
❏ بفضل من الله تعالى وتيسيرمنه، أصدرت المؤسسة العلمية مجلة « الجذوة » في عددها الأول، مدشنةً به نمطاً من الإصدارالعلمي المحكَّم في البحوث والدراسات. وها هي ذي تستأنف إصدارها، بذات النفَس العلميّ، ونفس الاسم الدّال على اليقَظة والحضور، مسهمةً بذلك في إغناء رصيد الكتب والمجلات الخادمة لثوابت الأمة الدينية بالأساس، والمنفتحة على سائرالعلوم والدراسات في الحقل الديني، والاجتماعي الإنساني، والنظُم المعرفية والمنهجية الراهنة، وكل ما هو إيجابي من العطاء والإبداع المعاصر.
وتستلهم « الجذوة » منظورها هذا من هدايات الدين إلى الصلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، التي لم تترك مجالا في حياة الناس إلا وأرشدت فيه إلى التي هي أقوم. منظور قائم على أساس الجمع بين عالم الغيب المقوم لعالم الشهادة، والدين النافع في الحياة الدنيا، والإيمان المثمرللعمل الصالح، والعبادات المزكية للنفوس والمصلحة للأحوال. منظور جامع وموحد بين العلوم والمعارف باعتبارأن الفاعل فيها والمنتج لها والمقصود بثمراتها هو الإنسان، وباعتباركونها كلها نظراً في آيات الله تعالى المبثوثة في النص وفي الآفاق وفي الأنفس، ومن ثم تكاملها وتعاضدها وليس تقابلها وتنازعها، كما هو سائد اليوم في كثيرمن نماذج المعرفة والثقافة.
اختص هذا العدد من مجلة « الجذوة » بملف غني بالدراسات والبحوث عن إمارة المؤمنين، الثابت الراسخ والمتوارَث في هذا البلد الأمين، الذي به يُحْمى الدين، وبه تُصان وتخدَم باقي الثوابت، وبه تُدْفع شُبَهُ المنازعات والتأويل، وبه يُحسم سؤال الشرعية والتمثيل. حيث تعاضَدَ في مقاربة هذا الملف التأصيلُ لشرعية هذا الثابت، والملاءمةُ مع نظم الدولة الحديثة، وامتيازُ الخصوصية المغربية في تديُّنها الوَسطيّ المعتدل. وتَسعَدُ المؤسسة العلمية أيما سعادة، وتَشْرُف أيَّما شرَف، بأن يكون هذا الملف حاضرا في هذا العدد المستأنف، وهي التي يرأسها مولانا أميرالمؤمنين دام له العزّوالنصروالتمكين.
وفضلًا عن هدية العدد التي تضمنت كتاباً نفيساً في موضوعه، قويّاً في طرحه ومعالجته، من توقيع فضيلة العلَّامة الدكتور مصطفى بن حمزة بعنوان “العالِم العضويّ أو العالِم في مجتمعه”؛ فإن هذا العدد اغتنى كذلك ببحوث تخدم محور الثوابت الدينية التي اختص بها هذا البلد عبرالتاريخ، والتي نسجت لحمته وصاغت هويته، وأضحت جزءاً لا يتجزأ من وجوده المادي والمعنوي. ويكفي أن نذكر في فضل هذه الاختيارات المذهبية أنها رعاية وهداية ولطف وعناية من الله تعالى بهذا البلد، أن وفقه إلى محاسن الاختيارات التي شاعت في الأمة، إلى أوسطها وأكثرها مرونة وألزمها بالكتاب والسنة؛ سواء في العقيدة الأشعرية أوسط العقائد، البعيدة عن منزع التكفير، والمؤمنة باختلاف الآراء، والجامعة بين كثيرمما تفرق لدى الآخرين تأصيلًا واستمداداً من القرآن والسنة وسلف الأمة؛ أوفي المذهب المالكي بأصوله التي استوعبت ما تفرق لدى غيره، وبرعايته للمصلحة ولزومه العمل، وإيمانه بالمرونة والاختلاف؛ أوفي التصوف السُّنّي الجُنَيْديّ، المؤصل لطريقته في الكتاب والسنة والمقيَّد بهما؛ أوفي إمارة المؤمنين الثابت الذي تقدم معنا.
يضاف إلى ذلك أن تلك الثوابت عرفت في السياق المغربي من التآلف والاندماج مالم تعرفه في غيره من السياقات. وقد كان لخصوصية التدين، ولتطور العلوم المعارف في الغرب الإسلامي عموماً، الذي لم تسبق إليه أديان ولا فلسفات قديمة كما هو شأن المشرق، ما جعل الطابع العلمي والعملي، والتداخل والتكامل، بل والحرص على نبذ الغلُوّوالتشدد، سمة بارزة من سمات هذه المنطقة في العالم الإسلامي. كما أنها بمحافظتها على موروثها التاريخي العريق لم يفتها أن تفتح، بحكم موقعها الجغرافي، نسقَها العلميَّ والحضاريَّ للاغتناء من تجارب الأمم المجاورة ومدِّ يد الحوارتواصلًا وتعارفاً معها.
كذلك كان هذا البلد الأمين ولايزال إلى اليوم في ظل القيادة والرعاية المولوية السامية. وتقبل الله تعالى جهود كل المساهمين في هذا العدد والعاملين عليه.
والحمد لله رب العالمين
العدد الثاني، 2025/1446 مجلة الجذوة