You may also like
Page 1 of 5
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أيها السادة الأئمة الكرام السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، إن حصة اليوم سكون حول بيعة الرضوان، نسرد بعض أسباب البيعة نقلا عن ابن هشام بتصرف يسير، ثم نذكر ما يمكن أن يستفاد منها. قال ابن إسحاق: “ثم أقام رسول الله ﷺ بالمدينة شهر رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا… ثم قال: “وساق معه الهدي سبعين بدنة”([1]) أي: مما يدل على أنه جاء معظما للبيت. وأرسل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ لمكانته من قومه ليخبرهم بذلك.
قال ابن إسحاق: “فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله ﷺ إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ. واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل”([2]).
أقول: فكان هذا الحدث سبب بيعة الرضوان، وأما الحديث عنها فقد قال ابن هشام: “قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ، قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة… فبايع رسول الله ﷺ الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس([3])… ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل([4]).
وجاء في صحيح البخاري وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله ﷺ بيده اليمنى: «هذه يد عثمان». فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان([5])». انتهى المراد منه.
وفي هذه البيعة نزلت بعد الانصراف منها ومن الحديبية سورة الفتح، قال تعالى ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاٗ مُّبِيناٗ لِّيَغْفِرَ لَكَ اَ۬للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَٰطاٗ مُّسْتَقِيماٗ وَيَنصُرَكَ اَ۬للَّهُ نَصْراً عَزِيزاًۖ هُوَ اَ۬لذِےٓ أَنزَلَ اَ۬لسَّكِينَةَ فِے قُلُوبِ اِ۬لْمُومِنِينَ لِيَزْدَادُوٓاْ إِيمَٰناٗ مَّعَ إِيمَٰنِهِمْۖ﴾ [الفتح: 1-4]، قال ابن عجيبة ــ رحمه الله ــ وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقا وإيجادا، قيل: المراد به فتح مكة، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه، بشر به ﷺ عند انصرافه من الحديبية.
والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع، للإيذان بتحققه تأكيدا للتبشير، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به- وهو الفتح- ما لا يخفى.
وقيل: هو فتح الحديبية، وهو الذي عند البخاري عن أنس، وهو الصحيح عند ابن عطية، وعليه الجمهور([6]). والمراد في قوله فتح الحديبية بيعة الرضوان يوم الحديبية؛ لأنه هو الذي عند البخاري، فعن البراء رضي الله عنه، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي ﷺ أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأتاها، فجلس على شفيرها ثم «دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا»([7]).
قال في إرشاد الساري: لأنها كانت مبدأ الفتح العظيم المبين لما ترتب على الصلح الذي وقع من الأمن ورفع الحرب وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما، وتتابعت الأسباب إلى أن كمل الفتح([8]).
وقال تعالى فيها أي: بيعة الرضوان: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ اَ۬للَّهُ عَنِ اِ۬لْمُومِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ اَ۬لشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِے قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ اَ۬لسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَٰبَهُمْ فَتْحاٗ قَرِيباٗ﴾ [الفتح: 18].
ولقد كانت بيعة الرضوان فتحا مبينا ونصرا عزيزا للمومنين في الدنيا، وأنعم الله عليهم بأفضل من نعيم الجنة في الآخرة التي فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر([9])» ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله تبارك وتعالى يقول: لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
أيها السادة الأئمة الكرام إن من أسمى ما يسعى إليه المومن أن يرضى الله عنه وإننا إن لم نكن من أهل بيعة الرضوان فلنا أمل في الله كبير فإن رضاه مما وعد الله به المومنين، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اَ۬للَّهُ اُ۬لْمُومِنِينَ وَالْمُومِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجْرِے مِن تَحْتِهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِے جَنَّٰتِ عَدْنٖۖ وَرِضْوَٰنٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ أَكْبَرُۖ ذَٰلِكَ هُوَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ﴾ [التوبة: 73]. وإننا لنرجوا أن نلحق بهم وإن سبقونا، قال الله جل شأنه: ﴿وَالسَّٰبِقُونَ اَ۬لَاوَّلُونَ مِنَ اَ۬لْمُهَٰجِرِينَ وَالَانص۪ارِ وَالذِينَ اَ۪تَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٖ رَّضِيَ اَ۬للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُۖ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٖ تَجْرِے تَحْتَهَا اَ۬لَانْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَداٗۖ ذَٰلِكَ اَ۬لْفَوْزُ اُ۬لْعَظِيمُۖ﴾ [التوبة: 101]، وإنما قلت من أسمى ما يسعى إليه المومن لأن أسمى ما في الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى ففي صحيح مسلم عن صهيب، عن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ([10])».
السادة الأئمة الكرام
إن مما يستفاد من بيعة الرضوان:
ـــ أن طاعة الله ورسوله وأولي الأمر في المنشط والمكره والتفويض سبب الفتح المبين في كل شيء، لأن أحداثا وقعت في الحديبية كما سيأتي حركت المواقف ولم ينفع معها إلا الطاعة، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ اُ۬للَّهَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ وَأُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنكُمْۖ ﴾ [النساء: 58].
ــ أن ما يكره الإنسان قد يكون خيرا له وأن ما يحبه قد يكون شرا له قال تعالى ﴿وَعَس۪ىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَئْاٗ وَهُوَ خَيْرٞ لَّكُمْۖ وَعَس۪ىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَئْاٗ وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمْۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُۖ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَۖ﴾ [البقرة: 214].
فقد كره الصحابة رضي الله عنهم أن يرجعوا دون أن يدخلوا مكة للعمرة فأثابهم الله خيرا منها فتحا قريبا يكون سبب دخولهم إليها كلما شاؤوا. وأصابهم حزن لما حرموا من ثواب العمرة فأعطاهم رضاه وهو أكبر.
وفي البحر المديد “فتنافس الأبرار في حيازة النعيم، وتنافس المقربين في حيازة المنعم، تنافس الأبرار في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله من أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين.
قال ابن رجب ومما يخافه العارفون فوات الرضا عنهم، وإن وجدوا العفو أو ترك العقوبة، فإن الرضا أحب إليهم من نعيم الجنة كله مع الإعراض وعدم التقريب والزلفى، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِے جَنَّٰتِ عَدْنٖۖ وَرِضْوَٰنٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ أَكْبَرُۖ﴾ [التوبة: 73]، يعني: أكبر من نعيم الجنة. فاللهم ارزقنا رضاك آمين والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
([1]) السبرة النبوية لابن هشام 4/275و276 و282و283 بتصرف بحذف وإضافة.
([2]) السبرة النبوية لابن هشام 4/282.
([3]) السبرة النبوية لابن هشام 4/283.
([4]) السبرة النبوية لابن هشام 4/283.
([6]) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي 5/383.
([8]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري لأحمد بن محمد القسطلاني14/346.
([9]) جزء من حديث رواه البخاري 4/118 ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: قال الله «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين».
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.