أن الأجواء كانت متوترة، ومع أن قريشا صادرت أموال المسلمين واغتصبتها، إلا أن الرسول الكريم، ظل وفيا للقبه الذي عرف به “الأمين“، وقرر أن يرد الأمانات إلى أصحابها.
روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق بن يسار قال: حدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة في هجرة النبي ﷺ قالت: “وأمر_ تعني رسول الله ﷺ_ عليا رضي الله عنه، أن يتخلف عنه بمكة، حتى يؤدي عن رسول الله ﷺ الودائع التي كانت عنده للناس[6]“.
إن تمثل الأمانة مفتاح أساس لكل نهضة معنوية ومادية من اقتصاد واجتماع وعمران … بما ينعكس إيحابا على الإنسان والبيئة وكل ما يرتبط بهما. ومن أجل هذا ظهر من فلاسفة العصر من يدعو إلى الفلسفة الائتمانية القمينة بإخراج الإنسان من أزماته ومشكلاته، وتحقيق سعادته المنشودة، وطمأنينته المطلوبة.
1_ سيرة ابن هشام ج1/317، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1375هـ – 1955م.
2_ سيرة ابن هشام 1/ 484، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1375هـ – 1955م.
3_ الإبانة عن أصول الديانة 1/ 20، تحقيق د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار القاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ.
5_ جامع الترمذي ومسند أحمد وصحيح ابن حبان وغيرهم. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.