جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

مشيخة العلماء بالمغرب من البذور إلى الجذور

لقد حرص ملوك مختلف الدول التي تعاقبت على الحكم في المغرب على العناية بشؤون الإسلام وإجراء العمل بأحكامه للذود عن عقائده ونشر تعاليمه الصحيحة للناس، ليكونوا على بينة وبصيرة من أوامره ونواهيه، وعلى مر العصور وتعاقب الأجيال اجتهد العلماء في تفسير النصوص وانصرفوا إلى استنباط أحكام الشريعة في بعض الظواهر والقضايا التي جاء بها تعاقب الأيام والليالي وتطور الأمم والشعوب.

فمنذ فجر الدولة المغربية أسهم العلماء في إرساء أركانها بالجهود التي بذلوها لاستقرار الحكم في بيت الشرفاء الأدارسة، وإقامة البيعة الشرعية لحفظ الحقوق وتوحيد الأمة تحت راية الإسلام، ونشر مراكز تحفيظ كتاب الله ودراسة علومه، وإقامة القسط الذي هو مناط تحقيق تفاصيل الشرع على مقتضى الكتاب والسنة، ثم اتجهت عنايتهم إلى ضرورة الاستقرار على مذهب واحد ووضع ثابت من ثوابت الهوية الدينية والفقهية للأمة المغربية، فهداهم الله إلى تبني مذهب الإمام مالك، حيث يسر الله لذلك الفقيه الجليل دراس بن إسماعيل من تلامذة ابن أبي زيد القيرواني الذي أدخل مذهب مالك إلى المغرب، ووضع الأسس الأولى التي اجتهد العلماء بعده في تدعيمها وفتح مجالات العمل والاجتهاد فيها، فتوجهوا إلى توحيد مرجع الأمة الفقهي السني في إطار المذهب المالكي؛ بإرساء قواعده، ووضع مادة تفصيلية لعامة الناس يعتمدونها في تدينهم ومعاملاتهم مقتبسة من موطأ الإمام مالك والمدونة. 

ثم اتجهوا إلى ترسيخ العقيدة الأشعرية التي هي استمرار لمنهجية السلف في تقرير العقائد وإعمال العقل في الدفاع عنها، كما أقاموا صرح الركن الثالث من ثوابت الأمة وهو التصوف السني الذي ارتضاه فقهاء وصلحاء المغرب الذين جمعوا بين العلم والعمل.

فاستأنفت المشيخة العلمية سيرها ـ عبر العصور ـ في ظل إمارة المومنين وتحت رعايتها، مواصلة عملها في خدمة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني.

بذور المشيخة العلمية وأصولها في عهد الأدارسة

لمحة تاريخية:

  كان المغرب الأقصى قبل ظهور الأدارسة يتكون من عدة إمارات تتنازع حكمها قوى مختلفة في الشمال والوسط والجنوب، ويتوزع سكانه بين اتباع عدة ديانات سماوية وعبادة الأوثان، فحل المولى إدريس بن عبد الله، المنتسب للبيت النبوي الشريف بالمغرب سنة 172 هـ  الموافق  788م، وبايعته قبيلة أوربة الأمازيغية بمدينة وليلي، فوضع بذلك نواة أول دولة إسلامية مستقلة بالمغرب الأقصى، وهي الدولة الإدريسية التي استمر حكمها حوالي 130 سنة، ومر تطورها بثلاث مراحل:

  1. مرحلة التأسيس: دامت 41 سنة، تبتدئ مع إدريس الأول وتنتهي بوفاة إدريس الثاني.
  2.  مرحلة القوة: دامت 30 سنة، حكم خلالها ثلاثة ملوك: محمد بن إدريس، علي بن محمد، ويحيى بن محمد.
  3.  مرحلة الضعف: دامت 59 سنة، حكم خلالها ثلاثة ملوك: علي بن عمر، يحيى الثالث، ويحيى الرابع.

جذور المشيخة العلمية وأصول الثوابت الدينية:

مُنذ ذلك التاريخ قامت مشيخة العلم في المغرب متمثلة في جماعة من العلماء تعتبر مرجعا في الدين، وكتلة للدفاع عن مصالح الجماعة، اكتسبت قوتها وصلابتها من علمها، وصرامة سلوكها، وحرصها على جلب المنافع للأمة ودرء المفاسد عنها، حيث أسهم العلماء في إرساء أركان الدولة  بالجهود التي بذلوها لاستقرار الحكم في بيت الشرفاء الأدارسة، وإقامة البيعة الشرعية لحفظ الحقوق وتوحيد الأمة تحت راية الإسلام ، ونشر مراكز تحفيظ كتاب الله ودراسة علومه، وإقامة القسط الذي هو مناط تحقيق تفاصيل الشرع على مقتضى الكتاب والسنة، ثم اتجهت عنايتهم إلى ضرورة الاستقرار على مذهب واحد ووضع ثابت من ثوابت الهوية الدينية والفقهية للأمة المغربية، فهداهم الله إلى تبني مذهب الإمام مالك، حيث يسر الله لذلك الفقيه الجليل دراس بن إسماعيل من تلامذة ابن أبي زيد القيرواني الذي أدخل مذهب مالك إلى المغرب، ووضع الأسس الأولى التي اجتهد العلماء بعده في تدعيمها وفتح مجالات العمل والاجتهاد فيها.

فقد بدأت علاقة المغاربة بالإمام مالك، في بداية القرن الثاني للهجرة، حيث جمعتهم به في الحرم النبوي حلقات الدرس  والرواية، بعد أن سمعوا عنه فشغفوا بالرحلة إليه، واهتبلوا بعلمه والرواية من حديثه وفقهه، فأخذوا عنه علما غزيرا، وزاد من ارتباطهم بالشيخ الإمام وتعلقهم به تعرفهم على كتابه الموطأ أواخر القرن المذكور، حيث رحلوا لسماعه وقرائته ثم حمله  وروايته، حيث برزمنهم  جم غير قليل من العلماء الرواة الذين سمعوا من الإمام مالك عنه كتابه، فيهم  علي بن زياد التونسي المتوفى عام 183هـ، وزياد بن عبد الرحمن القرطبي المعروف بشبطون المتوفى عام 193 هـ، والذي يعتبر أول من أدخل كتاب الموطا إلى الأندلس، فيحيى بن يحيى المصمودي المتوفى عام 234 هـ، الذي أخذ فقه مالك وكتابه الموطا عن شبطون قبل أن يشد الرحلة إلى المدينة ليسمع من مالك نفسه مباشرة…. وغيرهم، وقد ذكر الخشني من المغاربة نحو الثلاثين ممن أخذوا العلم عن مالك ورووا موطأه عنه،  فأدركوا شهرة ونالوا حظوة حديثية كبيرة، وقاموا بأكبر خطوة علمية رائدة، لنشر الحديث والفقه في الغرب الإسلامي، بل وتصدروا لبث العلم إقراء وتلقينا وسماعا.

وقد صنف الدارسون  هؤلاء العلماء إلى طبقتين:

  • طبقة روت الموطا مفردا، وجاءت به إلى الغرب الإسلامي، وعملت على نشره في جميع جهاته، إلا أن عملها ظل محدودا، ولم يكتب له الانتشار على أوسع نطاق، من هذه الطبقة: علي بن زياد التونسي المتوفى عام : 184هـ، وزياد بن عبد الرحمن القرطبي المتوفى عام 193هـ ، والغازي بن قيس الأندلسي المتوفى عام 199 هـ، وأبو عبد الرحمان عبد الله بن غانم الرعيني القاضي المتوفى عام 199 هـ،… وغيرهم.
  • طبقة ثانية وهي التي روت وأخذت عن الإمام مالك الموطا وجميع المسائل والأقضية، والسماعات، وكان لها دور كبير في نشر علم مالك، ورواياته المثقفة بالسماع، والمصحوبة بعلم السنن، ومسائل الحلال والحرام، من هذه الطبقة: أسد بن الفرات النيسبوري المتوفى عام 213 هـ ، ويحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاسن اللثي، المصمودي المتوفى عام 234هـ…. وغيرهم

ويذكر المؤرخون  أن أول من أدخل كتاب الموطأ إلى المغرب هو القاضي عامر بن محمد القيسي، وكان قد سمع من مالك والثوري، وقد تم ذلك في عهد المولى إدريس، وأن هذا الأخير حمل الناس على تعلمه وتعليمه، وكان يقول: ” كتابنا هذا ونحن أحق الناس به” .

وقد تعدد رواة الموطأ في المغرب ممن سمعوه مباشرة من مؤلفه، يذكر القاضي عياض  منهم ثمانية وستين، غير أن الرواية التي اعتمدها أكثر الناس – مغربا و مشرقا-هي رواية يحيى بن يحيى الليثي القرطبي ، و لها ثلاثة طرق أصلية :

  1. طريق عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي، وأشهر أسانيدها سند محمد بن فرج مولى ابن الطلاع القرطبي عن يونس بن مغيث الصفار، عن أبي عيسى عبد الله بن يحيى بن يحيى بن يحيى (ثلاثا) الليثي، عن عم أبيه عبيد الله، عن والده يحيى بن يحيى الليثي.
  2. طريق محمد بن وضاح القرطبي. عن يحيى بن يحيى الليثي.
  3. طريق محمد بن أحمد العتبي، عن يحيى بن يحيى الليثي، و إليها يسند الباجي في المنتقى. وإليها تنسب رواية يحيى بن يحيى بن بكير التميمي النيسابوري، و إليها ينتهي سند المهدي بن تومرت في: “محاذي الموطأ “. غير أن هذه تنوسيت بذهاب دولة الموحدين، و استمر البقاء لرواية يحيى بن يحيى الليثي.

ولقد تميزت هذه الرويات بالاستيعاب، والاصطفاء، والانتقاء، مما أهلها لمكانة علمية رائدة، وحضور قوي في مجالس العلم، وحلقات الدرس والإسماع  لكتاب الموطا، وظل العلماء حريصين على سماع  هذا الكتاب من أفواه الرجال، وروايته بالسند المتصل إلى الإمام مالك، وذلك حتى في العصور المتأخرة التي تعددت فيها نسخه المخطوطة منها وحتى المطبوعة، حيث نجدهم يذكرون في مستهل دروسهم أو مؤلفاتهم سندهم المتصل في رواية هذا الكتاب، وذلك مما يزيد في مكانتهم ويوحي بسعة اطلاعهم ومعرفتهم بهذا الكتاب.

فمن المؤكد أن مذهب مالك قد دخل إلى المغرب في عهد الأدارسة بفضل الأندلسيين والمغاربة، أما في الأندلس فقد أدخله زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون، ثم تلميذه يحيى بن يحيى الليثي الذي درس بدوره على مالك، وهو من مدينة طنجة المغربية وينحذر من  أصول بربرية ( وإذا كان الأمويون بفضل نفوذهم السياسي قد عملوا على إقرار مذهب مالك في الأندلس، فان المغرب قد ساهم في إقرار هذا المذهب به مجهودات فردية، فقد قيل بأن أول مغربي عمل على نشر مذهب مالك بالمغرب أبو ميمونة دراس بن اسماعيل الجراوي في أوائل القرن الرابع، وينسب إليه مسجد بفاس، وقد توفي سنة 357هـ، وعلى كل فإن فقهاء المغرب الأولين درسوا إما مباشرة على مالك، أو تلقوا علمهم عن فقهاء الأندلس والقيروان).

وتحدثنا كتب التاريخ والأخبار أن مجالس إقراء الموطأ انتشرت بالغرب الإسلامي بداية من القرن الثالث الهجري على يد أولئك الأعلام المشار إليهم سابقا، الذين حملوا الموطأ في صدورهم من المشرق العربي، وتفرعت عنها مجالس أخرى عقدها تلامذتهم ومن أخذ عنهم، إشتهرت شهرة واسعة وعرفت إقبالا كبيرا، فهذا  يحيى بن عبد الله بن يحيى القرطبي المتوفى عام: 367هـ  كان له مجلس لإقراء الموطأ  وإسماعه يوم الجمعة  يقول عنه ابن الفرضي:” اختلفت إليه في أيام الجمع بالغدوات، فتم لي سماعه منه…. ولم أشهد بقرطبة مجلسا أكثر بشرا من مجلسنا في الموطأ”، وهذا عبد الملك بن حبيب المتوفى سنة 123هـ، من رجال الطبقة الثالثة  الذين انتهى إليهم موطأ مالك، كان يعقد مجالس لإقراء الموطا ضاقت بطلاب العلم المتدفقين من شتى الأنحاء.

وقد برز درس الحديث عموما والموطأ خصوصا أثناء القرن الرابع مع ثلة من العلماء نذكر منهم: دراس بن إسماعيل الذي أدخل المدونة والموازية وبعض كتب ابن أبي زيد وجلس للتدريس في فاس زمانا.

( وعلى كل حال فإن مذهب مالك لم يتوطد أمره في هذا العصر كمذهب فقهي فقط، ولكن كعقيدة أيضا فإن التلازم في طرقته بين الفقه والاعتقاد، وهي اتباع السنة ونبذ الرأي والتأويل، مما لا يخفى.

 وقد كان الفضل في اتجاه المغرب هذا الاتجاه لرجال من أبنائه البررة، أرادو إشباع نهمتهم من العلم، فتحملوا عن ديارهم ومساقط رؤوسهم، وضربوا في طول البلاد الإسلامية وعرضها طلبا للمزيد من المعرفة ورغبة في سعة الرواية، ثم عادوا إلى وطنهم يتفجرون علما ويلتهبون إخلاصا.

فأخذ عنهم  من لم يستطع الرحلة من مواطنيهم، وقاموا جميعا بتأسيس قواعد العلم ومعاهد الدين في مختلف أنحاء البلاد).

وكان من بين هؤلاء: أبو هرون البصري، وأحمد بن الفتح المليلي، وجبرالله بن القاسم الفاسي، وأبو جيدة بن أحمد، وأبي محمد الأصيلي، وعيسى بن سعادة الفاسي، وابن سمحون الطنجي، وابن الزويزي، والحسن بن علي الفاسي، وأحمد بن العجوز، وأبو عمران الفاسي، وأحمد بن قاسم السبتي، وسليمان بن أحمد الطنجي، وعثمان بن مالك فقيه فاس،الذي له تعليق على المدونة وهو من أقدم ما كتب المغاربة عليها، وابن يربوع الفاسي، وعلي الهواري الفاسي وغيرهم.

وهكذا انصب عمل المشيخة العلمية في هذه الفترة على وضع الأسس الأولى للاشتغال، فبذلوا أقصى الجهود لاستقرار الحكم في بيت الشرفاء الأدارسة، وإقامة البيعة الشرعية لحفظ الحقوق وتوحيد الأمة تحت راية الإسلام، ثم تفرغوا للتعليم ونشر مراكز تحفيظ القرآن الكريم ودراسة علومه، وتدريس الضروري من علوم الدين، وتعريف طلبة العلم وأهله على مذهب الإمام مالك، بإرساء قوعده وإقراء الموطأ مصدره الأول، من أجل توحيد الأمة ونبذ أسباب الخلاف، وإقامة القسط الذي هو مناط تحقيق تفاصيل الشرع على مقتضى الكتاب والسنة، فوضعوا بذلك  الأسس الأولى لمشيخة العلم بالمغرب، ( فالعالم الذي يبني مقومات الأمة الفكرية، ويصير له رأي في تدبير الدولة، قد اكتسب منذ ذلك الوقت مكانا في المجتمع، وإن شئنا قلنا إن مكانته في المجتمع هي التي أهلته للمقام المرموق الذي أصبح يتمتع به لدى الدولة. ولا أدل على ذلك في هذا العصر المبكر من قيام العلماء بحل مشكل عويص، هو مشكل وضعية أرض المغرب، كما تفسره القصة البليغة التي تذكر دور عالم فاس المعروف بأبي جيدة في الحسم في هذا المشكل، فيحكى أن عامل المنصور أبي عامر صاحب الأندلس، حين تغلب على أرض فاس، قال للناس أخبروني عن أرضكم، هل فتحت صلحا أم بالقوة؟ فما كان منهم إلا أن سلكوا مثل سلوك المتهم أمام سلطة التحقيق في يومنا هذا، لا يتكلم حتى يحضر محاميه، إذا قالوا للسائل: لا نتكلم حتى يحضر الفقيه، يعنون الشيخ أبا جيدة، فجاء الشيخ فقال : ليست بصلح ولا عنوة، إنما أسلم أهلها عليها، أي فاضوا عليها، فقال العامل: خلصكم الرجل، أي دافع عنكم، إذ لو قال فتحت بالقوة لكانت ملكيتها للدولة ولفرضت عليها ضريبة خاصة ).

د. محمد كنون الحسني