جارٍ تحميل التاريخ...

بث تجريبي

« الحجُّ موسم التَّوحيد والتَّجرد»

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة منبرية في موضوع: «الحجُّ موسم التَّوحيد والتَّجرد»

ليوم: 01 شعبان 1446هـ، الموافق لـ: 31 يناير 2025م

الخطبة الأولى

الحمد لله المتفرِّد بالعَظمة والكِبرياء، المستحق للمجد وعظيم الثَّناء، نحمده تعالى، وهو أهل لأن يُحمد، ونستعينه وهو نعم المستعان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيء قدير.

 ونشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربِّي وسلامه عليه، وعلى آله الطَّيبين، وأزواجه الطَّاهرات أمَّهات المؤمنين، وذُريَّاته المطهرين، وصحابته الخِيرة المجتبَيْنَ، وعلى التَّابعين لهم في كلِّ وقت وحين.

أمَّا بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات، بعد حديثنا في خُطبٍ سابقةٍ عن عبادة الصَّلاة، والصِّيام، والزَّكاة وما يُرجى أن تثمره في حياة النَّاس من الخير والصَّلاح، نتحدَّثُ اليوم عن عبادة الحجِّ، لإبراز مقاصِدها الكُبرى في الدُّنيا والدِّين.

يقول الله  سبحانه وتعالى على لسان سيِّدنا إبراهيم الخليل عليه السَّلام:

رَّبَّنَآ إِنِّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِے بِوَادٍ غَيْرِ ذِے زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ اَ۬لْمُحَرَّمِۖ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ فَاجْعَلَ اَفْـِٕدَةٗ مِّنَ اَ۬لنَّاسِ تَهْوِےٓ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ اَ۬لثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَۖ  [1].

إذْ سأل إبراهيم عليه السَّلام ربَّه في دعائه أن يجعل قُلوب بعض خلقه تنزع إلى مساكن ذريَّته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم؛ والمراد: فاجعل أناساً يَهْوُون إليهم، فأقْحَمَ لفظ الأفئدة لإرادَة أن يكون مسيرُ النَّاس إليهم عن شوقٍ ومحبَّةٍ، حتَّى كأنَّ المُسْرعَ هو الفُؤادُ لاَ الجَسدُ، والمعنى: فاجعل أناساً يَقصِدُونهم بِحَبَّات قُلوبهم[2].

وتعظيمُ هذا الرُّكن إنَّما هو من تعظيم شعائر الله التي هي من علامات التَّقوى.

عباد الله؛ إنَّ كلَّ كلمةٍ تتعلَّقُ بفريضة الحجِّ لها دلالةٌ عميقةٌ في تقويم السُّلوك، وتسديد القول والفعل، وتصحيح التَّوجه نحو الله تعالى أولاً، ثمَّ نحو النَّاس ثانياً؛ فالإحرامُ: التزامٌ، والتَّجرد: إخلاصٌ وإنصافٌ، والتَّلبيةُ: استجابةٌ وخضوعٌ، والطَّواف والسَّعي ورميُّ الجمار: تضرعٌ ودعاءٌ وتسليمٌ، والوقوف بعرفة: اعترافٌ وتوبةٌ وإنابةٌ.

ومع هذه الصِّفات كلِّها التي تُحقِّقها عبادة الحجِّ نجد معنى آخر وهو: الانخراطُ في الجماعةِ، وتصحيحُ الانتماء البعيد عن العصبية والأنانية، وهذا ما يُحقِّق معنى التَّوحيد لله تعالى، والمؤمن يتعلَّم من فريضة الحجِّ شهوداً أو تعلقاً، أموراً نذكُر منها:

  • الإحرامُ المفيد لترك الشَّهوات والشُّبهات، والمُحيي لليقظة الدَّائمة، ومحاسبة النَّفس على الأقوال والأفعال، بل وعلى الوساوس والظُّنون، فالمحرمُ منتبهٌ لكلِّ حركةٍ تصدرُ منه، مهتم بحكمها، وما يترتب عنها، وتلك هي غاية الإحرام؛ المحاسبة على الصَّغيرةِ والكبيرةِ في حقِّ الله تعالى وفي حقِّ النَّاس.
  • ومنها: التَّجردُ من المخيط والمحيط؛ وهو تجردٌ من مألوف العادة، إذ لا يُزين العبد مظهره، وإنَّما يُزينه مخبره بالتَّخلص من كلِّ مظاهر العجب أو الكبر والتَّرفع على العباد، فضلاً عن طلب التَّرفه بزينة الحياة الدُّنيا، والإسراف في مُتعها. وكأنَّ لباس الإحرام يعودُ بالنَّاس إلى أصلهم، وأنَّ التَّفاضل بينهم بالدِّين لا بالدُّنيا، لقول الله تعالى:

 يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪يٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ [3]

وقول النَّبي ﷺ:

 إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ[4].

  • ومنها: التَّلبية لله ربِّ العالمين، وهي تعبيرٌ قويٌّ من كلِّ قاصدٍ لبيت الله الحرام عن طلبه القُرب من مولاه، رافعاً كلمة التَّوحيد على رؤوس الأشهاد بقوله: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك”، قارناً توحيده لربِّه بالحمد والثَّناء، ناسباً ما به من نعمةٍ أو بأحدٍ من الخلق إليه جلَّ جلاله، منخرطاً في صورة تجلِّي مُلْكِ الله العظيم. وهو حالٌ أدعى إلى امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه والإنابة إليه مع الاعتراف بالتَّقصير، والتزام الذِّكر والدُّعاء، كما قال النَّبي ﷺ:

إنَّما جُعل الطَّواف بالبيت وبين الصَّفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله[5].

  • ومنها: التَّعارف والمعايشة في الزَّمان والمكان مع سائر أطياف النَّاس والتَّخلص من الاعتزاز بالفوارق، وتقوية القواسم المشتركة بين أفراد وشعوب الدِّين الواحد، ممَّا يدعو إلى التَّحلي بالأخلاق الفاضلة والشِّيم الكريمة، مصداقاً لقول الحقِّ سبحانه:

اِ۬لْحَجُّ أَشْهُرٞ مَّعْلُومَٰتٞۖ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ اَ۬لْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِے اِ۬لْحَجِّۖ[6].

عباد الله، إنَّ عبادة الحجِّ ليست عبادةً موسميةً ولا ظرفيةً تنقضي فوائدُها بانتهاء الموسم، فغاياتُها ومقاصدُها تتجاوز بالعبد الزَّمان والمكان وتبوؤه مقام سعادة أهل الإيمان والعمل الصَّالح في الدُّنيا والآخرة.

نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جعل البيت العتيق مثابة للنَّاس وأمناً، وخصَّنا بأعظم الرُّسل كرماً منه ومَنّاً، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين أكرم الأنبياء والرُّسل قدراً وشأناً، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التَّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد، عباد الله، هل تساءلتم يوماً عن حقيقة الحاج؟

الحاجُّ: “من عَقَدَ بقلبه رَفْضَ الدُّنيا كما رفضها بلباسه، وأن يتجرَّد للمولى كما تجرَّد عن هيئة الدُّنيا، وينبذ كلَّ طريقٍ لا تبلغه لربِّه، وإذا اغتسل من الأدناس الظَّاهرة فليغسل قلبه من الأدران الباطنة، وإذا استجاب لسانُه بالتَّلبية فينبغي أن يستجيب كلُّ عُضْوٍ من أعضائه بالخضوع لربِّه سبحانه وتعالى.

والحجُّ؛ تأكيدٌ على حرمة الأنفس والأموال والأعراض، وأنَّها أشدُّ حرمةً من الأشهر الحرم والأماكن الحرم، حيث سأل النَّبي ﷺ الصَّحابة ليختبر ما عندهم ويبني عليه ما يريد بيانه:

“قال: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: ‌أَلَيْسَ ‌الْبَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ (قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:) وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا (أَوْ ضُلَّالًا) يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»”[7].

عباد الله؛ إنَّ في حرص النَّبي ﷺ على التَّأكيد على حرمة الدِّماء، والأعراض، والأموال دليلٌ على خطورتها، وأنَّها من وصاياه التي أوصى بتبليغها للنَّاس، وأشهد النَّاس عليها في ذلكم المقام العظيم، حتى يعلم كلُّ النَّاس أنَّ هذا الدِّين جاء لحفظ الدِّماء، والأعراض، والأموال، إذ الأمن عليها من شُروط الحياة الطَّيبة.

هذا وأكثروا من الصَّلاة والسَّلام على سيِّد الخلق وحبيب الحقِّ، سيِّدنا ونبيِّنا محمد، فاللهم صلِّ على سيِّدنا محمد، وعلى آل سيِّدنا محمد، كما صلَّيت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمد، وعلى آل سيِّدنا محمد، كما باركت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم في العالمين إنَّك حميد مجيد.

وارض اللهم عن الخلفاء الرَّاشدين المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصَّحابة أجمعين، خصوصاً الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التَّابعين لهم بإحسان في كلِّ وقت وحين.

وانصر اللهم من ولَّيته أمر عبادك، وبسطت يده في أرضك وبلادك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمداً السَّادس، نصراً عزيزاً تعزُّ به الدِّين، وتعلي به راية الإسلام والمسلمين، وأقرَّ عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشدَّ أزر جلالته بشقيقه السَّعيد، صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولاي رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة.

وارحم اللهم الملكين الجليلين، مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثَّاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما واجعلهما في أعلى عليِّين، مع الذين أنعمت عليهم من النَّبيئين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين. وارحم اللهم موتانا وموتى المسلمين، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان، واجعلنا من الرَّاشدين، فضلاً منك ورحمة يا أرحم الرَّاحمين، يا ربَّ العالمين.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها وأجرنا من خزي الدُّنيا وعذاب الآخرة، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنَّك قريبٌ سميعٌ مجيبُ الدَّعوات. اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، وأكرمنا بكرامة القرآن، وألبسنا بخلعة القرآن، وتوفنا وأنت راض عنَّا يا ربَّ العالمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، لا ضالِّين ولا مضلِّين، اللهم ألبسنا في الدَّارين سترك وعافيتك، وأدخلنا برحمتك جنَّتك، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك، وأمِتْنَا على ملَّة نبيِّك ﷺ.

ربَّنا اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم، فإنَّك تعلم ولا نعلم، وأنت علاَّم الغُيوب؛

ربَّنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنَّا، ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربَّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة، إنَّك لا تخلف الميعاد؛

ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين؛

ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.

سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفُون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.

 [1] – سورة إبراهيم، الآية: 39

[2] – التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: (13/242).

[3] – سورة الحجرات، الآية: 13.

[4] – صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله. رقم: 2564.

[5] – صحيح ابن خزيمة كتاب المناسك باب الذكر عند رمي الجمار، 2882. وسنن أبي داود كتاب المناسك باب الرمل، 1888.

[6]–  سورة البقرة، الآية: 197.

[7]-صحيح البخاري كتاب المغازي باب حجة الوداع، رقم:4406، وصحيح مسلم ‌‌كِتَابُ الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ والديات باب تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ. رقم:1679

شاهد أيضا

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)