بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة ليوم 5 ربيع الأول 1447هـ الموافق لـ 29 أغسطس 2025م
“الحث على أداء حقوق الغير والتحذير من إضاعتها”
الحمد لله حق حمده، جعل الحقوق متبادلة بين عباده أجمعين، وأوصى بها في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين، نحمده جل وعلا، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة صدق ويقين، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأخيار الطيبين، وعلى الصحابة الأبرار الميامين، وعلى التابعين لهم في أداء الحقوق والمحافظة عليها في سائر الأمصار والأعصار وفي كل وقت وحين.
أما بعد؛ أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات،
إن مما تهدف إليه “خطة تسديد التبليغ” تذكير الناس بما يجب من ترسيخ مبدأ أداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق، فبالحرص عليه تكون النفوس مطمئنة، وتعيش على أساسه حياة طيبة كما وعدها الله في محكم تنزيله؛ وأداء حقوق الغير من الواجبات الدينية الكبرى التي نصت عليها الأحاديث النبوية، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»[1].
فمن حق المسلم على المسلم أداء الأمانة وعدم الخيانة، حتى ولو تَعرَّض لها ممن لا يخاف الله، إذ ليس من الإسلام ولا من المروءة معاملة المسيء بالمثل، وإنما معاملته بالحسنى، كما قال جل وعلا:
«وَلَا تَسْتَوِے اِ۬لْحَسَنَةُ وَلَا اَ۬لسَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَ۬لذِے بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»[2].
ومن المعاملة الحسنة في الأخذ والعطاء أداء الحقوق والقيام بالواجبات وذلك من أهم خصال الإسلام بعد التوحيد وأداء الأركان.
روى البخاري وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، فكان أبو الدرداء رضي الله عنه يسرد الصيام، ويتابع القيام. فقال له سلمان:
«إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذى حق حقه. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك. فقال له:
« صدق سلمان»[3].
في هذا الحديث ذكر سلمان الفارسي رضي الله عنه، مجموعة من حقوق الغير، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، على ذلك بقوله: “صدق سلمان”.
من هذه الحقوق حق الله تعالى في العبادة والإخلاص فيها، مع ما يقتضي ذلك من العمل الصالح والإتقان فيه، ومنها حق النفس في الراحة وعدم إرهاقها وحملها على ما لا تطيق، ومنها حق الضيف من الإكرام وحسن ضيافته على قدر المستطاع، ومنها حق الأهل في المعاشرة بالمعروف، والنفقة والسكنى وغير ذلك من الحقوق المبسوطة في محلها، وختم رضي الله عنه هذه المذكورات على سبيل التمثيل بقوله: “فأعط لكل ذي حق حقه”. فجعلها قاعدة تقال على سبيل التوصية بأداء حقوق الغير: (أعط لكل ذي حق حقه).
وأنواع الحقوق المترتبة على الذمم متعددة ومتنوعة، منها حقوق معنوية كحسن الظن بالناس، واحترامهم، ومعاملتهم بالحسنى، وستر أعراضهم وعوراتهم، وذكرهم بالجميل، ومنها حقوق مادية؛ كحقوقهم المترتبة على بعضهم في البيع والشراء والجوار والزواج وسائر المعاملات، فيجب الوفاء بها حسب المتفق عليه بين الطرفين المتعاملين بها، ثم حقوق المجتمع والوطن، ويظهر ذلك في حب الوطن وأداء حقوقه المادية والمعنوية، والتفاني في خدمته، والسعي في تنميته، كل في موقعه ومسؤوليته، وعدم السماح بالنيل منه من أي كان، ووجوب الدفاع عنه والاستماتة في حمايته في سائر الأحوال.
ومسك ختام الحقوق؛ حق ولي الأمر مولانا أمير المؤمنين في الوفاء له بالبيعة والسمع والطاعة والمحبة له، وجمع الكلمة حوله، والسير في ركابه في المنشط والمكره، والدعاء له بالنصر والتمكين.
يقول الفضيل بن عياض والحسن البصري وغيرهم من علماء الأمة وأولياؤها،
“لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ إذ بصلاحه صلاح البلاد والعباد”[4].
عباد الله؛ هكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان حقيقة الإسلام، وعملوا على هذا الأساس، في جعل حياتهم عبادةً في كل ما يأتون وما يذرون، ولا يتركون أحدا منهم يختزل العبادة في مظاهر الصلاة والصيام ونحوهما، بل ينبهونه كما فعل سلمان رضي الله عنه، على الإسلام المتوازن في إسداء الحقوق لأربابها، فعاشوا بذلك حياة طيبة، ملؤها النصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وحجة الله على العالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله؛ مما سبقت الإشارة إليه ندرك أن الحقوق متبادلة بين العباد، وأنه يجب على كل واحد منا أداء ما أسند إليه من الحقوق على وجه اللزوم، فيما بينه وبين والديه، وبينه وبين أهله، وبينه وبين أقاربه، وبينه وبين جيرانه، وتتسع الدائرة حتى تسع الناس جميعا. كما قال الحق سبحانه:
«وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِۦ شَيْئاً وَبِالْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰناً وَبِذِے اِ۬لْقُرْب۪ىٰ وَالْيَتَٰم۪ىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَالْج۪ارِ ذِے اِ۬لْقُرْب۪ىٰ وَالْج۪ارِ اِ۬لْجُنُبِ وَالصَّٰحِبِ بِالْجَنۢبِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتَ اَيْمَٰنُكُمُۥٓ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً»[5].
فلم تترك هذه الآية أحدا من الناس، بعد حق الله تعالى في العبادة والإخلاص فيها، إلا أدخلته مسلما كان أو غيره وأعطته حقه في الإحسان إليه والبرور به.
ومن أهم ما تجب التوصية به، والحرص على القيام به على أحسن وجه وأكمله، ما أسند إلى كل واحد منا من المسؤوليات والمهام، فهي من الحقوق العظام ، فيجب على العلماء توعية الناس وإرشادهم، فهذا حقهم عليهم، كما يجب على المدرسين تعليم أبناء المسلمين، وأن يتقوا الله تعالى فيهم، فيعلموهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلى أساس ثوابت الأمة واختياراتها، ليكون على أتم الاستعداد لتحمل المسؤوليات في المستقبل، كما يجب على المسؤولين عن صحة المجتمع الوفاء له، والقيام بما يجب القيام به لفائدة صحة المواطنين والمواطنات، بكل إخلاص وتفان، كما يجب على التجار وأرباب الأموال أن يعملوا على أداء الأمانات واجتناب الغش، والبعد عن أكل أموال الناس بالباطل في المعاملات، ويجب على الموظفين في سائر القطاعات العمل بتفان وإتقان ابتغاء مرضاة الله فيما وُكِّل إليهم من المهام، وعلى كل من كان بميدان من ميادين الوطن المادية والمعنوية، أن يحس إحساسا كبيرا بمسؤوليته العظمى في موقعه، حتى يؤديها على أتم وجه وأكمله، ولا تؤتيَنَّ الأمة من قِبَله.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ووفقنا لأداء ما طوق أعناقنا من الحقوق والواجبات، ويسر لنا القيام فيها بما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على أفضل من عاهد فوفى، سيدنا محمد النبي المصطفى، وعلى آله الطيبين الشرفاء، وصحابته الحنفاء، وخصوصا ساداتنا الخلفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصحب والتابعين لهم في الإخلاص والوفاء.
وانصر اللهم بنصرك المبين مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمدا السادس، ووفقه اللهم لما تحب وترضى، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشد أزره بشقيقه السعيد، الأمير الجليل مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
وارحم اللهم بواسع رحمتك وكريم جودك، مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك.
وارحم اللهم موتانا وموتى المسلمين، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم أدِّ عنا لكل ذي حق حقه، فأنت الغني ونحن الفقراء، وأسبغ علينا سوابغ فضلك، فأنت الجواد الكريم تحب الكرماء.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
[1] . سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده 5/394. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث النبوي الشريف: 7473.
[2] . فصلت 33.
[3] . صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر، 3/38.
وسنن الترمذي، واللفظ له، أبواب الزهد 4/608.
رقم الحديث بالمنصة: 5987.
[4] . ابن عساكر، تاريخ دمشق 52/60.
[5] . النساء 36.