جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

موعظة المحاسبة مدخل لإصلاح النفوس

محاسبة النفس شرط في إثمار العبادة

 


 

الحمد لله آمر المؤمنين بالتقوى، وبمحاسبة أنفسهم لما قدمت ليوم الطامة الكبرى، اللهم يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك القديم الأقوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفرد الصمد الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله الأطهر الأنقى، وصفيه وخليله الحب الأوفى، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد أولي النهى والهدى، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الجزاء والأخرى، وأحثكم أيها المسلمون على ذكر الله تعالى وأوصيكم بالتقوى.

أما بعد، 

أيها المؤمنون، يقول الله تعالى في قصة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: » وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي »، تأملوا في لُطْف الله بالإنسان أن قال عن النفس بأنها أمَّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس؛ فهي ليستْ آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر، لا بل هي دائماً أمَّارة بالسوء ما أحياه الله تعالى، مما يحتم عليه الانتباه والحذر من نفسه بشكل دائم، والعمل على محاسبتها، بل أن يجعل المحاسبة مبدأ أساسيا في حياته إلى أن تزكى، ذلك إذا أراد النجاة والسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة.

فالمسلم الصادق وفي إطار علاقته بخالقه تعالى، تشوش عليه نفسه التي بين جنبيه، فلا تجده مرتاح البال مطمئن الحال وهو يتلبس بطاعته لربه، فكثيرا ما تعكر عليه نفسه المزاج عندما تزين له المعصية بين الحين والآخر، وتأمره باقتراف أنواع المعاصي والزلل، فلا يعرف ماذا يفعل؟ هل يطيع ربه أم يطيع نفسه؟ فكيف للمرء إذن أن يروض نفسه ليصل بها إلى طاعة ربه، ويستمر على ذلك إلى أن يلقاه على خير؟.

وبذلكم تعد النفس الأمارة بالسوء من أهم العوائق التي تعوق الإنسان عن الوصول إلى حالة الاطمئنان في علاقته بربه والشعور بالسعادة القلبية، قال الإمام الغزالي رحمه الله: » أعداء الإنسان ثلاثة: الدنيا والشيطان والنفس، فحارب الدنيا بالزهد فيها، وحارب الشيطان بدفعه، وحارب نفسك بمجاهدتها « .

 أيها المؤمنون، إن ما ترون من معاناة الناس في كثير من الميادين ما هو إلا نتيجة لقلة من يحاسب نفسه وجعل المحاسبة الدقيقة مبدأه، فلو كان ديدن الناس محاسبة أنفسهم لما عاقهم عائق ولما اعترض طريقهم أي شيء، وعند التأمل بعمق تجدهم جمعوا بين التقصير والتفريط والأمن في جنب الله تعالى، وهذه كلها عند اجتماعها أمور مهلكة غاية الإهلاك، فيكفي أن تدققوا النظر في أصحاب التجارات والأسباب مثلا، فلو لم تكن لهم أوقات خاصة لحساب الربح والخسارة لما ظهرت لأعمالهم نتائج وثمرات، هذا في أمور الدنيا وقس على ذلك أمور الآخرة. 

فقد ابتلي الإنسان بعبادة هوى نفسه شعر أم لم يشعر، وتحقق فيه قوله عز وجل: » أفرآيت من اتخذ إلهه هواه »، وقد كان الربانيون من الصالحين رحمهم الله، لا يجتهدون إلا فيما يميت نفوسهم ويحيي قلوبهم، وكانوا يحرصون أشد الحرص على ترك شهواتهم وإسقاط منزلة أنفسهم محاسبة وتأديبا لها، والعجب كل العجب من الذي يحرص على ما يميت قلبه ويحيي نفسه، بإجابة نداء شهوته ورفعة منزلة نفسه دائما وأبدا، ولنعلم إذن أن محاسبة النفس وإسقاط منزلتها ومجاهدتها وتأديبها عند العقلاء شرط لازم أول في طريق السير إلى الله تعالى.

أيها المؤمنون، حسبكم ما تشاهدونه من حالات النفس القبيحة ورداءة إرادتها وسوء اختيارها، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرتم بتزكيتها وتقويمها وتعديلها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتموها جمحت وعصت وشردت ولم تظفروا بها بعد ذلك واحتاجت إلى معالجة شديدة، فلا تشتغلوا بوعظ غيركم مالم تشتغلوا أولا بوعظ أنفسكم، فقد ورد أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: » يا ابن مريم عظ نفسك فان اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني »، رواه الإمام أحمد في الزهد عن مالك بن دينار.

 ومن هنا وجب القول بأن كل من كان أوفر عقلا وأجل قدرا عنده تعالى كان أبصر بعيوب نفسه، ومن كان أبصر بها كان أعظم اتهاما لنفسه وأقل إعجابا إلى أن تتزكى وتعرف ربها. ولا يمكن الوصول إلى تزكيتها إلا بالمحاسبة وبالمداومة على الحوار معها وطرح الأسئلة عليها، بحيث لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيتها عليها، ماذا قدمت؟، وفي ماذا قصرت؟، وهل ازددت من الله قرباً أم بعدا؟، وهكذا دواليك. 

أيها المؤمنون، اتفق الربانيون على أن محاسبة ومجاهدة النفس والانتقال بها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة، ثم إلى نفس مطمئنة، ثم إلى نفس راضية، ثم إلى نفس مرضية، ثم إلى نفس كاملة، يحتاج إلى طول متابعة ومحاسبة ومجاهدة وترويض دائم، وذلكم بكثرة اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به عليها ومخالفتها وملازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة، فلا ينبغي إذن أن تغفلوا عن تذكيرها ومعاتبتها إلى أن تلقوا الله تعالى على خير.

وتأملوا تجدوا بأن أصل كل فتنة وبلية وفضيحة وهلاك وذنب وآفة وقع في خلق الله تعالى من أول الخلق إلى يوم القيامة، مرجعه إلى النفس الأمارة بالسوء، إما بها وحدها أو بمعاونتها ومشاركتها ومساعدتها، وإلا كان الخلق في سلامة وخير، فأول معصية لله تعالى كانت من إبليس اللعين، وكان سببه هوى النفس بكبرها وحسدها فعملت به ما عملت، ثم إن ذنب آدم وحواء عليهما السلام كان هو شهوة النفس وحرصهما على البقاء والحياة حتى اغترا بقول إبليس، فكان ذلك بعون النفس، فسقطا بذلك من جوار الله تعالى وقرار الفردوس إلى الدنيا الفانية المهلكة ولقيا ما لقيا، ولقي أولادهما ما لقوا من ذلك اليوم إلى أبد الآبدين، ثم دققوا في قصة قابيل وهابيل، حيث كان السبب في أمرهما الحسد والشح، وأمعنوا النظر في قصة هاروت وماروت، حيث كان السبب في شأنهما الشهوة، ثم هلم جرا إلى يوم القيامة.

وقد أحسن من شبه النفس الأمارة بالسوء في حال الشهوة بالبهيمة، وفي حال الغضب بالسبع المفترس، وفي حال نزول المصيبة بالطفل الصغير في البكاء والجزع وعدم الصبر على ما أصابها مع جهلها لقضاء ربها وحكمه، وفي حال النعمة والسعة في العيش، بفرعون في التكبر والعلو في الأرض، وبالجنون والتحير والصياح في حال الجوع، وبالاختيال والتكبر والبطر والطغيان وقضاء الشهوة والمرح في حال الشبع. 

 وإذا كان عدو بهذا الضرر كله، فحق للعاقل أن يهتم بأمره كما اهتم بذلك الصالحون من الناس، وذلكم لن يتأتى إلا بمحاسبة النفس ومجاهدتها ومخالفتها في شهواتها حتى تذعن لاتباع الحق وتسكن تحت الأمر التكليفي، ويعرف صاحبها دسائسها الخفية الدقيقة من الرياء والعجب والشرك الخفي وحب الرياسة والغرور ورؤية الإخلاص وادعاء المقامات في جنب الله وغيرها من الأمراض القلبية، وتزول عنها الشهوات وتصير ذليلة، وتتبدل صفاتها المذمومة بالمحمودة، وتتخلق بأخلاق الله تعالى الجمالية من الرأفة والرحمة واللطف والكرم والود وغيرها، ويستوي عندها المدح والدم، وترضى بكل ما يقع في الكون من غير اعتراض أصلا.

ولا يتوقف العبد صاحب الهمة العالية عن المحاسبة عند هذا الحد، بل يستمر فيها مع لزوم مراقبة الله تعالى وذكره والالتجاء إليه والاستعاذة به من الأمراض القلبية الخفية، ويجعل شعاره قوله تعالى: « وأن إلى ربك المنتهى »، حتى يصل منازل الأبطال، ويخلف الدنيا وراء ظهره، ويدخله ربه في عباد الإحسان، الذين يعبدونه كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، هؤلاء الذين لا يفترون عن العبادة في حين من الأحيان؛ لأنها صارت طبعهم، إما باللسان وإما بالجنان وإما بالأركان؛ فحركاتهم حسنات، وأنفاسهم عبادات؛ فهم محفوظون من الوقوع في المخالفات لحضورهم الدائم مع الله في جميع الحالات، وقد أكرمهم مولاهم بمختلف الإشراقات والتجليات، قال الله تعالى: » يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي »، أسأل الله تعالى أن يعرفنا بأنفسنا، وأن يزكيها هو خير من زكاها هو وليها ومولاها، أمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

 

الخطبة الثانية: 

الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد، أيها المؤمنون، روى الإمام الترمذي وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله »، ومعنى دان نفسه: أي حاسبها، فبمحاسبة النفس بشكل دائم يهتدي العبد ويطيع ربه، ويصبح ديدنه الانتقال من عبادة إلى عبادة دون كلل أو ملل، ولا تجده إلا متقيا عابدا لربه، فاعلا للطاعات، متجنبا للسيئات.

أيها المؤمنون، في هذا الجانب ولكي تعطي المحاسبة أكلها في إثمار العبادات، ينبغي التركيز على جانب اجتناب المعاصي أكثر، لأنه الأثقل على النفس من القيام بالعبادات، وهو الأسلم والأصلح والأفضل والأشرف للعبد، ولذلك كان أكثر ثوابا منه، فالطاعة يقدر على فعلها كل أحد، وترك المناهي لا يقدر عليه إلا الصديقون كما نبه على ذلك الربانيون من العلماء، ولذلكم كان اجتناب المعاصي أولى بالرعاية والاجتهاد فيه، وإن قدر العبد على القيام بالطاعات واجتناب النواهي، فقد استكمل أمره وحصل مراده، وقد سلم وغنم وربح ربحا عظيما، ومن حرص على الطاعات فقط دون اجتناب المعاصي خسر خسرانا مبينا، وليس ينفعه قيام ليل وصيام نهار طويل وتعب ذكر وأوراد وغيرها، لأنه قد يحبطه بإرادة واحدة من الرياء والعجب والحسد ونحوها من الصفات المهلكات، فالعبادات التي لا أثر لها في صلاح أحوالنا وحياتنا عبادة غير نافعة. وتمام التقوى كما تعلمون امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لأنها ملاك أمر الدين.

ومثل ذلك مثل معالجة المريض، فمداواته تحتاج إلى الدواء ثم إلى الاحتماء، بالامتناع عما يضره، فإن اجتمعا معا، برئ المريض وتعافى وشفي من مرضه، وإن لم يجتمعا، اكتفى بالاحتماء لأنه أولى، إذ لا ينفع دواء مع ترك الاحتماء، في حين ينفع الاحتماء مع ترك الدواء.

واعلموا ختاما أنه لا يمكن أن تحاسب نفسك وتجاهدها ويتركك الله تعالى لوحدك في معاناتك ومكابدتك ومجاهدتك، قال تعالى على لسان نبيه الكريم في الحديث القدسي الصحيح:  » … وإن تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة… » الحديث.

اتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على النبي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وباركت على سينا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وانصر اللهم من قلدته أمر عبادك، عبدك الخاضع لجلالك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، اللهم انصره نصرا عزيزا تعز به الدين، وتعلي به راية الإسلام والمسلمين، اللهم سدد خطاه وحقق مسعاه، ووفقه لما تحبه وترضاه، واحفظه اللهم في ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، كما نسألك أن تشد عضد جلالته بشقيقه صاحب السمو الملكي الأمير السعيد مولاي رشيد وسائر أسرته الملكية الشريفة.

اللهم تغمد برحمتك الواسعة الملكين الجليلين مولانا محمد الخامس ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما وأكرم مثواهما وبوئهما مقعد صدق عندك.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين