جارٍ تحميل التاريخ...

تجليات الحياة الطيبة في ظلال السيرة النبوية-مشهد غزوة أحد-3- ذ. المصطفى زمهنى

النسخة المكتوبة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى رأسهم حبيبنا المصطفى ﷺ.

نواصل في حصة اليوم استنطاق حدث غزوة أحد لاستخلاص دروس وعبر تبدو حاجة الأمة إليها أشد في علاقتها بدينها ووطنها، وفي تدبير أمورها وترشيد سياستها، وسنقتصر في ذلك على مستفادين، وهما: الثبات والتضحية، وبيان أهمية الشورى.

§       المستفاد الأول: الثبات والتضحية.

إن من المبادئ الرئيسة التي يدعو إليها الإسلام، ويحض على التشبث بها، الثبات على المبادئ والتضحية من أجلها، لتظل قائمة مستمرة في الأجيال المتعاقبة خلفا عن سلف، وقد جسد الصحابة الكرام حقيقة التضحية والثبات، بما استرخصوا من أموالهم وأرواحهم للذود عن الدين والوطن.

ويكفي أن نطالع كتب السيرة النبوية، لنقف على نماذج من نفيس التضحيات، وصور من الثبات، بالرغم من هول الموقف وشدة البأس، فقد كان حبهم للنبي ﷺ، ولما جاء به من الحق المبين، الأثر الأبرز في مواقفهم الجليلة، وتصرفاتهم العظيمة، كما يتبدى ذلك من تضحيات علي بن أبي طالب، وأبي دجانة، وطلحة بن عبيد الله، وعمرو بن الجموح، وعبد الله بن جحش…

وللتمثيل لهذه المواقف البطولية للصحابة الكرام في التضحية والدفاع عن المبادئ، نسوق نصا للواقدي يصف فيه صنيع حنظلة في الموضوع، ومنزلته عند الله تعالى بما أسدى من مكرمات ومبرات.

قال رحمه الله تعالى :”وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأُدْخِلَت عليه في الليلة التي في صبيحتها التي كان فيها قتال أحُد، وكان قد استأذن رسول الله ﷺأن يبيت عندها فأذن له، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله ﷺبأحد، ولزمته جميلة فعاد فأجنب منها، ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لِمَ أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فرجت فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها”.[1]

ويكفيه شرفا وفخرا أنه غسيل الملائكة كما أخبر عنه النبي ﷺ: “إني رأيت الملائكة تُغَسِّل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة“.[2]

ولم تكن هذه التضحيات حكرا على الرجال فقط، بل إن النساء بدورهن قد أسهمن إسهاما عظيما في الدفاع عن النبي ﷺ، وحماية المجتمع الإسلامي من اعتداءات الأعداء.

ومن النماذج النسائية اللاتي رسمن صورا رائقة في هذا المجال، نذكر أم عمارة[3] التي قال عنها النبي ﷺ: “ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة في ذلك اليوم! التفتُ يمنة وأم عمارة تذود عني، والتفت يسرة وأم عمارة تذود عني“، وقال لها النبي ﷺفي أرض المعركة: “من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟! سليني يا أم عمارة! قالت: أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله! قال: أنتم رفقائي في الجنة“.[4]

 

 

§       المستفاد الثاني: أهمية الشورى.

تطلق الشورى على استخراج الرأي بعد التداول والمراجعة وتقليب النظر فيما يقدم من اقتراحات وآراء، كما يستخرج العسل.

قال الراغب: التشاور والمشاورة والمشورة؛ استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شِرْتُ العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، وشرت العسل وأشرته: أخرجته. قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِے اِ۬لَامْرِ} [آل عمران: 159]، والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه. وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُور۪ىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 35]”.[5]

وهي بذلك تعني تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام، حتى يتوصل إلى الصواب منها، أو إلى أصوبها وأحسنها، ليعمل به، لكي تتحقق أحسن النتائج.[6]

 وفي هذه التسمية دلالة رامزة إلى أن الرأي المستخلص من التداول والحوار يكون أحلى وأوفق للجميع مهما كانت طبيعته، بما له من وجاهة وصوابية، لتعدد العقول المتدخلة في الإشارة والاقتراح.

ومن أجل ذلك، كانت الشورى حاضرة بقوة في هذا الحدث العظيم، باعتمادها ابتداء في استطلاع الرسول الكريم لآراء صحابته الكرام قبل الخروج للقاء العدو، وفي حث القرآن الكريم على التزامها والأخذ بها، بالرغم من انتكاسة المسلمين بسبب عدم امتثال الرماة لأمر الرسول ﷺبالمكوث في مكانهم مهما كانت نتيجة الغزوة، حيث قال سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِے اِ۬لَامْرِ} [آل عمران: 159].

إن للشورى فوائد عظيمة وآثارا طيبة على الفرد والجماعة، ذلك أن بإشراك الجميع في إبداء الرأي وإظهار الموقف تحملا لتبعة القرار مهما كان، لأن كل واحد يعتبر نفسه مسهما فيه، على عكس القرارات الاستبدادية الثقيلة على النفوس، وإن كانت صحيحة سليمة، أما وأن عواقبها وخيمة، فالأمر أدهى وأمر.

وقد حرر الإمام الرازي كلاما نفيسا فيما للشورى من نفع عميم، وآثار نفسية وسياسية واجتماعية طيبة، حيث قال رحمه الله: “المسألة الثانية: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه:

الأول: أن مشاورة الرسول ﷺإياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة.

الثاني: أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله، لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا…

الثالث: قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته.

الرابع: أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى أن يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر، فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة.

الخامس: وشاورهم في الأمر، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك، فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول، فبين لهم على قدر منازلهم.

السادس: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد.

السابع: لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق.

الثامن: الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة، بل: أنا أزيد فيها، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم، والآن تعولون على فضلي وعفوي، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم”.[7]

وخلاصة الكلام، أن الإمام مدعو لاستلهام هذه الدروس وتوجيه الناس إليها، ببيان قيمة الثبات والتضحية في خدمة الدين والوطن، والذود عن الثوابت والمقدسات والرموز الدينية والوطنية، والتزام الوحدة والوئام، وتحبيب الشورى، والحض عليها، وإيضاح ثمراتها في سعادة الأنام وإسعادهم.

نسأل الله تعالى أن يهدينا للتي هي أقوم، والحمد لله رب العالمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 



1_ مغازي الواقدي 1/ 274.

2_ الطبقات الكبرى لابن سعد 2/33.

3_ هي نسيبة بفتح النون بنت كعب الأنصارية. أما نسيبة بضم الميم بنت كعب الأنصارية وقيل بنت الحارث، فهي أم عطية.

4_ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/ 414_415.

[5]– المفردات في غريب القرآن ص 273، تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني – الطبعة الثالثة 1422هـ – 2001م، دار المعرفة، بيروت – لبنان.

[6]النظام السياسي في الإسلام لمحمد عبد القادر أبو فارس ص 79 دار الفرقان- عمان – الأردن 1986م.

[7] مفاتيح الغيب 9/409، دار إحياء التراث العربي_ بيروت، الطبعة الثالثة 1420هـ.

شاهد أيضا

تصنيفات

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)