بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة ليوم الجمعة 07 جمادى الآخرة 1447هـ الـموافق لـ 28 نوفمبر 2025م
((وُجُوبُ الاِنْخِرَاطِ فِي الشَّأْنِ العَامِّ عَلَى أَسَاسِ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ))
الحمد لله حمدا يليق بكريم صفات كماله، ويستزيد المدد من جميل صفات جماله، ويناسب عظيم شأن صفات جلاله، ونشهد أن لا إله إلا الله المتصف في القول والفعل بالانفراد، المنزه عن الأضداد والأنداد، الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة لكل مؤمن ومؤمنة، صلى الله وسلم عليه صلاة وسلاما تامين متواصلين ما تواصل الليل بالنهار، وعلى آله الطيبين الأبرار، وصحابته الكرام الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان بالعشي والإبكار.
أما بعد؛ معاشر المؤمنين والمؤمنات، فيقول الله تعالى:
[1] وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِۖ
عباد الله؛ يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
«لَوْ لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ غَيْرَ هَذِهِ السُّورَةِ لَكَفَتِ النَّاسَ؛ لِأَنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ»[2].
وأخرج البيهقي والطبراني عن أبي حذيفة رضي الله عنه قال:
«كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ (وَالْعَصْرِ)، ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ»[3].
وذلك لما اشتملت عليه من العلوم والمعارف التي يحتاجها الناس أفرادا وجماعات، ولما فيها من قضايا الإيمان والعمل الصالح، وما ينبني عليها من التواصي بالحق، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالصبر على ذلك؛ فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر، دلالة على الزمن الذي يطوي الخلق والأمر، ولا تتصور الحياة إلا مشمولة به بدايات ونهايات. إن الإنسان (بمعنى الجنس البشري) لفي خسر وضلال وعنت في الدنيا والآخرة؛ إلا المتصفين بهذه الصفات الأربع، التي هي طريق الحياة الطيبة وحبل النجاة وطريق الفوز في الدارين؛ وهي:
أولا: الإيمان الصادق؛ وهو: الاعتقاد الجازم واليقين الجامع لكل خواطر النفس، والمُحرر لها من أهوائها وأنانيتها، والمُخلِّص لها من نزواتها وشبهاتها وشهواتها، والمؤدي إلى التسليم والتفويض والطمأنينة والسكينة، والحامل على مراقبة الله تعالى في السر والعلانية؛ روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُواْ»[4].
ثانيا: العمل الصالح؛ ويشمل العبادات والمعاملات والسلوك عامة؛ ووَصْفه العمل بـ(الصالح) يقتضي كونه موافقا للسنة؛ كما قال الله تعالى:
﴿لِيَبْلُوَكُمُۥٓ أَيُّكُمُۥٓ أَحْسَنُ عَمَلاٗۖ﴾[5].
قال الفضيل بن عياض: أَيْ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قِيلَ: مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: اَلْخَالِصُ إِذَا كَانَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ»[6].
قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ اَ۬لْجَنَّةُ اُ۬لتِےٓ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَۖ[7].
ثالثا: التواصي بالحق:
فإذا تحقق المسلم بهاتين الصفتين: الإيمان الصادق والعمل الصالح المؤديين إلى الحياة الطيبة، والمخرجين للعبد من داعية هواه إلى الإخلاص في طاعة مولاه، انتقل حينئذ إلى الصفتين الأخيرتين من أجل الانخراط والإسهام في إصلاح مجتمعه.
والانخراط في الشأن العام وهو ما يسميه القرآن الكريم بالأمر الجامع، يقتضي التحرر من صفات الإهمال والوهن والتواكل والغش والأنانية.
ولا يعني الاهتمام بالشأن العام والانخراط في خدمته الخروج عن ثوابت الأمة، والتغريدَ خارج السرب، ولا النظرَ من زاوية الهوى وحب الظهور والخلاف من أجل الخلاف، فهذه الصفات السلبية تهدم ولا تبني، وتفرق ولا تجمع، وتفسد ولا تصلح، وقد قال الله تعالى:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُواْ فِے اِ۬لَارْضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَۖ أَلَآ إِنَّهُمْ هُمُ اُ۬لْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَۖ[8].
فالحق اسم من أسماء الله تعالى؛ كما قال سبحانه:
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اَ۬للَّهَ هُوَ اَ۬لْحَقُّ[9]،
ثم أطلق اسم الحق على كل ما يحبه الله ويرضاه من النيات والأقوال والأفعال، وما سواه زائل وباطل مضمحل.
ومن معاني التواصي بالحق: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وآدابه وضوابطه؛ فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ…»[10].
فيكون ذلك مؤثرا باليد لمن له السلطة والقضاء والفصل بين الناس، وباللسان للعلماء بشرط العلم والمعرفة الكافية لمآلات الأمور، وما يترتب عن كل أمر أو نهي من المصالح، وما يدرأ به من المفاسد، كما يكون بالقلب وامتثال الأمر واجتناب النهي، وتكثير سواد المصلحين واجتناب مجالس المفسدين؛ فذلك من أنجع وأسهل طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله؛ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني اللين للناس لا الغلظة، والرفق لا العنف، والتيسير لا التعسير، والتدرج لا العجلة؛ مع الأولاد في البيت، والزملاء في العمل، وعامة الناس في الشارع وسائر المرافق؛ وبذلك يغلب الخير على المجتمع ويسود الحياء والوقار، ويقل الفساد وتضمحل أسبابه أو تزول، والموفق من وفقه الله، والعبرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يبدأ الشخص بنفسه فيأمرها وينهاها.
نفعني الله وإياكم بقرآنه المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بدر التمام، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم على الدوام.
عباد الله؛ اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن الصفة الرابعة لمن استثناهم الحق سبحانه من الخسران والضياع والهلاك، هي صفة التواصي بالتحمل والصبر على البلوى:
رابعا: التواصي بالصبر؛ والصبر هو إكسير مكارم الأخلاق، وكيمياء سائر الوقائع والأحداث الذي يحولها إلى المغانم لا المغارم، وإلى المكاسب لا المصائب؛ ولذا قال النبي ﷺ: «
وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»[11].
به يستضيء المؤمن في دجى الحوالك، وينجو من مهاوي المهالك، وهو على العبادة طاعة، وللبلاء رضى وقناعة، وعن المعاصي عفةٌ ومناعة، فهو يدور مع المؤمن حيثما دار، ويحميه من نزوات الغضب والأنانية والأثرة ويُحَلِّيه بالإيثار.
ولذا ورد التواصي به مقرونا بالتواصي بالحق؛ لأن الدعاة إلى الله وأولياء الأمور أحوج إلى الصبر من غيرهم؛ لما قد يجدون في طريقهم من المكاره وردود الأفعال، وأسوتهم رسول الله ﷺ الذي يقول:
«اَللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»[12].
ممتثلا قول الحق سبحانه:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ اُ۬لْعَزْمِ مِنَ اَ۬لرُّسُلِ﴾[13].
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، وأخلصوا في التواصي بالحق والتواصي بالصبر تسعدوا، وأكثروا من الصلاة والسلام على إمام الصابرين، وقدوة الناصحين سيدنا محمد؛ فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، وارض اللهم عن آله الطيبين، وعن خلفائه الراشدين المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصحابة أجمعين، خصوصا الأنصار منهم والمهاجرين، وعنا معهم بفضلك وإحسانك يا رب العالمين.
وانصر اللهم بنصرك المبين، من وليته أمر عبادك، مولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمدا السادس، اللهم احفظه بحفظ كتابك، وبارك له في الصحة والعافية، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولانا الحسن، مشدود الأزر بصنوه السعيد، الأمير الجليل مولانا رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
وارحم اللهم بجودك وإحسانك، وكرمك وامتنانك، الملكين الجليلين مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم ارفع مقامهما في أعلى عليين، واجزهما خير ما جزيت محسنا عن إحسانه.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعلنا من المتواصين بالحق والصبر سعيا في رضاك، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، امتثالا لأمرك واجتنابا لنهيك. ورغبة في صلاح المعاش والفوز في المعاد.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وسائر موتانا وموتى المسلمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
[1] – العصر 1-3.
[2] – كتاب (روح المعاني) للألوسي؛ تفسير سورة العصر 15/457
[3] – الطبراني في المعجم الأوسط5/215.
[4] – صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون 1/74؛ رقمه في منصة الحديث: 73.
[5] – الملك 2.
[6] – كتاب (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) للثعلبي؛ عند تفسير سورة الملك.
[7] – الزخرف 72.
[8] – البقرة 10-11.
[9] – الحج 6 – 60، ولقمان 29.
[10] – صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان1/50.
[11] – صحيح مسلم كتاب الطهارة باب فضل الوضوء 1/203؛ رقمه في المنصة: 293.
[12] – كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض1/81.
[13] – سورة الأحقاف 34.






