جارٍ تحميل التاريخ...

ثقافة الإمام -5 – ذ. إبراهيم الوجاجي

ثقافة الإمام -5 – ذ. إبراهيم الوجاجي

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

السادة الأئمة الأفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سنتناول وإياكم في هذا اللقاء موضوع حقوق الإنسان باعتباره موضوعا جديرا بأن يوليه الإمام ما يستحق من العناية في معرفته وثقافته.

وليس المقصود من هذا العرض تناول قضية حقوق الإنسان فلسفيا أو تاريخيا، وإنما المقصود عرض بعض معالم وملامح التطور الذي تعرفه بلادنا في هذا المجال من باب أنه مما لا يسع الإمام جهله، وأنه من قبيل ما يفقه به الفقيه واقعه وسياقه.

المحور الأول: عالمية حقوق الإنسان

يعتبر مفهوم حقوق الإنسان من المفاهيم المعقدة والعميقة والمتطورة باستمرار، وقد وضع الباحثون والمتخصصون تعريفات مختلفة ومتنوعة لحقوق الإنسان وفقاً لخلفياتهم العقدية والفلسفية والإيديولوجية ومجالات اشتغالهم، حتى لخصها بعضهم في الحق في بلوغ السيرورة التي تتيح للكائن أن يصبح إنسانا.[1]

ويتفق الباحثون على شمولية حقوق الإنسان، ويعتبرونها غير قابلة للتجزئة أو المساس بها، وتجب للإنسان لكونه إنساناً وتهدف لتحقيق كرامة كل إنسان، فضلا عن أنها تشكل التزاماً قانونياً سواء على المستوى الوطني أو الدولي.[2]

وبالرجوع إلى وثائق الأمم المتحدة نجدها تعرف حقوق الإنسان بكونها حقوقا يتمتع بها الجميع لمجرد كونهم بشرا، وهي متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم، أو دينهم، أو لغتهم، أو أي وضع آخر. وهي متنوعة وتتراوح بين الحق الأكثر جوهرية، وهو الحق في الحياة، والحقوق التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش، مثل الحق في الغذاء والتعليم والعمل والصحة والحرية.

إن صياغة هذه التعريفات توجت مسارا طويلا من التنظير والنضال من أجل إقرار هذه الحقوق وحمايتها، وقد تطور التنظيم الدولي لحقوق الإنسان بشكل أساسي بعد نشأة منظمة الأمم المتحدة عام 1945، حيث تمّت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، وعد أول وثيقة قانونية تحدد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالميا. ويشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى جانب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

ونظرا لإضفاء صفة العالمية على هذا الإعلان وعلى التشريعات المنبثقة منه، فإن بعض الدول تتحفظ على بنود من الاتفاقيات التي تنضم إليها وتصادق عليها، لاسيما الدول الإسلامية التي يتأسس تصورها لحقوق الإنسان على دين الإسلام الذي تزخر فيه نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والسيرة النبوية العطرة بالقيم والمعاني السامية لتكريم الإنسان وحريته في إطار منظومة حقوقية ربانية تسعد الإنسان فردا ومجتمعا في دنياه وأخراه، وقد بنى الفقه الإسلامي مناهجه وأحكامه ونوازله وفتاواه على هذه القيم القطعية الخالدة التي انتفع بها المسلمون وغيرهم، وكان التاريخ شاهدا على ذلك.

وفي عصرنا الحاضر تفاعل المسلمون مع مسألة حقوق الإنسان، وأسهموا في التنظير لهذه الحقوق، وعرفوا بالتصور الإسلامي وريادته، وصاغوا ذلك في وثائق ومعاهدات وبيانات وإعلانات وقرارات صادرة عن مؤسسات رسمية وغير رسمية تهدف إلى إقرار حقوق الإنسان وحمايتها، نذكر من بينها:

  • البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان،الصادر عن المجلس الإسلامي الأوربي في لندن سنة 1980.
  • إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام سنة 1990[3]
  • عهد حقوق الطفل في الإسلام بصنعاء 2005[4]

المحور الثاني: دسترة حقوق الإنسان ببلادنا

في سياقنا المغربي بدأت العناية بحقوق الإنسان لدى النخبة من خلال المسودة الأولى لاقتراح دستور مغربي عام 1904[5] حيث كانت بعض مفردات وعبارات هذا المشروع ذات نفس حقوقي من قبيل مساواة الجميع أمام الضريبة، والتوظيف بحسب الاستحقاق والنزاهة.

وتكرس هذا التوجه بوضوح في مشروع دستور 1908 الذي أقر جملة من الحقوق المدنية السياسية، ولم يكتف هذا المشروع بالتنصيص على الحقوق، بل وضع حتى الوسائل الأساسية لحمايتها، وهو ما شكل آنذاك بادرة في اتجاه دسترة الحقوق والحريات ونقلها من مجال الشريعة إلى مجال القانون الوضعي.[6]

وبعد الاستقلال اعتبر العهد الملكي، الذي صدر في شكل خطاب موجه إلى الأمة، بمثابة قانون أساسي، وتضمن هذا العهد مجمل الخطوط التي سيعمل على إبرازها فيما بعد قانون الحريات العامة[7]، وقد رسم العهد الملكي الإطار الذي يجب أن تمارس داخله حقوق الإنسان في المغرب، والمتمثل في نظام الملكية الدستورية، كما حدد المبادئ التي يجب أن تسير وفقها هذه الحقوق والحريات.[8]

وتكريسا لهذا التوجه، وفي عام 1958 صدر ظهير الحريات،[9] ثم أعقبه القانون الأساسي للمملكة الصادر في يونيو 1961، الذي نص على عدد من الحقوق والحريات العامة في جوانبها المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وفي عام 1962 تم إقرار أول دستور للبلاد تضمن الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وعزز ما جاء في ظهير الحريات العامة، وتم تكريس هذا التوجه في تعديل 1970 وتعديل 1972.

وبعد عقدين جاء دستور 1992 لينص في ديباجته على أن المملكة المغربية تؤكد تشبتها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، فأصبح المغرب ملتزما بتطبيق الحقوق المنصوص عليها في الديباجة، وبالاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتم تعزيز هذا الاختيار في دستور 1996، حيث تضمن الباب الأول منه جملة من الأحكام العامة والمبادئ الأساسية المتعلقة بالمقتضيات الخاصة بحقوق الإنسان، التي وردت على سبيل الإقرار والضمان.

المحور الثالث: تطور حقوق الإنسان بالمغرب

منذ تولي جلالة الملك محمد السادس العرش أولى حفظه الله عناية فائقة لحقوق الإنسان، ففتح صفحة جديدة بإحداث هيئة الإنصاف والمصالحة كآلية للعدالة الانتقالية، من أجل تسوية المشاكل والملفات المرتبطة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

وقد جعل جلالة الملك من قضية حقوق الإنسان أحد الركائز الدستورية والقيم المركزية في مسار الإصلاح والتحديث، والمستقرئ للخطب والرسائل الملكية السامية يجدها رائدة ومتقدمة في تناول حقوق الإنسان، وتشكل مرجعية فكرية وسياسية وقانونية وثقافية ورؤية استشرافية تؤطر أدوار ووظائف المؤسسات الدستورية ومختلف الفاعلين.

وستتجلى هذه العناية الملكية السامية بحقوق الإنسان في خطاب التاسع من مارس 2011 الذي لم يكن مجرد إعلان عن إصلاح دستوري، بقدر ما كان خارطة طريق لإبداع نموذج ديمقراطي فريد يحترم ثوابت الأمة المغربية، وينخرط في مسار التحديث المؤسساتي الشامل ويعزز بناء دولة الحق والقانون، ويكرس الخيار الديمقراطي.

وقد كان هذا الخطاب الملكي السامي توجيها وتأطيرا للجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة الدستور التي استلهمت معاني وقيم خطاب جلالة الملك ليكون الدستور المغربي الجديد مرجعا لحقوق الإنسان، وليصير معجما دستوريا مغربيا ثريا متميزا ومتنوعا ومتفردا، بفضل اتساع وخصوبة الإصلاح الذي حمله هذا الدستور، وبما انطوى عليه من قيم إنسانية رفيعة ومبادئ قانونية سامية، وما تضمنه من توسيع للحقوق والحريات العامة بأجيالها الثلاثة، ومن إدخال المفاهيم ومبادئ وغايات وإعلانات دستورية جديدة.[10]

لقد شكل دستور 2011 ثورة في مجال الحريات وحقوق الإنسان، حيث تضمن الحقوق بمختلف أنواعها وأجيالها، أقصد الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وينص الفصل التاسع عشر على ما يلي: “يتمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الواردة في هذا الباب من الدستور وفي مقتضياته الأخرى وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها”.

ومن نماذج الحقوق والحريات المدنية والسياسية التي أقرها هذا الدستور:

  • الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع، والحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية.

ومن نماذج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية:

  • الحق في الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلف بمهام المرفق العام.
  • حق الطفل في التعليم الأساسي الواجب على الدولة والأسرة.
  • دسترة اللغة الأمازيغية واعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء”. وصيانة اللغة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة”.

المحور الرابع: مؤسسات وهيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها

سنقتصر في هذا المحور على المجلس الوطني لحقوق الإنسان، [11]

طبقا لأحكام الفصل 161 من الدستور، يعتبر المجلس الوطني الحقوق الإنسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، أُحدثت في الفاتح من مارس 2011 لتحل محل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. وتتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال.

يتألف المجلس، علاوة على الرئيس والأمين العام، من تسعة وثلاثين عضوا:

  • رؤساء اللجن الجهوية لحقوق الإنسان الاثنا عشر؛
  • تسعة أعضاء يعينهم جلالة الملك؛
  • ثمانية أعضاء يعينهم رئيس الحكومة؛
  • ثمانية أعضاء يعينهم مناصفة رئيسا مجلسي البرلمان؛
  • عضوان يمثلان مؤسسة الوسيط ومجلس الجالية المغربية بالخارج.

وتنتظم صلاحيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان في إطار ثلاثة محاور كبرى: “حماية حقوق الإنسان” و”النهوض بحقوق الإنسان” و”الوقاية من انتهاكات حقوق الإنسان”.

ويمارس صلاحياته بكل استقلالية باعتباره مؤسسة دستورية مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية إلا أن استقلال المجلس عن السلطة الحكومة لا يعني عدم وجود تعاون واسع على العديد من المستويات، حيث: يساهم المجلس في إعداد التقارير التي تقدمها الحكومة لأجهزة المعاهدات والمؤسسات الدولية والإقليمية الأخرى المختصة، طبقا للالتزامات والتعهدات الدولية للمملكة؛

كما يتولى بحث ودراسة ملاءمة النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل مع المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي الإنساني التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها.

وإلى جانب ولايته الوطنية، للمجلس اختصاص جهوي عبر اثنتي عشرة لجنة جهوية لحقوق الإنسان تغطي مجموع التراب الوطني، وتعمل وفقا لمقاربة القرب، على حماية حقوق الإنسان والنهوض بها.

ولتعزيز دوره في حماية حقوق الإنسان وفي القيام بكل مهمة تهدف إلى الوقاية من التعذيب وحماية الأطفال والأشخاص في وضعية إعاقة، تم إحداث ثلاث آليات وطنية لدى المجلس تساعده في ممارسة صلاحياته، وهي: الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، الآلية الوطنية لتظلم الأطفال ضحايا انتهاكات حقوق الطفل والآلية الوطنية الخاصة بحماية حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة.

ينظر المجلس في جميع حالات خرق حقوق الإنسان، إما بمبادرة منه أو بناء على شكاية ممن يعنيهم الأمر، ويقوم في إطار متابعة مآل الشكايات المعروضة عليه بإخبار المشتكين المعنيين وتوجيههم وإرشادهم واتخاذ كل التدابير اللازمة من أجل مساعدتهم، في حدود اختصاصاته.

يعد المجلس تقريرا سنويا عن حالة حقوق الإنسان وحصيلة أنشطته وآفاق عمله، ويرفعه إلى نظر جلالة الملك وينشر هذا التقرير في الجريدة الرسمية.

هذا ما تيسر عرضه في هذا اللقاء

أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1] – مصطفى كامل السيد، حقوق الإنسان في المجتمع الدولي، قضايا نظرية، مجلة السياسة الدولية، العدد 96، يناير 1989، ص 71.

[2] – مصطفى عبد الغفار، ضمانات حقوق الإنسان على المستوى الإقليمي، (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2003)، ص 14.

[3] – تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة مؤتمر العالم الإسلامي ،القاهرة، 5 أغسطس 1990

[4] – اعتمد وفتح باب التوقيع والانضمام والتصديق عليه من قبل المؤتمر الإسلامي الثاني والثلاثون لوزراء الخارجية المنعقد في صنعاء – اليمن، خلال الفترة من 28 إلى 30 حزيران/يونيه 2005 الموافق 21 إلى 23 جمادي الأول 1426

[5] – شهد عام 1904 الموافق لعام 1321 هـ، تقديم الكاتب والسياسي المغربي الحاج علي زنيبر للحاج عبد الله بن سعيد أول دستور للدولة المغربية الحديثة بهدف تحسين الوضع السياسي المغربي وإجلاء المحاولات الأجنبية للاستحواذ على البلاد.

[6] – ينظر الشريف الغيوبي، الإصلاحات الدستورية ودورها في دعم الحقوق والحريات بالمغرب، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 83، 2008، ص 150 وما يليها.

[7] – علي كريمي، حقوق الإنسان والحريات العامة بالمغرب بين طموح التغيير وإكراه الظروف السياسية، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة “مؤلفات وأعمال جامعية “، عدد 37/ 2002، ص34-35.

[8] – عبد العزيز اللوزي، المسألة الدستورية والمسار الديمقراطي في المغرب، منشورات المجلة المغرية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة “مواضيع الساعة” 1996، ص 41.

[9] – ظهير شريف رقم 1.58.376 الصادر في 3 جمادى الأولى 1378 موافق 15 نونبر 1958 يحدد بموجبه حق تأسيس الجمعيات، الجريدة الرسمية عدد 2404 مكرر 27 نوفمبر 1958، ص. 2849-2853

[10] – الحماية الدستورية، عرض تقديمي حول الحماية الدستورية لحقوق الإنسان، المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان، ص 1 منشور بتاريخ 25 أكتوبر 2022 على موقع المندوبية https://didh.gov.ma/ رابط البحث: https://2cm.es/ZqYF

[11] – الموقع الرسمي للمجلس الوطني لحقوق الإنسان: www.cndh.ma


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)