You may also like
Page 1 of 5
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها السادة الأئمة الفضلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سعيد بالتواصل معكم مرة أخرى؛ لنتذاكر حول بعض السور القصيرة، تتميما لما بدأناه في الدرس السابق عن سور الهمزة والفيل وقريش والماعون، واقتبسنا من هداياتها ما يجلي دفاعها عن النبي ﷺ، وإن كان القرآن كلها مدافعا ومحاججا عن النبي ﷺ، بشكل واضح وجلي.
ونتابع اليوم الكلام مبتدئين بـ:
الهداية الأولى: مضامين سورة “الكوثر”.
تهدي سورة الكوثر، وهي أقصر سورة في القرآن الكريم، إلى ما مَّن الله تعالى به على الحبيب المصطفى ﷺ، من العطاء اللامحدود، ومن الحماية والدفاع عنه ضد أعدائه والمستهزئين به ﷺ، فقال جل شأنه: ﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَٰكَ اَ۬لْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرِۖ اِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَ۬لَابْتَرُۖ﴾ [الكوثر: 1-3].
تذكر كتب التفاسير أن العاص بن وائل قال لقريش: دعوه فإنه أبتر لا عقب له، إذا مات استرحتم؛ فأنزل الله تعالى هذه السورة تسلية للنبي ﷺ، وموعدة للعاص بالبتر، وذلك ما وقع فعلا في بدر، حيث أحق الله الحق وأبطل الباطل.
والتعبير ب﴿إِنَّآ﴾ المفيدة للتعظيم قرينة النصرة والعطاء الكثير الذي من الله تعالى به على نبيه محمد ﷺ، وفيه تعريض بقريش اللَّامِزين للنبي ﷺ والمحتقرين له ولأصحابه.
فقول العاص: إنه أبتر، يقصد أن النبي ﷺ، لم يعش له الأولاد الذكور، بل ماتوا جميعا في الصغر، فعرَّض بهم القرآن مبينا أن العطاء ليس محصورا في الأولاد، بل النبوة أعظم عطاء والهداية والتوفيق والإيمان والرضى بحكم الله في خلقه، هذه كلها عطاءات لا يعرف المشركون السبيل إليها، ثم تفرع عنها ما خص به النبي ﷺ، دون غيره من شرح الصدر ورفع الذكر والتيسير بعد العسر والإيواء بعد اليتم والغنى بعد الفقر، وغير ذلك مما فصلت فيه سور أخرى كالضحى والشرح والعلق وغيرها.
والكوثر قيل في معناه واد في الجنة، كما ورد في صحيح البخاري عن أبي عبيدة، عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَعْطَيْنَٰكَ اَ۬لْكَوْثَرَ﴾؛ قالت: «نهر أعطيه نبيكم ﷺ، شاطئاه عليه درّ مجوّف، آنيته كعدد النّجوم»[1].
وقيل في معناه الكوثر الخير الكثير، فهو صفة على وزن فَوْعَل بزيادة الواو، من الكثرة زيدت فيه الواو للمبالغة في التكثير، وكلا المعنيين صحيح، فالكوثر الذي في الجنة من جملة العطايا الربانية للرسول ﷺ، وغيرها كثير.
وفي قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرِۖ﴾ بيان لوجوب شكر النعم، على عكس ما فعل الذين في الماعون من نكران الجميل والصد عن السبيل، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة لذكر صفة الرب المنبئة عن الرعاية والحفظ وضمان المزيد من الإمداد.
والمراد بالصلاة هنا المعنى العام الشامل لكل معاني الصلاة من الذكر والدعاء والخضوع والمناجاة، كما يشتمل معنى النحر كذلك على أن تكون سائر الذبائح والنسك لله تعالى، كما في قوله سبحانه: ﴿قُلِ اِنَّ صَلَاتِے وَنُسُكِے وَمَحْي۪آےْ وَمَمَاتِيَ لِلهِ رَبِّ اِ۬لْعَٰلَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُۖ وَأَنَآ أَوَّلُ اُ۬لْمُسْلِمِينَۖ﴾ [الأنعام: 164-165].
فالصلاة هنا أعم من أن تكون خاصة بالفريضة أو بالعيد، ومن ذهب من المفسرين إلى أنها صلاة مُعَيَّنة كالعيد مثلا لورود ذكر النحر بعدها؛ فإنما فسرها ببعض ما تعني من المعاني، وهذا في تفسير القرآن الكريم كثير.
ولكن المهم فيها هو التقابل بين جود الله تعالى وكرمه وبين طاعة العبد والاعتراف لربه بالجميل، وهذا هو المراد كما قال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِےٓ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِے وَلَا تَكْفُرُونِۖ﴾ [البقرة: 151].
والشانئ هو العدو المبغض والمراد به العاص بن وائل كما سبق، والأبتر في الأصل الجمل المقطوع الذنب، وكني به عمن لا عقب له، والنبي ﷺ موصول العقب بذريته من آل بيته؛ كما كان موصولا بأمته التي لا يأتي عليها الزمان، باعتبارها آخر الأمم وخيرها.
ومقطوع الدابر إنما هو الكافر الذي خسر الدنيا والآخرة، وهلك في الغابرين.
ثم جاءت سورة الكافرون لتدافع عن النبي ﷺ بطريقة أخرى وأسلوب آخر مليء بالتحدي والبراءة من الشرك والكفر وأهله، وهي:
الهداية الثانية: مضامين سورة “الكافرون”.
مما تهدي إليه سورة الكافرون وتفيده البراءة من الكفر وأهله وتحديهم موجها إليهم الخطاب بعد طول انتظار لهدايتهم والإفاقة من غيهم، فقال سبحانه آمرا نبيه ﷺ بقوله: ﴿قُلْ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْكَٰفِرُونَ لَآ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَآ أَنتُمْ عَٰبِدُونَ مَآ أَعْبُدُۖ وَلَآ أَنَا عَابِدٞ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَآ أَنتُمْ عَٰبِدُونَ مَآ أَعْبُدُۖ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِۖ﴾ [الكافرون: 1-6]، قال ابن جزي: “سبب هذه السورة «أن قوماً من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وأبو جهل ونظراؤهم قالوا: يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك، اعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة؛ فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً، ونزلت السورة»، في معنى البراءة من آلهتهم، ولذلك قال رسول الله ﷺ: من قرأها برئ من الشرك“[2].
وتكرر لفظ العبادة بالمضارع والصفة لإفادة نفي عبادته ﷺ لأصنامهم حالا واستقبالا، كما نفيت عبادتهم لله تعالى حالا واستقبالا، إذا قصد بهم قوم مخصوصون ماتوا كلهم على الكفر.
وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِۖ﴾ أي لكم شرككم ولي توحيدي، فليست العبادتان سواء، وفيه مسالمة لهم بعد البلاغ وتبرئة الذمة.
وهذه السورة أشد إغاظة للشيطان لما فيها من البراءة من الكفر وأهله، وهي مع سورة الإخلاص تتضمنان معنى كلمة التوحيد، فسورة الكافرون تبرئة والإخلاص تحلية، أو الكافرون نفي لألوهية غير الله، والإخلاص إفراد الله تعالى بالتوحيد.
ولذا تجتمعان في كثير من النوافل والمواقف كالشفع والوتر والفجر وركعتي الإحرام والطواف وغيرها وقت ما شاء المسلم تأكيد إخلاصه وتوحيده لله تعالى صلى بهما.
الهداية الثالثة: مضامين سورة “النصر”.
سورة النصر سورة مدنية، وهي آخر سورة نزلت جملة، كما يقول العلماء، وتحمل في طياتها مجموعة من البشائر للرسول ﷺ، منها النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا، وبهذا تحقق الدفاع عن النبي ﷺ ونصرته، فقال جل شأنه: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اُ۬للَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ اَ۬لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِے دِينِ اِ۬للَّهِ أَفْوَاجاٗ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُۖ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّاباٗۖ﴾ [النصر: 1-3].
يقول العلماء: النصر نصر بدر، والفتح فتح مكة، والدخول في دين الله أفواجا كان عام الوفود، وهي ثلاث مراحل كبرى في حياة الدعوة الإسلامية تمثل مفاصلها الكبرى. ففي بدر أعز الله المسلمين بنصره، فكان لهم شأن، وبالفتح طويت صفحة الصراع مع قريش فدانت بالإسلام العرب، وتوافدوا على المدينة معلنين إسلامهم.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لـِمَ تُدخِل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه مَن قد علمتم، فدعاه ذات يوم، فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اُ۬للَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا، وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا؛ فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: «هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه له» قال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ اُ۬للَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، «وذلك علامة أجلك»، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُۖ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّاباٗۖ﴾، فقال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تقول»[3].
وهذا يدل على أن لها معنيين: ظاهرا وهو ما فهمه البدريون، وباطنا وهو ما فهمه ابن عباس، فكلاهما على الصواب فيما قال، ولكن عمر أراد أن يبين لهم لماذا يدخل عليهم حبر الأمة وترجمان القرآن، رضي الله عنهم جميعا.
وفي البخاري أيضا عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن»[4].
تعني بقولها: يتأول القرآن يطبق ما جاء في السورة من الأمر بالتسبيح والتحميد والاستغفار: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُۖ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّاباٗۖ﴾.
الهداية الرابعة: مضامين سورة “المسد”.
يتجلى الدفاع عن النبي ﷺ في سورة المسد أكثر، ويأخذ بعدا أقوى في التهديد والتسمية والوعيد المحقق بالنار لأبي لهب وامرأته.
وذلك لما صدر منهما من شدة الإيذاء وفحشه، والصد عن دعوة الرسول ﷺ وتكذيبه، مع كون المؤذي عما للنبي ﷺ وقريبه، وفي هذا المعنى قال الشاعر:
وظُلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
تذكر كتب الحديث والسيرة أن سبب نزول هذه السورة هو: أن النبي ﷺ خرج إلى البطحاء، فصعد إلى الجبل فنادى: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقال: «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مُصبحكم أو مُمسيكم، أكنتم تصدقوني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا تبا لك، فأنزل الله عز وجل: ﴿تَبَّتْ يَدَآ أَبِے لَهَبٖ وَتَبَّۖ﴾ [المسد: 1] إلى آخرها[5].
وفي السورة من الإعجاز القرآني والبيان الرباني الشيء الكثير، فأسلوبها خاص ومفرداتها لم تشتركها مع أي سورة أخرى، وتحديها لأبي لهب بكونه سيصلى نارا لا يستطيع تجاوزها، والحكم على يديه أولا بالهلاك؛ ثم على نفسه كلها ثانيا دليل على خطورة النيل من رسول الله ﷺ، ومن تكذيبه.
وكذلك الحكم على امرأته حمالة الحطب بالجزاء من جنس العمل، لما كانت تلقيه من الشوك في طريق رسول الله ﷺ، بحيث تطوق في جيدها بحبل من المسد في النار، وهذا على سبيل التقريب، والحقيقة أمر فظيع لا يتصور في عالم الدنيا.
أيها السادة الأئمة الفضلاء هذه بعض الهدايات والإفادات التي يمكن تناولها في هذه السور، والكلام فيها لا يستقصى، وإنما اكتفينا بما تيسر حفاظا على وقتكم واتكالا على فهمكم للإشارات، وقدرتكم على بلوغ النهايات.
والله ولي التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]– صحيح البخاري كتاب التفسير تفسير سورة الكوثر، (6/178).
[2] -التسهيل لعلوم التنزيل، (6/603).
[3]– صحيح البخاري كتاب التفسير سورة النصر، (6/179).
-[4] صحيح البخاري كتاب التفسير سورة النصر (6/178).
[5] -صحيح البخاري كتاب التفسير سورة المسد (6/180).
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.