جارٍ تحميل التاريخ...

تجليات الحياة الطيبة في ظلال السيرة النبوية – مشهد الهجرة النبوية (4)-

تجليات الحياة الطيبة في ظلال السيرة النبوية – مشهد الهجرة النبوية (4)-

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الهجرة النبوية مدرسة عظيمة الشأن، غنية المناهج، عميقة الدروس، يحتاج إليها المسلمون باختلاف تخصصاتهم ومسؤولياتهم لبناء حضارتهم، وتأسيس عمرانهم، بما يحقق لهم السعادة العاجلة والآجلة.

وصلة بالمستفادات المقتطفة من ثنايا حدث الهجرة المشار إليها في الحصص الماضية، نواصل الحديث في الموضوع بذكر مستفادين آخرين مهمين، وهما حاجة الأمة إلى المرأة الرسالية، والهجرة التي نحتاجها اليوم.

المستفاد الأول: حاجة الأمة إلى المرأة الرسالية:

أكدت الهجرة النبوية مكانة المرأة في المشاريع الإصلاحية الكبرى، وأنها معنية بخدمة الدين والوطن كما أخوها الرجل، وذلك بسبب تميز مساهمتها، وعمق أثرها على الأفراد والجماعات. وقد تجسد هذا جليا في أطوار السيرة النبوية عموما، ومن خلال ما قامت به أسماء بنت أبي بكر الصديق على وجه الخصوص، حيث تحملت صنوف الإيذاء والتعذيب لنصرة دين الإسلام وإعلاء كلمة الحق، فقد تكلفت بإعداد الطعام وإيصاله، وبذلت في سبيل ذلك التضحيات الجسام.

قال ابن هشام: ” قال ابن إسحاق: وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقتها به.

فكان يقال لأسماء بنت أبي بكر ذات النطاق لذلك. قال ابن هشام: وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول ذات النطاقين، وتفسيره أنها لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنين فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر[1].

لقد اهتم المشروع الإسلامي بالمرأة فجعلها مساوية لأخيها الرجل في التكاليف والعبادات كما قال تعالى: ﴿اِنَّ اَ۬لْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَٰتِ وَالْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَٰتِ وَالْقَٰنِتِينَ وَالْقَٰنِتَٰتِ وَالصَّٰدِقِينَ وَالصَّٰدِقَٰتِ وَالصَّٰبِرِينَ وَالصَّٰبِرَٰتِ وَالْخَٰشِعِينَ وَالْخَٰشِعَٰتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَٰتِ وَالصَّٰٓئِمِينَ وَالصَّٰٓئِمَٰتِ وَالْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَٰفِظَٰتِ وَالذَّٰكِرِينَ اَ۬للَّهَ كَثِيراٗ وَالذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اَ۬للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةٗ وَأَجْراً عَظِيماٗۖ﴾ [الأحزاب: 35]، وفي الحديث الشريف “إن النساء شقائق الرجال[2]، ورتب عليها واجبات كما أوجب لها حقوقا أما كانت، أو أختا، أو بنتا، أو زوجة.

وفي هذا السياق، يتعين على المبلغين أن يخصوا المرأة بحظ وافر في برامجهم التبليغية والتبصيرية، تكون فيها مؤطرة، وهي أقدر على ذلك لما لها من خصائص تواصلية فريدة يعز على غيرها أن يمتلكها، وتكون مستهدفة لما ينجم عن تكوينها من توجيه سديد لفئات اجتماعية كبيرة بفعل سعة شبكة علاقاتها الاجتماعية، كما أن في هذا الصنيع بيانا لتهافت مقولات من يتكلم في الدين عامة، وفي موضوع المرأة خصوصا، بجهل أو عداء، لتكون صورة المرأة في الإسلام أوضح وأنقى.

المستفاد الثاني: الهجرة المطلوبة اليوم:

إن السؤال المطروح اليوم هو: هل ما تزال الهجرة قائمة؟ وإذا كان الجواب بالتأكيد فما نوع الهجرة المطلوبة؟

لقد أجاب النبي ﷺ عن هذا السؤال بقوله: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا[3]، وهو يعني بذلك أن الهجرة المكانية قد انقطعت، ولم يبق إلا الهجرة المعنوية التي يقصد بها هجر الرذائل والمعاصي والآثام وكل ما يضر ويؤذي، وقد فسر ﷺ هذا المعنى بقوله: “والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه[4].

إن الهجرة المطلوبة اليوم هي التي يجتهد فيها الفرد كما الجماعة في تهذيب النفس، وترقيتها في مدارج الإحسان، وتأهيلها للعطاء ونفع الخلق، وذلك على مستويات ثلاثة، وهي التخلية، والتحلية، والتجلية.

_ التخلية: ويقصد بها تنقية النفس من ملوثاتها المختلفة المكدرة لصفائها، حيث يكون ذلك إعدادا لها لتعلق بها المقامات الإيمانية، لذلك ناسب تقديمها على التحلية كما هو منهج الذكر الحكيم وحديث النبي الأمين، كما لخصه الإمام ابن عاشر بقوله:

وحاصل التقوى اجتناب وامتثال       في ظاهر وباطن بذا تنال

ومما يجب البدء به التخلص من موانع الهداية كالكبر والشهوة والغفلة، تلك الصوارف عن الهدى التي جلى خطورتها رب العالمين في آيات كتابه المبين كما في قوله عز من قائل: ﴿سَأَصْرِفُ عَنَ اٰيَٰتِيَ اَ۬لذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِے اِ۬لَارْضِ بِغَيْرِ اِ۬لْحَقِّ وَإِنْ يَّرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُومِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَّرَوْاْ سَبِيلَ اَ۬لرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاٗ وَإِنْ يَّرَوْاْ سَبِيلَ اَ۬لْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاٗۖ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَٰفِلِينَۖ﴾ [الأعراف: 146]، وقوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ اَضَاعُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُواْ اُ۬لشَّهَوَٰتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾[مريم: 59]، وقولة عز وجل: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنَ اَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَو۪يٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطاٗۖ﴾ [الكهف: 28].

وفي هذا السياق يقول ابن عطاء السكندري: “كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته”.

_ التحلية: ومعناها الاجتهاد في إكساب النفس الفضائل، وإعمار القلب بالإيمان وشعبه، وذلك بتحصيل المقامات الإيمانية، والترقي في مدارج الإحسان.

قال ﷺ: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[5].

وسبيل هذا الترقي الحرص على الفرائض والمحافظة عليها، والاجتهاد في النوافل والمداومة عليها.

_ التجلية: ومما يعين على ذلك التخلق بأسماء الله تعالى، بفهم المراد بها ابتداء، وتمثل معانيها وامتداداتها.

قال تعالى: ﴿وَلِلهِ اِ۬لَاسْمَآءُ اُ۬لْحُسْن۪ىٰ فَادْعُوهُ بِهَاۖ﴾ [الأعراف: 180]، وقال ﷺ: “إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة[6]. ويعني الإحصاء عدها، وفهمها، والعمل بمقتضياتها.

قال الخطابي: “الإحصاء في هذا يحتمل وجوها؛ أظهرها العد لها حتى يستوفيها، يريد أنه لا يقتصر على بعضها، لكن يدعو الله بها كلها، ويثني على الله بجميعها، فيستوجب بذلك الموعود عليها من الثواب.

والوجه الآخر: أن معنى الإحصاء فيها: الإطاقة: قال الله تعالى: ﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ [المزمل: 18] أي: لن تطيقوه.

وقال النبي ﷺ: (استقيموا ولن تحصوا) أي: لن تطيقوا أن تبلغوا كنه الاستقامة، ولكن اجتهدوا في ذلك مبلغ الوسع والطاقة، والمعنى: أن من أطاق القيام بحق هذه الأسماء، والعمل بمقتضاها، وهو بان يعتبر معانيها، فيلزم نفسه مواجبها، وإذا قال: الرزاق وثق بالرزق، ويرجو رحمته

إذا قال: الرحيم، ومغفرته إذا قال: الغفار، ويعلم أن الخير والشر منه لا شريك له إذا قال: الضار النافع، وعلى هذا المثال في سائر الأسماء.

وفيه وجه ثالث: وهو أن يكون معناه، من عقلها أحاط علما بمعانيها من قول العرب: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة”[7].

وبناء على ما تقدم، يتعين على المبلغين أن يولوا اهتماما أكبر لموضوع الهجرة بهذا المعنى، بإثارته في الخطب والمواعظ ومختلف المناسبات الدعوية، لأنه السبيل الوحيد للصلاح والإصلاح كما قال رب العزة: ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْۖ﴾ [الرعد: 12].

1_ سيرة ابن هشام 1/486، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية 1375هـ – 1955م.

 أخرجه الترمذي في سننه، وفي رواية أحمد: “إنما النساء شقائق الرجال”. _[2]

متفق عليه.  _[3]

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.   _[4]

 أخرجه مسلم في صحيحه، وعند البخاري:” الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان”._[5]

 متفق عليه._[6]

13_ أعلام الحديث 2/ 1342_1343، مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، الطبعة الأولى 1409هـ_ 1988م.


At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)