جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

الدين والرحمة

الدين والرحمة

 


 

ذ. سعيد بيهي

بسم الله، والحمد لله؛ والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد؛ فهذا هو الدرس الحادي عشر من دروس « الدين والحياة الطيبة« ، وهو يحاول بيان مركزية قضية الرحمة باعتبارها غاية عظيمة من غايات نزول الدين، تتكيف بروحها طبيعته، وتتلون بمعانيها مناهجه، وتسري أسرارها في قضاياه. 

إن الرحمة غايَةُ إنزالِ الوحي المُقَرِّرِ للدين؛ قال تعالى: ﴿وهذا كتاب أنزلناه مباركٌ فاتبعوه واتقوا لعلكم تُرحمون﴾ [الأنعام: 155]، وثَمَرَةُ ما جاء به الدين من سائر تكاليفه كما قال تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم تُرحمون﴾ [النور: 54]؛ يقول العلامة ابن عاشور: « وقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَمِيعَ الأعْمالِ الصّالِحاتِ؛ فَأهَمُّها بِالتَّصْرِيحِ، وسائِرُها بِعُمُومِ حَذْفِ المُتَعَلَّقِ بِقَوْلِهِ: ﴿وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾؛ أيْ في كُلِّ ما يَأْمُرُكم ويَنْهاكم.

ورُتِّبَ عَلى ذَلِكَ رَجاءُ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لَهم، أيْ في الدُّنْيا بِتَحْقِيقِ الوَعْدِ الَّذِي مِن رَحْمَتِهِ الأمْنُ، وفي الآخِرَةِ بِالدَّرَجاتِ العُلَى »… 

ولأجل عظيم شأن الرحمة جعلها الله سبحانه مُنْطَلَقَ تَعْليمِ الكتابِ وأساسَه؛ قال تعالى: ﴿الرحمن علم القرآن﴾ [الرحمن: 1]؛ حتى صارت البسملة المشتملة على تأكيد رحمته من خلال رحمانيته ورحيميته عنواناً تُفتتح بها سُوَرُه، وتُفْهم في سياقها قضاياه ومسائله، وتتحقق من خلال معانيها مقاصده.

الرحمة مراد الله بخلقه

إنه لا سبيل للعمل بالدين المحقق للحياة الطيبة إلا من خلال مُراعاة مراد الله سبحانه أن يتقلب خلقه في رحمته التي اقتضى جُودُه وتَفَضُّلُه أن يكتبها مُوجِباً على نفسه تَفَضُّلاً مُعامَلَةَ خَلْقِهِ بواسطتها؛ قال تعالى: ﴿قل لمن ما في السماوات والارض قل لله كَتَبَ على نفسه الرحمة﴾ [الأنعام: 13]؛ يقول العلامة أبو السعود: « وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ داخِلَةٌ تَحْتَ الأمْرِ، ناطِقَةٌ بِشُمُولِ رَحْمَتِهِ الواسِعَةِ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، شُمُولَ مُلْكِهِ وقدرته لِلْكُلِّ، مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ تَعالى رَءُوفٌ بِعِبادِهِ لا يُعَجِّلُ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ، ويَقْبَلُ مِنهُمُ التَّوْبَةَ والإنابَةَ.

وَأنَّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ وما لَحِقَ مِن أحْكامِ الغَضَبِ لَيْسَ مِن مُقْتَضَياتِ ذاتِهِ تَعالى، بَلْ مِن جِهَةِ الخَلْقِ، كَيْفَ لا ومِن رَحْمَتِهِ أنْ خَلَقَهم عَلى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وهَداهم إلى مَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ بِنَصْبِ الآياتِ الأنْفُسِيَّةِ والآفاقِيَّةِ، وإرْسالِ الرُّسُلِ، وإنْزالِ الكُتُبِ المَشْحُونَةِ بِالدَّعْوَةِ إلى مُوجِباتِ رِضْوانِهِ، والتَّحْذِيرِ عَنْ مُقْتَضَياتِ سُخْطِهِ، وقَدْ بَدَّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ تَبْدِيلاً، وأعْرَضُوا عَنِ الآياتِ بِالمَرَّةِ، وكَذَّبُوا بِالكُتُبِ، واسْتَهْزَءُوا بِالرُّسُلِ، وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ.

وَلَوْلا شُمُولُ رَحْمَتِهِ لِسَلَكَ بِهَؤُلاءِ أيْضًا مَسْلَكَ الغابِرِينَ، ومَعْنى كَتَبَ الرَّحْمَةَ عَلى نَفْسِهِ: أنَّهُ تَعالى قَضاها وأوْجَبَها بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ والإحْسانِ عَلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ بِالذّاتِ، لا بِتَوَسُّطِ شَيْءٍ أصْلاً.

وَقِيلَ هو ما رُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: « لَمّا قَضى اللَّهُ تَعالى الخَلْقَ كَتَبَ في كِتابٍ، فَهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي« ، (…)

وَمَعْنى سَبْقِ الرَّحْمَةِ وغَلَبَتِها: أنَّها أقْدَمُ تَعَلُّقاً بِالخَلْقِ وأكْثَرُ وُصُولاً إلَيْهِمْ، مَعَ أنَّها مِن مُقْتَضَياتِ الذّاتِ المُفِيضَةِ لِلْخَيْرِ ».

الرحمة وطبع الرسول عليها

 

إن من مقتضيات كتابة الله على نفسه الرحمة بِخَلْقِه أن طبع عليها رسوله ﷺ واسِطَةً يفعل مِن خلالها من باب ترتيب بعض أفعاله على ما أودعه في العالم مِن قُوَى؛ ليكون خُلُقُ الرَّحْمَةِ من الرسول ﷺ وسيلةَ الشارعِ العظيمة لتجسيد مُراد الله في حياة الناس، ومِن ثَمَّ دافِعاً كبيراً لإقبالهم على شريعته؛ قال تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ [آل عمران: 159]؛ يقول العلامة ابن عاشور: « ودَلَّ فِعْلُ المُضِيِّ في قَوْلِهِ « لِنْتَ » عَلى أنَّ ذَلِكَ وصْفٌ تَقَرَّرَ وعُرِفَ مِن خُلُقِهِ، وأنَّ فِطْرَتَهُ عَلى ذَلِكَ بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ إذْ خَلَقَهُ كَذَلِكَ و﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ﴾ [الأنعام: 125]، فَخُلُقُ الرَّسُولِ مُناسِبٌ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ مُرادِ اللَّهِ تَعالى مِن إرْسالِهِ، لِأنَّ الرَّسُولَ يَجِيءُ بِشَرِيعَةٍ يُبَلِّغُها عَنِ اللَّهِ تَعالى، فالتَّبْلِيغُ مُتَعَيّنٌ لا مُصانَعَةَ فِيهِ، ولا يَتَأثَّرُ بِخُلُقِ الرَّسُولِ، وهو أيْضاً مَأْمُورٌ بِسِياسَةِ أُمَّتِهِ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وتَنْفِيذِها فِيهِمْ، وهَذا عَمَلٌ لَهُ ارْتِباطٌ قَوِيٌّ بِمُناسَبَةِ خُلُقِ الرَّسُولِ لِطِباعِ أُمَّتِهِ حَتّى يُلائِمَ خُلُقَهُ الوَسائِلُ المُتَوَسَّلُ بِها لِحَمْلِ أُمَّتِهِ عَلى الشَّرِيعَةِ النّاجِحَةِ في البُلُوغِ بِهِمْ إلى مُرادِ اللَّهِ تَعالى مِنهم ».

ولأجل ظهور تلك الفطرة المتكيفة بالرحمة في ذات رسول الله ﷺ؛ قال الله تعالى في وصفه الجامع المشتمل على غاية مدحه لتلك الذات المتحدة بالرحمة مبينا انحصار رسالة صاحبها فيها: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: 106]؛ يقول العلامة ابن عاشور: « واعْلَمْ أنَّ انْتِصابَ (رَحْمَةً) عَلى أنَّهُ حالٌ مِن ضَمِيرِ المُخاطَبِ يَجْعَلُهُ وصْفاً مِن أوْصافِهِ، فَإذا انْضَمَّ إلى ذَلِكَ انْحِصارُ المَوْصُوفِ في هَذِهِ الصِّفَةِ صارَ مِن قَصْرِ المَوْصُوفِ عَلى الصِّفَةِ؛ فَفِيهِ إيماءٌ لَطِيفٌ إلى أنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وانْحَصَرَ فِيها، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ عُنْوانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلازِمٌ لَهُ في سائِرِ أحْوالِهِ؛ فَصارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وسائِرُ أكْوانِهِ رَحْمَةً ». 

إنه لم يكتف الله جل وعلا بكون الرحمة عنوان الدين الأكبر، والمعنى الساري في أحكامه والأظهر، بل شفع ذلك بأن جعلها صفة متمكنة من نبيه ﷺ تخالط ذاته الشريفة بما هو الواسطة في التعريف بالدين، والحجة على الخلق في الفهم والتنزيل؛ يقول العلامة ابن عاشور في وقوع وصف الرحمة مَصْدَراً في قوله تعالى: ﴿رَحْمَةً للعالمين﴾: « ووُقُوعُ الوَصْفِ مَصْدَراً يُفِيدُ المُبالَغَةَ في هَذا الِاتِّحادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِن إرْسالِهِ، ويَدُلُّ لِهَذا المَعْنى ما أشارَ إلى شَرْحِهِ النَّبِيءُ ﷺ بِقَوْلِهِ « إنَّما أنا رَحْمَةٌ مُهْداةٌ« . 

وتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ في مَظْهَرَيْنِ: 

الأوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ؛

والثّانِي إحاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصارِيفِ شَرِيعَتِهِ. 

فَأمّا المَظْهَرُ الأوَّلُ فَقَدْ قالَ فِيهِ أبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ طاهِرٍ القَيْسِيُّ الإشْبِيلِيُّ أحَدُ تَلامِذَةِ أبِي عَلِيٍّ الغَسّانِيِّ ومِمَّنْ أجازَ لَهم أبُو الوَلِيدِ الباجِيُّ مِن رِجالِ القَرْنِ الخامِسِ: « زَيَّنَ اللَّهُ مُحَمَّداً ﷺ بِزِينَةِ الرَّحْمَةِ؛ فَكانَ كَوْنُهُ رَحْمَةً، وجَمِيعُ شَمائِلِهِ رَحْمَةً، وصِفاتُهُ رَحْمَةً عَلى الخَلْقِ » اهـ.، ذَكَرَهُ عَنْهُ عِياضٌ في الشِّفاءِ. 

قُلْتُ: يَعْنِي أنَّ مُحَمَّداً ﷺ فُطِرَ عَلى خُلُقِ الرَّحْمَةِ في جَمِيعِ أحْوالِ مُعامَلَتِهِ الأُمَّةَ لِتَتَكَوَّنَ مُناسَبَةٌ بَيْنَ رُوحِهِ الزَّكِيَّةِ وبَيْنَ ما يُلْقى إلَيْهِ مِنَ الوَحْيِ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي هي رَحْمَةٌ حَتّى يَكُونَ تَلَقِّيهِ الشَّرِيعَةَ عَنِ انْشِراحِ نَفْسٍ أنْ يَجِدَ ما يُوحَى بِهِ إلَيْهِ مُلائِماً رَغْبَتَهُ وخُلُقَهُ. قالَتْ عائِشَةُ: « كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ« ، ولِهَذا خَصَّ اللَّهُ مُحَمَّداً ﷺ في هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِ الرَّحْمَةِ ولَمْ يَصِفْ بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ، وكَذَلِكَ في القُرْآنِ كُلِّهِ؛ قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن انْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُومِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 129]، وقالَ تَعالى: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: 159]؛ أيْ بِرَحْمَةٍ جَبَلَكَ عَلَيْها وفَطَرَكَ بِها فَكُنْتَ لَهم لَيِّناً. وفي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: « أنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمّا شُجَّ وجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِهِ فَقالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعّاناً وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً« . 

وأمّا المَظْهَرُ الثّانِي مِن مَظاهِرِ كَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فَهو مَظْهَرُ تَصارِيفِ شَرِيعَتِهِ؛ أيْ ما فِيها مِن مُقَوِّماتِ الرَّحْمَةِ العامَّةِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى (لِلْعالَمِينَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (رَحْمَةً) ».

 

اكتمال الرحمة في رسالة الإسلام 

ولما كان الإسلام آخر دين أنزله الله تعالى خاتما به رسالاته؛ فقد اقتضت حكمة الله أن يكون مشتملا على غاية الرحمة ليُناسِب ما بلغته البشرية من اكتمال نضجها المستدعي لنوع خصوصية تقتضي مزيد التوسعة عليها؛ قال تعالى: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويُوتُون الزكاة والذين هم بآياتنا يومنون الذين يتبعون الرسول النبيء الامي﴾ [الأعراف: 156-157]؛ يقول العلامة ابن عاشور: « فَفي قَوْلِهِ تَعالى ﴿وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ المُرادَ رَحْمَةٌ هي عامَّةٌ فامْتازَتْ شَرِيعَةُ الإسْلامِ بِأنَّ الرَّحْمَةَ مُلازِمَةٌ لِلنّاسِ بِها في سائِرِ أحْوالِهِمْ، وأنَّها حاصِلَةٌ بِها لِجَمِيعِ النّاسِ لا لِأُمَّةٍ خاصَّةٍ ». 

ثم بين رحمه الله أثر الصيرورة التاريخية وما يُناسبها مِن امتياز شريعة الإسلام بعموم خاصية الرحمة، وما تستلزمه تلك الخاصية من تيسير ورفق وسماحة ورفع للحرج في أحكامها: « وحِكْمَةُ تَمْيِيزِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ بِهَذِهِ المَزِيَّةِ أنَّ أحْوالَ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ مَضَتْ عَلَيْها عُصُورٌ وأطْوارٌ تَهَيَّأتْ بِتَطَوُّراتِها لِأنْ تُساسَ بِالرَّحْمَةِ وأنْ تُدْفَعَ عَنْها المَشَقَّةُ إلّا بِمَقادِيرَ ضَرُورِيَّةٍ لا تُقامُ المَصالِحُ بِدُونِها، فَما في الشَّرائِعِ السّالِفَةِ مِنِ اخْتِلاطِ الرَّحْمَةِ بِالشِّدَّةِ وما في شَرِيعَةِ الإسْلامِ مِن تَمَحُّضِ الرَّحْمَةِ لَمْ يَجْرِ في زَمَنٍ مِنَ الأزْمانِ إلّا عَلى مُقْتَضى الحِكْمَةِ، ولَكِنَّ اللَّهَ أسْعَدَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ والَّذِي جاءَ بِها والأُمَّةَ المُتَّبِعَةَ لَها بِمُصادَفَتِها لِلزَّمَنِ والطَّوْرِ الَّذِي اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ في سِياسَةِ البَشَرِ أنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهم تَشْرِيعَ رَحْمَةٍ إلى انْقِضاءِ العالَمِ. 

فَأُقِيمَتْ شَرِيعَةُ الإسْلامِ عَلى دَعائِمِ الرَّحْمَةِ والرِّفْقِ واليُسْرِ. قالَ تَعالى: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: 76]، وقالَ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: 184] وقالَ النَّبِيءُ ﷺ « بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ«  ».   

إن الرحمة غاية عظيمة ينبغي أن تتلون بها هدايات الدين المحمولة للعالمين حتى تحقق السعادة في حياة الناس، وذلك من جهتين:

  • جهة استحضار ما تراعيه الشريعة في أحكامها من معاني الهداية الممزوجة بالرحمة والتيسير والرفق لتكون أفقا يغري باتباعها؛ 
  • جهة تلبس حملة الهداية بمعاني الرحمة من خلال بذل غاية الجهد للتخلق بها تأسيا بالرسول ﷺ المتكيفة ذاته بتمامها؛ فإن ذلك من أعظم العون على تحقيق التناسب بين طبيعة الرسالة المشتملة على غاية الرحمة وبين إحسان حملها التي تقتضيه الوراثة النبوية.

هذا والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.