You may also like
Page 4 of 7
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
السادة الأئمة الكرام؛
جبلت النفوس على حب الشهوات وإذا لم تُلجم بلجام التقوى هجمت عليها الأماني وما فسد من الآراء، وساعة من الهوى قد تورث حزنا طويلا.
عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله ﷺ: «الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله([1])»، من دان نفسه” هو من أنصف من نفسه لنفسه. وحملها على أمر الله.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس الشديد من غلب، إنما الشديد من غلب نفسه»([2]).
إن أقوى ما يجابهه العبد في سيره إلى الله هواه ونفسه التي بين جنبيه، لأنهما يدعوانه إلى ما يحبه وإن كان في المعصية، لذلك نجد الكيِّس بالمعنى النبوي هو: من يقف عند همه واشتغاله وحركاته وسكناته؛ فإن كانت مع الله مضى فيها، وإن كانت عليه توقف، وكيف لا يفعل ذلك من يواجه يوم القيامة بمـثاقيل الذر.
إن الذي يتبع الهوى هو من تمكنت منه نفسه الأمارة بالسوء؛ تسوقه موارد الإفلاس، والذي غلب هواه وألجم نفسه هو من يعرف الحق، ويرجو فضله، وخيره، والمؤمن هو من لا يفتر لسانه على الاستعانة بربه في ذلك ويقول ما قاله رسول الله ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء»([3]).
قال معاوية بن هشام بن عبد الملك لخالد بن صفوان: «بم بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ، قال: كان أشد الناس على نفسه سلطانا».
والسلطان على النفس يكون بحفظ الهم، وبحفظ الهم يحفظ ما بعده فمن صح له همه صحت له نفسه وأفعاله وجواره وأحواله.
إن أسُس ولادة الهوى إنما يكون من خَطِرة شر فإن رجع العبد إلى ربه ذهبت وإلا تولد منها فكرة فإن تداركها رجعت، وإلا خالطت الوسوسة الفكرة فتولدت الشهوة، فإن غالبها رجعت وإلا تولد منها الطلب، فإن تداركها وإلا كان فعل الجوارح، ومن راقب ربه في الوساوس والخواطر، وكّف عن العزم بقلبه؛ عصمه الحق سبحانه من فعل الجوارح، والمراقبة هنا مقرونه بالإفلات والعطب لازم مع الغفلة.
والمؤمن لا يقوى على نزع خواطره كلية، ولكن تعينه طهارة نفسه وملء قلبه بذكر الله، فيحوّل بذلك الخواطر إلى أسس مقوية للإيمان، قال الصحابة يوما لرسول الله ﷺ: «إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه، قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان»([4])
وفرحة الإنسان بالهوى وسكون نفسه إليه أقوى من الذنب الـذي جره إليه هواه، وذلك لأن عظيم الذنب أن لا يضطرب قلبك من الخوف ممن هتكت باب الحياء معه، فيتحول ذلك الهوى إلى هوان حذف اسمه كما ذكر عبد الله بن المقفع.
قال عمر بن عبد العزيز: «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس»، والهوى يدفع صاحبه إلى التفريط وسوء الأدب والعبد مأمور في رد ذلك وعدم مشاركة هواه في الإفساد.
ومنهم من فسر قول الحق تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماٗۖ﴾ [النساء: 29].
لا تغفلوا عن أنفسكم فإن من غفل عن نفسه فقد قتلها، والعمى عن عيوب النفس أكبر العمى، ومن غلبه هواه أحكمت على قلبه المغاليق؛ فلا ينعم بالذكر، ولا يبلغ به مبلغ اليقظة، ومن غلب هواه؛ حظي بالقرب من مولاه.
عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله ﷺ: «عجب ربنا من شاب ليس له صبوة»([5]). وقد أحب الناس الصالحينَ لأنهم تغلبوا على أهوائهم.
“وقد يغلب الإنسان هواه فلا يَفِيقُ إلا بعد فوات الزمان، ويظهر ذلك في الجوارح التي تظهر عليها الأنوار إن هي امتلأت بالحق، وتغشاها الظلمات إن هي امتلأت بالباطل متبعة للهوى” والقلب المأسور بحُبّ الهوى يُحجب عن الفضائل ويسقم سقما بالذنوب فلا ينتفع بالعبادات وثمراتها، قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي، قال له: أذِبْه بالذكر.
تَعدو الذِئابُ عَلى مَن لا كِلابَ لَهُ | وَتَتَّقي مَربضَ المُستَأسد الحامي |
إن طبيعة هذه النفس لا يحفظها ولا يصونها إلا الذكر ولا يتلفها إلا الهوى، وحمايتها إنما تكون بطهارتها ومدافعتها وممانعتها وحمايتها وحراستها.
قال الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: ﴿اَرَٰٓيْتَ مَنِ اِ۪تَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَو۪يٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاًۖ﴾ [الفرقان: 43]؛ اسْتِئْنَافٌ خُوطِبَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ فِيمَا يَخْطُرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُزْنِ عَلَى تَكَرُّرِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ، إِذْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى هُدَاهُمْ وَالْإِلْحَاحِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مِثْلَهُمْ لَا يُرْجَى اهْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَوَاهُمْ إِلَهَهُمْ، فَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ ﷺ ([6]).
إنه حين يفقد الإنسان طهارة نفسه قد يتخذ من كل محبوباته الدنيوية آلهة تصده عن ذكر الله، وقد جعل محبوباته تلك في تلك المنزلة ليس لاستحقاقها إياها، وإنما لغلبة الهوى.
وهذه الآية أصل في التحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم، ويتركوا اتباع أدلة الحق؛ فإذا كان الحق محبوبا لأحد فذلك من التخلق بمحبة الحق تبعا للدليل، مثل ما يهوى المومن من الصلاة والجماعة وقيام رمضان وتلاوة القرآن، وفي الحديث «أرحنا بها يا بلال»([7]) يعني إقامة الصلاة وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ قال: «لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»)([8]).
عن أبي الدرداء: «إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه؛ فإن كان علمه تبعا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح».
والهوى سبب من أسباب أخرى تمنع الناس، وتبعدهم عن تمثل الإسلام كما أراده الله عزوجل، تمثل يفضي إلى إفساد الجوارح والقلوب “ولا يصلح لخلافة الله تعالى ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسه ونجسه، فللنفس نجاسة كما للبدن نجاسة، ولكن نجاسة البدن تدرك بالبصر، ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة، وإنما لم يصلح لخلافة الله إلا من كان طاهر النفس لأن الخلافة هي الاقتداء به على قدر طاقة البشر”([9]).
إن طهارة النفس من كل ما يدنسها ويكدّر صفوها تكون بمخالفة الهوى، وذلك مقصد من المقاصد الشرعية، وكان سيدنا رسول الله ﷺ يطلب ذلك من ربه حين أوصى «يا شداد بن أوس إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة فأكثر هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم وأنت علام الغيوب»([10]).
إن النفس الطاهرة هي من تواظب على فعل القربات وترك المعاصي، تسعى لفعل الخير وتأمر صاحبها بكل ماهو خيّر لا يشغلها عن ذكر الله تعالى عائق، تطمئن بذكره ولا تغفل عنه ﴿اِ۬لذِينَ يَذْكُرُونَ اَ۬للَّهَ قِيَٰماٗ وَقُعُوداٗ وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِے خَلْقِ اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِۖ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلاٗ سُبْحَٰنَكَۖ فَقِنَا عَذَابَ اَ۬لنّ۪ارِۖ﴾ [آل عمران: 191]. بارك الله لي ولكم فيما استمعنا إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم رحمة الله تعالى وبركاته.
([1]) مسند أحمد، رقم الحديث: 17123.
([2]) صحيح ابن حبان، ذكر الإخبار بأن الشديد الذي غلب نفسه عند الشهوات والوساوس لا من غلب الناس بلسانه، رقم الحديث: 717.
([3]) سنن الترمذي، رقم الحديث: 3591.
([4]) صحيح مسلم، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، رقم الحديث: 209.
([5]) أخرجه أحمد في مسنده 4- 151.
([6]) التحرير والتنوير: 35-19.
([7]) المعجم الكبير للطبراني، رقم الحديث: 6215.
([8]) السنة لابن أبي عاصم، بَابُ مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَوَى الْمَرْءِ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، رقم الحديث: 15.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.