جارٍ تحميل التاريخ...

الإيمان يكسب صاحبه الوقاية من الشح – ذ. محمد بوشركة

الإيمان يكسب صاحبه الوقاية من الشح – ذ. محمد بوشركة

انطلاقا من قوله تعالى: {هَآنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ فَمِنكُم مَّنْ يَّبْخَلُۖ وَمَنْ يَّبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦۖ وَاللَّهُ اُ۬لْغَنِيُّۖ وَأَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُۖ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُمُۥٓۖ} [محمد: 39].

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.

أما بعد فيا أيها السادة الأئمة الفضلاء.

حديثي معكم اليوم سيكون عن الإيمان باعتباره يكسب صاحبه الوقاية من الشح، وذلك انطلاقا من قول ربنا سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة من سورة محمد: {هَآنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ فَمِنكُم مَّنْ يَّبْخَلُۖ وَمَنْ يَّبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦۖ وَاللَّهُ اُ۬لْغَنِيُّۖ وَأَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُۖ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُمُۥٓۖ} [محمد: 39].

وسنتناول هذه الآية الكريمة من خلال عدة وقفات:

الوقفة الأولى: تتعلق بالآيتين اللتين قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪ا لَعِبٞ وَلَهْوٞۖ وَإِن تُومِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُوتِكُمُۥٓ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْـَٔلْكُمُۥٓ أَمْوَٰلَكُمُۥٓۖ إِنْ يَّسْـَٔلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجَ اَضْغَٰنَكُمْۖ} [محمد: 37-38].

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى تحقيرا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها: {إِنَّمَا اَ۬لْحَيَوٰةُ اُ۬لدُّنْي۪ا لَعِبٞ وَلَهْوٞۖ} أي: حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عز وجل؛ ولهذا قال: {وَإِن تُومِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُوتِكُمُۥٓ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْـَٔلْكُمُۥٓ أَمْوَٰلَكُمُۥٓۖ} أي: هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا، وإنما فرض عليكم الصدقاتِ من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك عليكم، ويرجعَ ثوابُه إليكم”[1].

وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: {وَلَا يَسْـَٔلْكُمُۥٓ أَمْوَٰلَكُمُۥٓۖ} أي لا يسألكم أموالكم لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم.

وقيل: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها”[2].

ثم ختم ربنا الآيتين بقوله: {إِنْ يَّسْـَٔلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجَ اَضْغَٰنَكُمْۖ}:

أي إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) أي فيجهدْكم إذا ألح عليكم بطلبها منكم، فتكون النتيجة أن (تبخلوا) أي تبخلوا بها وتمنعوها إياه، ضنا منكم بها، فلما علم ذلك منكم لم يسألكم.

وقوله: (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) أي يخرجُ البخلُ أضغانَكم.

والإنسان جبل على حب المال وحبُه للمال وتمسُكه به هو الذي يظهر حقيقته، ويجلي مدى إيمانه وصدق ايمانه، لأن الإيمان ليس ادعاء بل تضحية وإنفاق وبذل وعطاء.

الوقفة الثانية أيها الأئمة الكرام: قوله تعالى: {هَآنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ فَمِنكُم مَّنْ يَّبْخَلُۖ}

أي ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تُدعون لتنفقوا في سبيل الله (أي في الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر وفعل الخيرات والمبرات..) فمنكم من يبخل، وإذا بخِل فإنما يبخل عن نفسه ويمنعُ نفسَه من الأجر والثواب.

فهَذِهِ دَعْوَةٌ لِلْإنْفاقِ من ربنا سبحانه المعطي، دعوة للمعطَى له، لفائدة من حُرم هذا العطاء، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

والإنفاق صنف عظيم من أصناف الجهاد الذي أشار إليه ربنا سبحانه لما قال: {وَجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ} [التوبة: 41].

والمؤمن لا يكون بخيلا، بل المؤمن كامل الإيمان يكون جوادا كريما:

فعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه[3].

الوقفة الثالثة أيها السادة الأئمة الأكارم: قوله تعالى: {وَمَنْ يَّبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦۖ وَاللَّهُ اُ۬لْغَنِيُّۖ وَأَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُۖ}

أي أن البخيل إنما يبخل على نفسه ولا يضر إلا نفسه، وذلك من قبيل قوله تعالى: {اِنَ اَحْسَنتُمُۥٓ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْۖ وَإِنَ اَسَأْتُمْ فَلَهَاۖ} [الإسراء: 7].

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ اُ۬لْغَنِيُّۖ وَأَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُۖ}

أي: “ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم، لأنه الغنيّ عن خلقه والخلق الفقراء إليه، وأنتم من خلقه، فأنتم الفقراء إليه، وإنما حضكم على النفقة في سبيله، ليُكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه”[4].

والله تعالى بين هذا المعني في قوله سبحانه: {يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ أَنتُمُ اُ۬لْفُقَرَآءُ اِ۪لَى اَ۬للَّهِۖ وَاللَّهُ هُوَ اَ۬لْغَنِيُّ اُ۬لْحَمِيدُۖ إِنْ يَّشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَاتِ بِخَلْقٖ جَدِيدٖۖ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اَ۬للَّهِ بِعَزِيزٖۖ} [فاطر: 15-17]، فنفقاتنا لا تنفع الله في شيء وإنما تنفعنا وتقينا وترفع مقامنا، وشحنا وبخلنا لا يضر الله في شيء إنما يضرنا ويردينا إلى الدركات.

الوقفة الرابعة: قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُمُۥٓۖ}

قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:

والمَعْنى: يَتَّخِذُ قَوْمًا غَيْركم لِلْإيمانِ والتَّقْوى، وهَذا لا يَقْتَضِي أنَّ اللَّهَ لا يُوجِدُ قَوْمًا آخَرِينَ إلّا عِنْدَ ارْتِدادِ المُخاطَبِينَ، بَلِ المُرادُ: أنَّكم إنِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الدِّينِ كانَ لِلَّهِ قَوْمٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ لا يَرْتَدُّونَ وكانَ لِلَّهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ في الإيمانِ ولا يَرْتَدُّون[5]“.

قوله: (ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم) أي لا يكونوا أمثالكم في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، وينفقون مال الله الذي أعطاهم حمدا له وشكرا، ولا يبخلون على الفقير والمسكين والمحتاج.

والآية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}

الوقفة الخامسة والأخيرة سادتي الأئمة الفضلاء: المقصود بالقوم في قوله سبحانه: {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}

أخرج الترمذي واللفظ له، والبخاري، ومسلم باختلاف يسير، أنه قالَ ناسٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم: يا رسولَ اللَّه مَن هؤلاءِ الَّذينَ ذَكرَ اللَّهُ إن تولَّينا استُبدِلوا بنا ثمَّ لا يَكونوا أمثالنا، قالَ: وَكانَ سلمانُ بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ فضربَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فخِذَ سلمانَ وقالَ هذا وأصحابُهُ، والَّذي نفسي بيدِهِ لو كانَ الإيمانُ منوطًا بالثُّريَّا لتناولَهُ رجالٌ من فارس[6]. انتهى الحديث.

فضرب لنا عليه الصلاة والسلام المثل بعزيمة المؤمن الذي ينشد الإيمان، وأن إيمانه الصادق هو الذي يدفعه لبذل الغالي والنفيس بنفسه وماله، وحاله ومقاله، لخِدْمةِ هذا الدِّين العظيم، وتلكم أيها السادة الكرام من أعظمِ ثمرات الإيمان المنشودة.

فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، واجعلنا من المنفقين المتقين المخلصين.

آمين. والحمد رب العالمين.

والسلام عليكم

[1] تفسير القرآن العظيم = تفسير بن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض – السعودية الطبعة: الثانية، 1420هـ – 1999م، (7 / 323-324)؛

[2] الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، أبو عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ – 1964 م، (16/ 257)؛

[3] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، حديث رقم 6018؛ وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإيمان، حديث رقم 174؛

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن = تفسير الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان – القاهرة، مصر، الطبعة: الأولى، 1422 هـ – 2001 م، (21/ 232):

[5] التحرير والتنوير لابن عاشور، الدار التونسية للنشر – تونس: 1984 هـ – تفسير سورة محمد، الآية 38؛ (26/ 139)؛

[6] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: قوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم}، حديث رقم 4897؛ وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب فضل فارس، حديث رقم 6498؛ وسنن الترمذي، باب ومن سورة محمد r، حديث رقم 3261؛


تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)