You may also like
Page 1 of 7
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها السادة الأئمة الفضلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
سعيد بالتواصل معكم مرة أخرى في رحاب آي الذكر الحكيم، للاستهداء بكريم آياته، والاستنارة بجميل معانيه وإشاراته، تحت عنوان: “شرط الإيمان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” انطلاقا من قوله تعالى:
﴿وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَٰتُ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَيُوتُونَ اَ۬لزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ اَ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۖ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ﴾ [التوبة: 72].
الهداية الأولى: في سياق الآية.
هذه الآية الكريمة جاءت في سياق خاص، وهو الحديث عن حال المسلمين في غزوة تبوك، التي كشفت عوار المنافقين الذين خالفوا رسول الله ﷺ، ونكصوا على أعقابهم، فجاءت الآيات تتحدث عنهم وعن المؤمنين حقا، فبينت أن المنافقين بعضهم من بعض؛ ولذلك تمالؤوا على مخالفة الرسول ﷺ، والمؤمنون على العكس من ذلك، إذ ناصروه وساروا معه خطوة خطوة، محذرين مما صنع المنافقون. فاستحقوا من الله تعالى أن يعدهم وعدا صادقا برحمته في الدنيا والآخرة ﴿أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ﴾.
الهداية الثانية: الإيمان شرط لما سواه من الطاعات.
تهدي الآية الكريمة إلى أن الإيمان هو الشرط الأول والأساس لأي عمل يمكن أن يقوم به المسلم؛ لأنه بذلك الإيمان، إنما يُنفِّذُ أمر الله تعالى في كل حركة أو سكون، ولذلك افتتحت الآية بهذه الصفة: ﴿وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَٰتُ﴾؛ أي: المتصفون بهذه الصفة، لا غيرهم، رجالا كانوا أو نساء، هم من تكون لهم الوَلاية لله فيما بينهم، وهم القادرون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتجردهم من هوى النفس والأنانية والأثرة، وكل ما يمكن أن يبعدهم عن الحق والصواب. وهذا يجعل الإيمان أساسا للبناء عليه في سائر الأحوال، كما جاء في كثير من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪ىٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ اَ۬لْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراٗۖ﴾ [النساء: 123]، وقوله عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪ىٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗ﴾ [النحل: 97]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنَ اَرَادَ اَ۬لَاخِرَةَ وَسَع۪ىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراٗۖ﴾ [الإسراء: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلْماٗ وَلَا هَضْماٗۖ﴾ [طه: 109]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِۦۖ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَۖ﴾ [الأنبياء: 93]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪ىٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ اَ۬لْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٖۖ﴾ [غافر: 40].
فهذه الآيات، وغيرها كثير، مُجمِعة على شرط الإيمان في العمل الصالح من أجل تحقيق الحياة الطيبة في الدنيا والفوز برضوان الله والنعيم المقيم في الآخرة.
الهداية الثالثة: في معنى الوَلاية بين المومنين.
مما تهدي إليه الآية الكريمة أن الولاية بين المومنين ضرورية من أجل النصرة والتأييد للإسلام وأهله، والوقوف إلى جانب الحق ونصرته، والبعد عن الباطل وأهله، يقول ابن جزي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿بَعْضُهُمُۥٓ أَوْلِيَآءُ بَعْضٖۖ﴾ في مقابلة ﴿اَ۬لْمُنَٰفِقُونَ وَالْمُنَٰفِقَٰتُ
بَعْضُهُم مِّنۢ بَعْضٖ﴾، ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية([1]).
وذلك لأن الولاية نصرة وتضحية من أجل الإسلام والمسلمين، والمنافق لا يستطيعها، وإن تمالأ على الحق بتأييد الباطل، فأمَر بمُنكر أو نهى عن معروف.
الهداية الرابعة: الأمر بالمعروف.
المعروف في الشرع هو كل ما ندب إليه الحق سبحانه، أو رسوله ﷺ وأمر به، وأثنى عليه، وسمي معروفا لقبوله شرعا وعقلا، وأعظم معروف الإيمان بالله تعالى وإقامة شعائر دينه كالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وحسن الجوار وبذل المعروف، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان.
والمنكر ضده، وهو ما نهى عنه الشرع، وحذر منه ومن سوء عاقبته، واستقبحته العقول الراجحة والطباع السليمة، كالشرك، والكفر، والمعاصي، ونكران الجميل، وسوء الظن، والاعتداء على الآخرين، وغيرها من المعاصي، والآثام.
الهداية الخامسة: إقام الصلاة.
من أبرز ما تهدي إليه الآية وتشيد به إقام الصلاة، والمراد بإقام الصلاة أداءها في وقتها والمحافظة على شروطها وأركانها وسننها والخشوع فيها، وهذه صفة مباينة لما عليه المنافقون من التكاسل عن الصلاة والذكر، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى اَ۬لصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَال۪ىٰ يُرَآءُونَ اَ۬لنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اَ۬للَّهَ إِلَّا قَلِيلاٗ﴾ [النساء: 141].
فكأن الآية تحدد الصفاتِ الفارقةَ بين المؤمنين والمنافقين، فبدأت بالصلاة باعتبارها علامة الإيمان الصادق، وتركُها علامة على النفاق كما قال ابن مسعود ﭬ: «وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق»([2]).
الهداية السادسة: إيتاء الزكاة.
من هدايات الآية أن الزكاة من أوصاف المؤمنين، وشرط لصحة ولايتهم، كما قال الله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ اُ۬لزَّكَوٰةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِے اِ۬لدِّينِۖ﴾ [التوبة: 11].
والزكاة من أثقل الأعمال على المنافقين، لكونها مالا يستخرج من أموالهم لفائدة الفقراء والمساكين، وهذا أمر أثقل ما يكون على مَنْ فقد الإيمان؛ لأن العطاء والسخاء والبذل يكون بغير عوض هنا في هذه الدنيا، ولا يسخو به إلا من أراد الله والدار الآخرة، وتيقن بالعوض الأوفى عند رب العزة، مصدقا بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَےْءٖ فَهُوَ يُخْلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيْرُ اُ۬لرَّٰزِقِينَۖ﴾ [سبأ: 39]، وقوله جل شأنه: ﴿وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِ هُوَ خَيْراٗ وَأَعْظَمَ أَجْراٗۖ وَاسْتَغْفِرُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ﴾ [المزمل: 18].
والمنافق بعيد عن هذا المعنى، وهذا الأفق الرحب الواسعِ، الممتد ما بين الدنيا والآخرة، الجامع بين عالَمَيْ الغيب والشهادة.
ولذلك كان المرتدون زمن أبي بكر الصديق بدؤوا بتعطيل الزكاة ووصفوها بأنها أخت الجزية، وعزم أبو بكر رضي الله عنه، على قتالهم لتفريقهم بين الصلاة والزكاة، ووافقه على ذلك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بإجماع.
وإيتاء الزكاة دليل على التحرر من الشح والبخل والأثرة، ومن آتى الزكاة طيبة بها نفسه، لن يقف عندها، بل يتجاوزها لينفق في أبواب التبرعات أضعافا مضاعفة؛ حيث يجد للعطاء لذة هي أعظم وأحلى من لذة الأخذ عند الأشحاء والبخلاء ﴿وَيُوثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۖ وَمَنْ يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَۖ﴾ [الحشر: 9].
الهداية السابعة: طاعة الله ورسوله ﷺ.
طاعة الله ورسوله ﷺ لها معنى عام، يجمعه الإيمان الصادق والعمل الصالح، وذِكْرُها هنا بعد ذكر مجموعة من الطاعات لبيان أن من مميزات المؤمنين أنهم يطيعون الله ورسوله ﷺ بلا نقاش، بينما المنافقون يجادلون ويكذبون ويستهزءون، فرحين بذلك، كما فصلت سورة التوبة موردُ هذه الآية، التي فضحتهم ووسمت سلوكهم بالمخالفة لله ولرسوله ﷺ: ﴿فَرِحَ اَ۬لْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَٰفَ رَسُولِ اِ۬للَّهِ وَكَرِهُوٓاْ أَنْ يُّجَٰهِدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ وَقَالُواْ لَا تَنفِرُواْ فِے اِ۬لْحَرِّۖ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاٗ لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَۖ﴾ [التوبة: 82].
ففي قوله تعالى في وصف المؤمنين: ﴿وَيُطِيعُونَ اَ۬للَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۖ﴾ تعريض بالمنافقين، وبيان لضلالهم ومجانبتهم الحق.
الهداية الثامنة: استحقاق أهل الإيمان لرحمة الله تعالى.
أخبر الله تعالى عن المؤمنين المتصفين بالصفات السابقة بأنهم هم وحدهم المستحقون لرحمة الله، فقال جل شأنه: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اُ۬للَّهُۖ﴾. ورحمة الله تعالى هي الباب الأوسع للحياة الطيبة؛ إذ الرحمة تتنزل على القلوب المطمئنة بالإيمان، فتعمل الجوارحُ وَفْقَه في سائر الأعمال، فيسعد المؤمن بما ينبعث من قلبه من الأمن الداخلي، ويكون بذلك سعيدا مهما كانت الظروف والأحوال؛ لقول النبي ﷺ: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له([3])».
الهداية التاسعة: في مسك ختام الآية.
اختار الله تعالى، وله الخيرة في أمره كله، أن يختم هذه الآية الكريمة بقوله جل ذكره: ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ﴾.
ومن هدايات هذه الخاتمة أن الله تعالى عزيز بعزته ينفع المؤمنين ويرحمهم، وبحكمته يضع الجزاء المناسب لمستحقيه، وجملة ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ﴾ تعليل لجملة سيرحمهم الله. ومن كان بجانبه المتصفُ بالعزة والحكمة، فلا شك أنه مرحوم ومنصور. ﴿وَلِلهِ اِ۬لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُومِنِينَۖ وَلَٰكِنَّ اَ۬لْمُنَٰفِقِينَ لَا يَعْلَمُونَۖ﴾ [المنافقون: 8].
صدق الله العظيم وبلغ مولانا رسوله المصطفى الأمين، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([1]) التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، 1/613.
([2]) صحيح مسلم باب صلاة الجماعة من سنن الهدى 1/453.
([3]) صحيح مسلم كتاب الآداب، باب المؤمن أمره كله خير، 8/227.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.