جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

موعظة الزكاة من بذل الفرد إلى تنمية المجتمع

ا

لزكاة من بذل الفرد إلى تنمية المجتمع 

 


 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فقد شرع الله تعالى لعباده من الطاعات والقربات ما به يكمل إيمانهم، وتزكو نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتتحقق مصالحهم ومنافعهم، ومن ذلك فريضة الزكاة، التي فرضها الله تعالى على أغنياء المسلمين لفائدة فقرائهم والمحتاجين منهم.

وللزكاة في الإسلام مكانة رفيعة ومنزلة سامية، فهي ركن من أركانه الأساسية، وشعيرة من شعائره الدينية الكبرى، وفريضة من فرائضه المؤكدة المعلومة، أوجبها الله تعالى على عباده، طاعة لخالقهم، وشكرا لرازقهم، وتحقيقا لمصالحهم، ومواساة لفقرائهم. لذا وردت في وجوبها آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية عديدة، تأمر بأدائها وترغب في ثوابها، وتبين مقاصدها وآثارها. من ذلك قول ربنا سبحانه:  » وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا » (المزمل: 18).

وإن كثرة ورود الأمر بالزكاة في القرآن الكريم وعلى لسان نبينا الحبيب يدل على علو مكانة هذه الشعيرة وشرف قدرها وما لها من مقاصد عظيمة وفوائد جليلة على الفرد والجماعة.

والزكاة، بما هي عبادة مالية، تحرر نفس الغني من حب المال وسطوته؛ ذلك أن الإنسان جبل على حب المال والتعلق به والحرص الشديد على جمعه وكنزه. قال تعالى:  » زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث » (آل عمران: 14). ومن رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم لتأسرهم الشهوات، أو تستبد بهم الغرائز والملذات، فكان لتشريع الزكاة الأثر البالغ في تحريرهم من هذه القيود والأغلال، فتزكو بذلك نفوسهم من مظاهر الشح والبخل، وترقى في مدارج العطاء والإحسان والإيثار.قال تعالى:  » خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها » (التوبة: 104).

كما أن هذه العبادة تطهير للأموال من كل ما علق بها من حقوق الغير من الفقراء والمساكين والضعفاء والمحتاجين. قال صلى الله عليه وسلم في وصيته الخالدة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:  » إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم… » ( متفق عليه).

والزكاة، وإن كانت تبدو في ظاهرها نقصانا للمال وتقليلا له؛ إلا أنها في الحقيقة تزكية له ونماء وزيادة. قال صلى الله عليه وسلم:  » ما نقصت صدقة من مال » (رواه مسلم).

ومما يجلي هذا النماء وهذه الزيادة حلول البركة في الأموال في الدنيا ومضاعفة الأجر والثواب في الآخرة. قال تعالى: » يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم » (البقرة:275)، وقال صلى الله عليه وسلم:  » ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله » (رواه مسلم).

كما أنها حفظ للأموال من التلف، وحماية لها من الضياع، إذ بها تدفع الآفات التي تفسد الأموال وتذهب بها. قال صلى الله عليه وسلم: » ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء » (رواه ابن ماجه).

والزكاة أيضا مظهر عظيم من مظاهر شكر الإنسان لربه على نعمه، وحمد له على فضله وإحسانه؛ فالشكر مظنة الزيادة. قال تعالى:  » وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد » (إبراهيم:9). بل إن المنعم سبحانه وتعالى ليضاعف هذه الزيادة أضعافا كثيرة. قال سبحانه:  » من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون » (البقرة: 243). وقد شبه القرآن الكريم هذه الزيادة في صورة بليغة تأخذ بلب المستمع لتدفعه إلى الإنفاق وترغبه في الإحسان والعطاء. قال تعالى:  » مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم » (البقرة: 260).

وإذا كان للزكاة بهذه المقاصد الكبيرة والآثار العظيمة فضل على الفرد؛ فإن أثرها على الجماعة أكبر، و ثمارها عليها أبلغ؛ فالمجتمع الذي تخرج فيه أموال الزكاة من أغنيائه لتدفع لفقرائه تتحقق فيه معاني التكافل والتعاون، حيث يسأل الغني عن الفقراء ليواسيهم، ويبحث عن المحتاجين ليعينهم، ليجسد هذا المجتمع بذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم:  » مثل المؤمنين في توادهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم . مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (متفق عليه).

هي، إذن، نظام اجتماعي فريد، يؤمن أبناء المجتمع الواحد، أفرادا وجماعات، ضد تقلبات الدهر ونوازله، وفواجع الزمان ونوائبه، كما أنها السبيل للتماسك الأسري، وتقوية الروابط العائلية، وترسيخ قيم المودة والرحمة بين أفرادها ومكوناتها. قال صلى الله عليه وسلم:  » إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة » (رواه الترمذي).

وبهذه الشعيرة تسود قيم التعاون والتضامن، ويحصل التفاعل الوجداني بين أفراد المجتمع، أغنيائهم وفقرائهم، وتزرع في النفوس المحبة والمودة والإخاء، وتنمي فيها الإحساس بالانتماء إلى المجتمع الواحد، وتدفعه إلى المساهمة في خدمته، محققين بذلك قوله تعالى: « إنما المومنون إخوة » (الحجرات:10). 

كما أن من آثار هذه العبادة العظيمة أنها تعالج عدة ظواهر اجتماعية تقدح في وحدة المجتمع، وتعيق تماسكه وانسجامه؛ كالفقر والسرقة وغيرهما من الآفات التي سببها الحاجة والفاقة، فيكون المزكي بذلك قد ساهم في الحد من هذه الظواهر، وأنقذ كثيرا من الأسر من الضياع والحرمان التي تسبب التشرد وتدفع إلى امتهان التسول.

وبها تتحقق النهضة والتنمية للمجتمع؛ حيث تسهم في تنميته وازدهاره، وتقدمه ونمائه، وسموه وارتقائه؛ وهي بذلك تعتبر الحل الأمثل، والسبيل الأنجع لمنع كنز المال واحتكاره، حيث تدفع بصاحبه إلى تدويره واستثماره في مجالات مختلفة، واستثمارات متعددة، كالتجارة والصناعة والفلاحة، مما يكون سببا مباشرا في تنشيط الدورة الاقتصادية، وتحقيق النهضة والتنمية، خاصة وأن الله عز وجل حرم كنز الأموال، وتوعد مانع الزكاة بالويل والثبور، والعذاب الأليم يوم البعث والنشور، فقال تعالى: « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى به جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم  لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون« (التوبة: 34).

فهنيئا لمن وفقه الله تعالى ليفرج عن مهموم كربته، وينفس عن محتاج ضائقته، ويمسح عن يتيم دمعته، بما أعده الله تعالى له من تفريج كرباته يوم القيامة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه… » (صحيح مسلم).

ولا تنس أخي المزكي، وأنت تتعبد الله بهذه العبادة العظيمة، أن تحرص على دفعها لمن يستحقها، وتستفرغ الجهد في البحث عن صاحبها، تحقيقا لآثارها ومقاصدها؛ واعلم أن من الناس من اشتدت حاجته، وعظمت فاقته، لكن الورع والتعفف يمنعه من مد يده للناس متسولا، فذلك أحق بالزكاة. كما قال تعالى:  » للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم » (البقرة: 272).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المحسنين، ومن أوليائه المتقين، ويرزقنا التوفيق والسداد لما فيه خير البلاد والعباد.

والحمد لله رب العالمين.