النسخة المكتوبة
انطلاقا من قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَۖ} [البقرة: 154-156].
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.
أما بعد فيا أيها السادة الأئمة الفضلاء.
حديثي معكم اليوم سيكون حول التزام الصبر الجميل عند البلاء،
وذلك انطلاقا من قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَۖ} [البقرة: 154-156].
وسنتناول هذه الآيات من خلال خمس وقفات:
1- الوقفة الأولى: تتعلق بقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ}.
قال الإمام البغوي: “قوله تعالى: (ولنبلونكم) أي ولنختبرنكم يا أمة محمد، واللام لجواب القسم تقديره واللهِ لنبلونكم، والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي، لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به، (بشيء من الخوف).
قال ابن عباس: “يعني خوف العدو”، (والجوع) يعني القحط، (ونقص من الاموال) بالخسران والهلاك، (والانفس) يعني بالقتل والموت، وقيل بالمرض، (والثمرات) يعني الجوائح في الثمار.
وحكي عن الشافعي أنه قال: “الخوف خوف الله تعالى، والجوعُ صيامُ رمضان، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات، والأنفس الأمراض، والثمرات موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه”[1]، انتهى كلامه.
فقوله سبحانه: {بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ} أي “ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات، ليَظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنُرتِــب الثوابَ على الصبرِ والثباتِ على الطاعة، ونرتب العقابَ على الجزعِ وعدمِ التسليم لأمر الله تعالى.
ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب، وحدث لهم جوع أليم بسبب هجرتهم من أوطانهم، وقلة ذات يدهم حتى لقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشد الحجر على بطنه، وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله، وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم، ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانا وتسليما لقضاء الله وقدره، واستمساكا بتعاليم دينهم، وهذا البلاء وتلك الآلام لا بد منها ليؤديَ المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تَــعِز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف، إذ العقائد الرخيصة التي لا يؤدى أصحابها تكاليفها لا يعِزُ عليهم تركها عند الصدمة الأولى، وليعلم من جاء بعدهم من المؤمنين إذا ما أصابتهم مثلُ هذه الأمور أن ما أصابهم ليس لنقصانٍ من درجاتهم، وحطٍ من مراتبهم، فقد أصيب بمثل ذلك أو أكثر من هم أفضل منهم وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم”[2].
فالابتلاء هو الذي يظهر حقيقة إيمان الإنسان، يُبتلى في هذه الأمور الأساسية وفي غيرها ليُعرف حقيقةَ ما يدعيه.
2- الوقفة الثانية: مع كلمة (بشيء) في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ…}
يقول الإمام ابن عاشور: “وجِيءَ بِكَلِمَةِ شَيْءٍ تَهْوِينًا لِلْخَبَرِ المُفْجِعِ، وإشارَةً إلى الفَرْقِ بَيْنَ هَذا الِابْتِلاءِ وبَيْنَ الجُوعِ والخَوْفِ اللَّذَيْنِ سَلَّطَهُما اللَّهُ عَلى بَعْضِ الأُمَمِ عُقُوبَةً، كَما في قَوْلِهِ ﴿فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [النحل: 112]، ولِذَلِكَ جاءَ هُنا بِكَلِمَةِ شَيْءٍ وجاءَ هُنالِكَ بِما يَدُلُّ عَلى الملابَسَةِ والتَّمَكُّنِ، وهو أنِ اسْتَعارَ لَها اللِّباسَ اللّازِمَ لِلّابِسِ، لِأنَّ كَلِمَةَ ”شَيْءٍ“ مِن أسْماءِ الأجْناسِ العالِيَةِ العامَّةِ، فَإذا أُضِيفَتْ إلى اسْمِ جِنْسٍ أوْ بُيِّنَتْ بِهِ عُلِمَ أنَّ المُتَكَلِّمَ ما زادَ كَلِمَةَ شَيْءٍ قَبْلَ اسْمِ ذَلِكَ الجِنْسِ إلّا لِقَصْدِ التَّقْلِيل”[3].
فالحمد لله الذي يبتلينا بشيء من الخوف والجوع وشيء من النقص في الأموال والأنفس والثمرات، ولا يبتلينا بالخوف كله والجوع كله ولا يبتلينا بفقدان الأموال والأنفس والثمرات.
3- الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: {وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ}
“والمعنى: وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإحسان الجزيل، أولئك الصابرين الذين من صفاتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة، في أنفسهم، أو أموالهم، أو أولادهم، أو غير ذلك…
وهذه الجملة الكريمة وهي قوله- تعالى-: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ…} إلخ وصف كريم لأولئك الصابرين، لأنها أفادت أن صبرهم أكمل الصبر، إذ هو صبر مقترن ببصيرة مستنيرة جعلتهم يقرون عن عقيدة صادقة أنهم مُلك لله يتصرف فيهم كيف يشاء، ومن ربط نفسه بعقيدة أنه ملك لله وأن المرجع إليه، يكون بذلك قد هيأها للصبر الجميل عند كل مصيبة تفاجئه”[4].
4- الوقفة الرابعة: قوله تعالى: {قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ}
“والمعنى أنهم قالوا: بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله والرضا بقدره «إِنَّا لِلَّهِ» أي: إنا لله ملكا وعبودية، والمالك يتصرف في ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء، «وإنا إليه راجعون» أي: وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التي ليس في استطاعتنا دفعها.
فقولهم: {إِنَّا لِلَّهِ} إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين.
وقولهم: {وإنا إليه راجعون} إقرار بصحة البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.
وليست هذه البشارة موجهة إلى الذين يقولون بألسنتهم هذا القول مع الجزع وعدم الرضا بالقضاء والقدر، وإنما هذه البشارة موجهة إلى الذين يتلقون المصائب بالسكينة والتسليم لقضاء الله لأول حلولها، يشير إلى هذا قوله-تبارك وتعالى-: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإصابة ويصرح بهذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصبر عند الصدمة الأولى»[5]“[6].
قال القرطبي: جعل الله هذه الكلمات وهي قوله-تبارك وتعالى-: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتَحنين، لما جمعت من المعاني المباركة.
قال سعيد بن جبير: لم تُعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: {يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُف} [يوسف: 84][7].
هذا، ولا يتنافى مع الصبر ما يكون من الحزن عند حصول المصيبة، فقد ورد في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»[8].
وإنما الذي ينافيه ويؤاخَذُ الإنسان عليه، الجزعَ المفضى إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء، أو إلى فعل ما حرمه الإسلام من نحو النياحة وشق الجيوب، ولطم الخدود”[9].
5- الوقفة الخامسة: قوله تعالى: {أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَۖ}
قال الإمام ابن عاشور: “هَذا بَيانٌ لِجَزاءِ صَبْرِهِمْ، والصَّلَواتُ هُنا مَجازٌ في التَّزْكِياتِ والمغْفِرات، ولِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْها الرَّحْمَةُ الَّتِي هي مِن مَعانِي الصَّلاةِ مَجازًا في مِثْلِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56[، وحَقِيقَةُ الصَّلاةِ في كَلامِ العَرَبِ أنَّها أقْوالٌ تُنْبِئُ عَنْ مَحَبَّةِ الخَيْرِ لِأحَدٍ، ولِذَلِكَ كانَ أشْهَرُ مَعانِيها هو الدُّعاء.
وقَوْلُهُ ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ بَيانٌ لِفَضِيلَةِ صِفَتِهِمْ إذِ اهْتَدَوْا لِما هو حَقُّ كُلِّ عَبْدٍ عارِفٍ فَلَمْ تُزْعِجْهُمُ المَصائِبُ ولَمْ تَكُنْ لَهم حاجِبًا عَنِ التَّحَقُّقِ في مَقامِ الصَّبْرِ، لِعِلْمِهِمْ أنَّ الحَياةَ لا تَخْلُو مِنَ الأكْدارِ، وأمّا الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا فَهم يَجْعَلُونَ المَصائِبَ سَبَبًا في اعْتِراضِهِمْ عَلى اللَّهِ أوْ كُفْرِهِمْ بِهِ أوْ قَوْلِ ما لا يَلِيقُ أوْ شَكِّهِمْ في صِحَّةِ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الإسْلامِ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ هَذا هو الدِّينَ المَرْضِيَّ لِلَّهِ لَما لَحِقَنا عَذابٌ ومُصِيبَةٌ، وهَذا شَأْنُ أهْلِ الضَّلالِ الَّذِينَ حَذَّرَنا اللَّهُ أمْرَهم بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى ومَن مَعَهُ﴾ ]الأعراف: 131]، وقالَ في المُنافِقِينَ ﴿وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ ]النساء: 78[.
وخلاصة الكلام ما قاله الإمام الطاهر بن عاشور:
“والقَوْلُ الفَصْلُ أنَّ جَزاءَ الأعْمالِ يَظْهَرُ في الآخِرَةِ، وأمّا مَصائِبُ الدُّنْيا فَمُسَبَّبَةٌ عَنْ أسْبابٍ دُنْيَوِيَّةٍ، تَعْرِضُ لِعُرُوضِ سَبَبِها، وقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ سَبَبَ المُصِيبَةِ عُقُوبَةً لِعَبْدِهِ في الدُّنْيا عَلى سُوءِ أدَبٍ أوْ نَحْوِهِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ مِن عَذابِ الآخِرَةِ، وقَدْ تَكُونُ لِرَفْعِ دَرَجاتِ النَّفْسِ، ولَها أحْوالٌ ودَقائِقُ لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، وقَدْ يَطَّلِعُ عَلَيْها العَبْدُ إذا راقَبَ نَفْسَهُ وحاسَبَها، ولِلَّهِ تَعالى في الحالَيْنِ لُطْفٌ ونِكايَةٌ يَظْهَرُ أثَرُ أحَدِهِما لِلْعارِفِينَ”[10].
فاللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الصابرين عند البلاء، ومن المحتسبين عند نزول القضاء، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
آمين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] معالم التنزبل في تفسير القرآن، البغوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1/185ـ186.
[2] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1/315.
[3] التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 2/54ـ55
[4] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1/316ـ317
[5] صحيح الإمام البخاري، الطبعة السلطانية، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، 2/83، رقم الحديث 1302.
[6] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1/316.
[7] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 2/176.
[8] صحيح الإمام البخاري، الطبعة السلطانية، كتاب الجنائز، باب الصبر عند الصدمة الأولى، 2/83، رقم الحديث 1303.
[9] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1/317.
[10] التحرير والتنوير محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 2/57ـ58






