
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة منبرية في موضوع:
«التَّوبة النَّصوح: تزكيةٌ للنَّفس وسبيلٌ للحياة الطَّيبة»
ليوم: 22 شعبان 1446هـ، الموافق لـ: 21 فبراير 2025م.
الخطبة الأولى
الحمد لله غافر الذَّنب وقابل التَّوب شديد العقاب ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير، نحمده سبحانه وتعالى على أن فتح على عباده باب التَّوبة ويسَّره، ووعَدَ بالقَبُول من تاب إليه واستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عبد الله ورسوله، القائل صلى الله عليه وسلم:
«يا أيُّها النَّاس تُوبوا إلى الله، فإنِّي أتُوب في اليَوم إليه مائَة مرَّةٍ»[1].
صلوات ربِّي وتسليماته تتوالى عليه ما تتابع الليل والنَّهار، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان في الجهر والإسرار.
أمَّا بعد، فيا أيُّها الإخوة والأخوات في الإيمان، لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يخلق الإنسان ليبتليه في هذه الحياة الدُّنيا، فهو بين إقبال وإدبار، ومَنَحَهُ من الحرية ما يجعله مختاراً في كسبه المقرون بما قضاه سبحانه وقدره، وأمره سبحانه بالتَّوبة والرُّجوع إليه عند فعل المحظور، فقال سبحانه:
{وَتُوبُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِ جَمِيعاً اَيُّهَ اَ۬لْمُومِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ}[2].
فالتَّائبون مفلِحون، وصفةُ الفلاح مرتبطةٌ بفعل المأمورات، وترك المنهيات.
والتَّوبة، معاشر المؤمنين، ندمٌ، وإقلاعٌ، واستغفارٌ، وعزمٌ على عدم الرُّجوع، وهذه هي حقيقة العُبودية في قول الله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ اُ۬لْجِنَّ وَالِانسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِۖ}[3].
وتفصيل هذا المعنى فيمايلي:
أولاً: النَّدم، لقول النَّبي ﷺ:
“النَّدم توبةٌ“[4]
والنَّدم يورثه العلم بحالين: حال توالي النِّعم على العبد، وحال تفريط العبد في شكر المنعم، فيُقر العبد بهما، وهو ما جاء في حديث سيِّد الاستغفار:
«أبوء – أي أقِرُّ- لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت»[5].
والنَّدم يكون من جهة قبح المعصية، باستحضار من أخطأت في حقِّه، ثم من جهة خوف العقاب بين يدي الله تعالى.
ثانياً: الإقلاع ونفي الإصرار على ما تمَّت منه التَّوبة من الذُّنوب بالكفِّ عن إتيانه خوفاً من الله سبحانه وخشيةً منه، إذ لا تصح التَّوبة من الذَّنب مع الإصرار عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى:
{وَالذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً اَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اُ۬للَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْۖ وَمَنْ يَّغْفِرُ اُ۬لذُّنُوبَ إِلَّا اَ۬للَّهُۖ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَيٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَۖ} [6].
ثالثاً: ردُّ مظالم العباد، أي تمكينهم من حقوقهم، فلا يكفي لمن أكل أموال النَّاس مثلاً أن يتوب بلسانه فقط، وإنَّما يُحقِّق توبته بردِّ الحقوق إلى أصحابها، ماديةً كانت أو معنويَّةً، فتنعكس توبته على جوارحه تبعاً لقوة إيمانه، كالاستغفار لمن وقع فيهم بالغِيبَة والنَّميمة ونحوهما، مع إظهار المحبَّة لهم ومعاملتهم بالحُسنى، ما يدلُّ على توبته ممَّا صدر منه تجاههم، أو يطلب مسامحتهم فيها وتنازلهم عنها، ومن كانت نيِّته صادقة في توبته، وحالت بينه وبين ذلك موانع ردِّ المظالم إلى أهلها، ردَّ الله عنه بمنِّه وكرمه.
رابعاً: كثرة الاستغفار، لقول النَّبي ﷺ:
«من لَزِم الاستغفارَ، جعل اللهُ له من كلِّ ضِيقٍ مخرجاً، ومن كلِّ هَمٍّ فرجاً، ورَزَقَه من حيثُ لا يحتسِبُ»[7].
فإذا استوفى العبد بتوبته هذه الشُّروط، كانت توبته نصوحاً، وبلغت غايتها في تزكية النَّفس وتطهيرها من الشَّوائب، وربطها بالله تعالى سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فاتحةً لصفحةٍ جديدةٍ من حياته كلُّها عزمٌ على لُزوم باب الله، والوقُوف بين يديه بالتَّذلُل والخُضوع، واجتهادٍ متواصلٍ لصلاح الحال والمآل، واستدراك ما أمكن ممَّا فات من الأحوال.
وإلى هذه المعاني يشير ابن عطاء الله السَّكندري، رحمه الله إذ يقول:
«رُبَّ معصيةٍ أورثتك ذلاًّ وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثتك عزّاً واستكباراً»[8].
يعني بقوله هذا رحمه الله تعالى: أنَّ المعصية التي تُشعر صاحبها بالخوف من سوء العاقبة، وتدفعه لتداركها بالذُّل والانكسار بين يدي مولاه، خير من الاغترار بالطَّاعة التي تورث صاحبها العُجب، والغرور، والاستكبار، والتَّرفع على العباد، ظناً منه أنَّ مقامه أعلى من مقام العباد، فيهلك بتزكية نفسه غروراً واستكباراً، وفي ذلك يقول الحقُّ سبحانه:
{فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمْۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِ۪تَّق۪يٰٓۖ}[9].
فاتَّقوا الله عباد الله، واستجيبوا لنداء مولاكم إذ أمركم بقوله:
{وَتُوبُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِ جَمِيعاً اَيُّهَ اَ۬لْمُومِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ}[10]
وأخلصوا له في القول والعمل تكونوا من الفائزين، واستغفروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرَّحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً يوالي نعمه ويكافئ مزيده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، نبيّ التَّوبة سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واستنَّ بسنته إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد فيا أيُّها المؤمنون، إذا صَدَقَ المؤمن في توبته حتى تكون توبةً نصوحاً باستكمال شُروطها المذكورة، وآتت ثِمارها المرجُوَّة في تزكية النَّفس وتخليتها من شُرورها، وتَحلِيتها بالعزم والثَّبات على لُزوم الصِّراط المستقيم، وعلى إصلاح الحال في الفعل والقول، فلا شكَّ أنَّها ستُحقِّق له الحياة الطَّيبة المنشودة، ويشعُر بالسَّعادة والطُّمأنينة التَّامة في النَّفس والأهل والمجتمع، ويأمل الجزاء الأوفى في دار القرار.
وها نحن عباد الله؛ على أبواب شهر رمضان، موسم التَّوبة والرَّحمة والغُفران، فعلينا أن نستعدَّ له بالتَّقوى والإخلاص، وحُسن الظَّن بالرَّحيم الرَّحمن، ونجددّ العزم على أن يكون شهر الصِّيام فَيْصلاً بين عهد الغفلة والتَّفريط في حقوق الله وحُقوق العباد، وبين عهد صَحَّتْ فيه الإنابة إلى الله تعالى رجاءَ عفوه وغفرانه الموعود في قوله جلَّ ذكره:
{قُلْ يَٰعِبَادِيَ اَ۬لذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يَغْفِرُ اُ۬لذُّنُوبَ جَمِيعاًۖ اِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُۖ وَأَنِيبُوٓاْ إِلَيٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَكُمُ اُ۬لْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَۖ وَاتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَنْ يَّاتِيَكُمُ اُ۬لْعَذَابُ بَغْتَةٗ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [11].
وقول النَّبي ﷺ:
«لَلَّهُ أشدُّ فرحاً بتَوبةِ عبده حينَ يتوبُ إليه، من أحَدِكُم كان على راحلَتهِ بأرضِ فلاةٍ، فانفَلَتتْ منه وعليها طَعامُه وشرابُهُ، فَأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجَعَ في ظلِّها، قد أَيِسَ من راحلَتِهِ، فبينا هو كذلك، إذا هو بها، قائمةً عندهُ، فأخذ بِخِطَامِهَا، ثمَّ قال من شدَّة الفَرح: اللهم أنتَ عبدي وأنا ربُّكَ، أخطأ من شِدَّة الفَرحِ»[12].
ألا فاتَّقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد، فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّدنا محمد بما هو أهله من التَّوقير والإجلال ومقداره العظيم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم صلِّ على سيِّدنا محمد، وعلى آل سيِّدنا محمَّد، كما صلَّيت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمَّد وعلى آل سيِّدنا محمَّد، كما باركت على سيِّدنا إبراهيم، وعلى آل سيِّدنا إبراهيم في العالمين إنَّك حميدٌ مجيدٌ. وارض اللهم عن الخُلفاء الرَّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصَّحب أجمعين، خصوصاً الأنصار منهم والمهاجرين، وعنَّا معهم بمحض فضلك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.
وانصر اللهم بنصرك المبين، وبعزِّ سلطانك العظيم، من ولَّيته أمر عبادك المؤمنين، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمداً السَّادس، واجعله اللهم في كنفك الذي لا يُضام، واكلأه بعينك التي لا تَنام، وأقرَّ عين جلالته بولي عهده المحبوب صَاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولانا الحسن، وشدَّ أزر جلالته بصنوه السَّعيد الأمير الجليل مولانا رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة، إنَّك سميعٌ مجيب.
وارحم اللهم بواسع رحمتك، وكريم عفوك وجودك، الملكين الرَّاحلين مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثَّاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك.
وارحم اللهم آباءنا وأمهاتنا وسائر موتانا وموتى المسلمين. اللهم بلغنا رمضان واجعله لنا موسماً للتَّوبة، والمغفرة، والرَّحمة والرِّضوان، وتقبل اللهم فيه منَّا الصَّلاة، والصِّيام، والقيام وسائر الأعمال، وارزقنا فيه إيماناً صادقاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً واسعاً، وسقيا رحمة لا سقيا عذاب. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيء لنا من أمرنا رشداً، ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكُوننَّ من الخاسرين.
ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] – صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار، رقم: 2749. رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف: 4603
[2] – سورة النور، الآية: 31.
[3] – سورة الذاريات، الآية: 56.
[4] – سنن ابن ماجة كتاب الزهد باب ذكر التوبة، رقم: 4252. الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف: في قسم ( سؤال وجواب )
[5] – صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار، رقم: 6323. رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف: 4643
[6] – سورة آل عمران، الآية: 135.
[7] – سنن أبي داود باب في الاستغفار، رقم: 1518 رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف: 10133
[8]– الحكم العطائية، الحكمة 96.
[9] – سورة النجم، الآية: 31.
[10] – سورة النور، الآية: 31.
[11] – سورة الزمر، الآيات: 50-52.
[12] – صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التَّوبة والفرح بها، رقم: 2747. رقم الحديث في منصة محمد السادس للحديث الشريف: 4664