… ولوضع الحدث في سياقه الموضوعي، يحسن التذكير بما سبقه من وقائع وأحداث، ولاسيما منها ما كان فاعلا في مسيرة الدعوة على نحو مباشر، فأقول: واجهت الدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد – منذ إعلان الصفا المشهود – معارضة شديدة قادها حماة الوضع الجاهلي، يتصدرهم أصحاب الامتياز وهم زمرة استأثروا بالسلطة واتخاذ القرار الذي لا معقب له، على رأسهم عمرو بن هشام المكنى بأبي جهل، إذ كان العقل المفكر، والرأس المدبر الذي كان يقف وراء جميع الخطط والتدابير القمعية.

وعلى مدى ثلاثة عشر عاما من الاضطهاد والتنكيل والقمع، ابتلي خلالها النبي الكريم، والذين آمنوا معه بشيء غير يسير من أصناف الظلم والطغيان والجبروت بدءا من مصادرة حق التعبير عن الرأي والاعتقاد، ومرورا بكل أشكال الإيذاء بما فيها التعذيب البدني الذي بلغ حد التصفية الجسدية، والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية والحصار الشامل، وانتهاء بالنفي والتهجير الذي انتهى بالهجرة الكبرى.

ولقد يبدو لإدراكنا البشري العادي، ونحن نستعرض هذه الأحداث استعراضا سريعا، أنها تسير في الاتجاه الهادف إلى إبادة أنصار الحق والخير والفضيلة حتى ما كان منها جاريا على السنة الكونية ولا يد للإنسان في صنعه بما كانت مسعفة.

ففي الوقت الذي اشتـدت وطـأة الكفر، وتردت أحوال المسلمين وأوضاعهم على نحو يؤذن بمحقهم، فقد حل بهم بلاء شديد بفقد نصيرين كبيرين وسندين قويين لرسول الله e، وهما عمه أبو طالب، وزوجه خديجة أم المومنين.

ويأتي فقدهما في وقت واحد ليس بين موت أحدهما والثاني أكثر من أسبوع واحد، فضاعف ذلك من ألم المصطفى، وزاد من أحزانه وهمومه، ولم ينته حتى أعلنه عام حزن حدادا عليهما، وتعبيرا عن درجة الأسى التي بلغها نتيجة فقدهما.

غير أن ذلك لم ينل من عزمه، ولا صرفه قيد أنملة عن وجهته، فلم يضيع دقيقة واحدة من وقته إلا باحثا عن التماس المسلك الذي ينساب منه النور ليضيء أعماق الإنسان ويشع على الكون كله.

وكان عليه الصلاة والسلام موقنا من نصرة من يملك النصر وحده:”وما النصر إلا من عند الله“، وأن غيبة سندين مخلصين في وقت واحد لابد أن تكون وراءه حكمة ربانية قد نوفق في إدراك بعضها باجتهادنا، ولكن إدراك الحكمة  كاملة يبقى فوق قدرتنا البشرية المحدودة، بيد أن الشدة يعقبها فرج، وأن العسر يتلوه يسر محقق، واشتداد الأزمات موذن بانفراجها مصداقا لقول الحق سبحانه في محكم كتابه:”فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا“، وقول صاحب المنفرجة:

اشتدي أزمة تنفرجي

وكاد  أن ييأس من وجود ظهير على الحق في مكة، فخرج إلى الطائف، وهو مثقل بهذه الهموم، يحثه هاجس الأمل، أن يجد لدى بني ثقيف من العون ما بخلت به عليه عشيرته وأهله بمكة، ولكنهم لم يكونوا بذاك، فقد أساؤوا استقباله وردوا على دعوته إياهم إلى الله أبشع رد عرفه التاريخ، ولم يقفوا عند حد رفض العون والمساندة، بل أظهروا من اللوم والكراهية والحقد والبغض، قدرا غير مألوف في تقاليد العرب وأعرافهم الأصيلة، إذ أغروا به سفهاءهم وسلطوا عليه أوباشهم ورعاعهم، يشتمونه ويسبونه ويقذفونه بالحجارة عن اليمين والشمال، وقد أحاطوا به من كل جانب، حتى ألجأوه إلى بستان أحد الكبار، فلاذ بظل شجرة وقد بلغ به التعب مبلغه، وضاقت عليه الدنيا على سعتها ورحابتها، ولولا الأمل والرجاء وقوة الإيمان، لانهار انهيارا.

أحس بأن أبواب بني البشر قد سدت في وجهه، ولم يبق له من ملجأ يلجأ إليه، ولا معتصم يعتصم به، إلا باب واحد من أبواب الرجاء، وهو الباب الذي كان وسيظل مفتوحا في وجه المكظومين والمظلومين، ولا يمكن أن يغلق أبدا، هو باب الله الذي وقف أمامه داعيا مستجيرا.

دعاء الطائف:

لم يدع  على الذين آذوه وخذلوه، ولا خطرت بباله أبدا خاطرة الانتقام لنفسه، ولو شاء أن يفعل ذلك لما تأخرت الاستجابة.

ولكن ذاكرته وعت الحدث في قتامته وبشاعته، وتحدث عنه كأسوإ حدث مر به في ظروف المحنة والابتلاء.

روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سألته e فقالت له يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد، فقال:”ما لقيت من قومك كان أشد علي من يوم أحد، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا فيها جبريل، فناداني فقال:إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، قال: فناداني ملك الجبال، وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق  عليهم الأخشبين، فقال رسول الله e: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا”.

إن في طبع أهل ثقيف وإغراء صبيانهم وسفهائهم وأوباشهم بالرسول دليلا على أن طبيعة الشر واحدة في كل الأجيال وسائر الأزمنة، وهي الاعتماد على السفهاء في إيذاء أهل الفضل والصلاح، ودعاة الإصلاح.

لم يفعل محمد e كرد على سوء صنيع بني ثقيف به إلا أن رفع يديه إلى السماء داعيا الله أن يكشف عنه الضر، ويمنحه من مدده ما يكون له زادا لمتابعة هذه الرحلة إلى نهايتها:

“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”.

كان دعاء الطائف، الذي دعا به المصطفى الأكرم وهو مكظوم، مكروب، إمام أدعية الرجاء والشدة وأصلها، ومنطلقا لما يمكن أن نسميه بأدب الدعاء الذي أبدع العلماء والأدباء وأرباب البلاغة والبيان في صياغته وعرضه نثرا وشعرا. ولعل من أجود ما سجله أدب التوسل والدعاء من نماذج عالية في هذا الباب ما نسب إلى إمامين جليلين من أئمة المدرسة المغربية وهما أبو الوليد ابن الفرضي، وأبو القاسم السهيلي.

وأثبت فيما يلي نموذجا من شعرهما في هذا الباب: قال أبو الوليد متوسلا راجيا في فائيته:

أسيـر الخطايا عند بـابك واقف        على وَجـَلٍ مما به أنت عارفُ

يـخاف أمورا لم يغب عنك غيبها      ويرجوك فيها فهو راج وخائف

ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى     ومالك في فصل القضاء مخالف

لئن غاب عني عفوك الواسع الذي   أُرَجِّـي لإسرافي فإنـي هالك

ونحو هذا لأبي القاسم السهيلي الذي يقول في عينيته المشهورة:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع     أنت المعد لكـل ما يتـوقع 

يا مـن يرجى للشـدائد كلها    يا من إليه  المشتكى  والمفزع

وقبلها قال الحسن بن هاني المعروف بأبي نواس الشاعر الماجن ما هو من هذا القبيل:

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة         فلقد علمـت بأن عفـوك أعظـم

إن كان لا يرجوك إلا محسن           فمـن الذي يـدعو إليه الـمجرم

أدعوك ربي كما أمرت تضرعا         فـإذا رددت يدي فمن ذا يـرحم

ما لي إليك وسيلة إلا الرجـا            وجـميل ظنـي ثم إنـي مسلـم

في ضيافة الرحمان

الإسراء والمعراج ضيافة ربانية:

إن الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء قد سمع نداء عبده محمد خاتم أنبيائه واستجاب لدعائه بما يكشف عنه الضر، ويريح نفسه من همومها، ويرفع قدره عنده حيث استضافه بحضرته في علياء قدسه، ونقله إليه بوسائل علمه وإرادته، وأقبل عليه بتجلياته، وطوى له الأبعاد والمسافات طيا، ثم فتح له أبواب ملكوته الأعلى فعرج إلى ما فوق سبع سموات إلى سدرة المنتهى وقربه إليه زلفى، وأوحى إليه ما أوحى وأراه من آياته الكبرى. “إنها ضيافة وأي ضيافة”.

رحلة الإسراء والمعراج:

قبل أن أقدم إطار هذه الرحلة، أشير إلى أنها ثابتة بنص القرآن الذي عرض جل ما تضمنته في سورتين:

سورة “الإسراء”

وسورة “النجم”

وتولت السنة الصحيحة عرض تفاصيلها بدقة متناهية، وشرح مستفيض لأحداثها مما لا يتسع له هذا العرض المقتضب السريع، ولفتت أنظار العلماء بإشاراتها الدالة وآياتها المدهشة، ومعانيها المتجددة. فأفردوها بالتصنيف إبرازا لحقائقها ولإثارة الانتباه إليها.

ولعل أشهر من  أفرده بالتأليف من الحفاظ: أبو الخطاب ابن دحية السبتي في كتابه:”الابتهاج في المعراج”.

والأستاذ النظار ابن الأشبيلي في كتابه: “المعراج”.

والإمام محمد بن يوسف الشامي في كتابيه الأول بعنوان:” الآيات البينات في معراج سيد أهل الأرض والسماوات”، والثاني بعنوان: “الفضل الفائق في معراج خير الخلائق”. وقد جمع فيه كعادته فوائد متناثرة لا توجد مجتمعه إلا فيه.

بدأت هذه الرحلة المثيرة ليلا، من المسجد الحرام بمكة في الليلة السابعة والعشرين من شهر رجب الحرام على الأصح المعمول به من الأقوال، وقبل الهجرة بسنة واحدة في أشهر الروايات.

ولنتجاوز الخلاف المسجل حول المكان الذي انطلقت منه الرحلة بالضبط أهو المسجد؟ أم هو بيت النبي نفسه؟ أم منزل أم هاني بنت أبي طالب؟ أم هو مكان ما في المسجد وجد به صدفة؟ وإن كنت أميل إلى أن المسجد الحرام كان منطلقا لها بل أكاد أجزم بذلك؟

ونتجاوز كذلك الوسيلة التي استعملت في هذه الرحلة الأرضية: “البراق” وخصوصيتها ومدى سرعتها، وأوصافها الظاهرة، ولو أنها تستحق الوقوف مليا، بغاية استخلاص شيء مهم، وهو أن هذه الرحلة العجيبة، تمت بواسطة دابة مدهشة تجاوزت سرعتها أنواع وسائل النقل المعاصرة.

أقول: نتجاوز ذلك كله إلى المسجد الأقصى غاية الرحلة الأرضية حيث كان في استقبال خاتم الأنبياء، لتحيته والترحيب به، ثم تقديمه للصلاة معه إماما، لفيف من أنبياء الله ورسله، وبهذه المراسيم ينتهي الشطر الأرضي من برنامج الرحلة الأرضية لتبتدئ الرحلة السماوية “المعراج”.

 

رحلة المعراج السماوية:

الشطر السماوي من هذه الرحلة هو أشد غرابة، وأكثر إثارة من الأول وهو قسم العروج إلى السماوات العلى، انطلاقا من المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، وانتهاء إلى ما فوق سدرة المنتهى، مرورا بالسبع الطباق، حيث سمع صريف أقلام القدرة. ورأى من الغرائب ما لا يكاد يوصف، وقابل من أنبياء الله ورسله في كل سماء عددا.

لم يكن العروج على متن البراق كما في الرحلة الأرضية الإسرائية، ولكنه كان من محطة فضائية، وبواسطة أداة اسمها المعراج نصبت خصيصا لإنجاز هذه الرحلة المعجزة.

والمعراج في وصف أهل هذا الشأن هو عبارة عن سلم من نور، طرفه الأسفل بالأرض، وطرفه الأعلى متصل بالفضاء اللامتناهي، حاول بعض الواصفين أن يقر به إلى أذهاننا من خلال وصف مادي لشكله ومظهره، وهو مصعد الأرواح إلى برزخها، حيث تفارق أجسادها التي كانت تعتمرها ومن أجلها يُرى بصر المحتضر يتبعها مشيعا لحظة مفارقتها الجسد وصعودها، مأخوذا بروعة مشهد المعراج الذي يتجلى له في تلك اللحظة الأخيرة التي يودع فيها الحياة الدنيا.

وهو وصف شاعري، وجداني لمحطة فضائية إلهية وصلت الأرض بالسماء، تسخيرا منه لأكرم عباده وأحبهم إليه.

ملحوظة:

يلاحظ أن الرحلتين: الإسرائية والمعراجية، كان منطلقهما المسجد. الأولى كانت من المسجد الحرام، والثانية من المسجد الأقصى، ولعل هذا يعني فيما يعنيه أن كل إقلاع حقيقي للمسلمين، لا يمكن أن يتم من أي فضاء آخر غير المسجد، فإن شاء المسلمون أن يقلعوا إقلاعا حقيقيا، فإن قاعدتهم الصحيحة هي المسجد، بكل ما يرمز إليه من جمع بين العلم والإيمان الصحيح، لأن المسجد في الإسلام هو مجمع العلم والإيمان، فإن هما اجتمعا فذلك هو الكمال حقا.

لحظة زمنية قصيرة، قربت إلى ذهننا كيفية حدوث الاتصال بين الأرض والسماء وصعود الكائن البشري في الفضاء على أن ضميرنا الديني لا يمكن أن يغيب عنه أبدا أن هذا الاتصال كان متحققا دائما عبر تاريخ أنبياء الله ورسله بالأسلوب والكيفية التي اختارها الله.

الإعجاز الفضائي:

ونستحضر نحن الذين نعيش عصر الفضاء ما يحتاج إليه الصعود في الأجواء الفضائية العليا، واختراق جدار الجاذبية، من أدوات وتجهيزات ووسائل مادية: محطات وتأطير علمي، وبشري، وتكنولوجي ونتصور ما يحشد لذلك من طاقات وقدرات ويرصد لإنجازها من نفقات ضخمة.

ثم لا يمكن لأي رحلة علمية سواء على مستوى المستقبل القريب أو البعيد أن تحقق ما حققته الرحلة النبوية من تصورات وحقائق عن الملأ الأعلى، ولا ينتظر أبدا أن تفتح أبواب السماوات في وجه الفضائيين كما تفتحت لمحمد.

وإذا كان في المعراج ما يرمز إلى الرفعة والسمو المادي والروحي على مستوى الشعور والإحساس والغريزة ويدعو المسلم إلى أن يسمو عن غيره من سائر البشر بعلو المكانة وسمو الهدف، والتحليق في أفق المثل والقيم الرفيعة، متجاوزا كثافته المادية التي تشده إلى الأرض. فإن في قصة المعراج إشارة إلى إمكانية ارتياد الفضاء والخروج عن نطاق الجاذبية الأرضية، فلقد كان رسولنا المصطفى e في حادثة المعراج أول رائد للفضاء في تاريخ العالم كله، بل وإن رحلته الفضائية سبقت التفكير العلمي بألف وأربعمائة سنة، وأن ريادة الفضاء والعودة إلى الأرض بسلام أمر ممكن إذا وقع لرسول الله e بالمعجزة في عصره، فإنه من الممكن أن يقع للناس عن طريق العلم والفكر، لا على معنى أن الريادة الفضائية العلمية ستتمكن في يوم ما من إدراك شأو الرحلة النبوية لأن علم الرحلة النبوية إلهي، وعلم الرحلات الفضائية العلمية بشري،

وشتان بين هذا وذلك، إن علم البشر مهما تطور، فلن يتجاوز مدى معينا، ويبقى ضئيلا هزيلا إذا ما قيس بعلم الله تعالى، وصدق ربنا تعالى:”… وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، مما لا يسعنا معه إلا الإيمان بقدرة الله الباهرة، وعلمه المحيط وعظمته المطلقة.

وقد يتساءل من يتساءل:

وما هي الآيات الكبرى التي رآها محمد e وهو ينزل ضيفا على ربه في ملكوته الأعلى؟

إن حديث القرآن ختم قصة الإسراء بقوله عز من قائل:”لنريه من آياتنا” وجعله ذلك مناط رحلة الإسراء.

كما ختم رحلة المعراج بقوله تعالى:”لقد رأى من آيات ربه الكبرى

وفصل صحيح السنة والحديث المشاهد والآيات الأرضية والسماوية التي أريها وهي من التنوع والكثرة بحيث لا يستطيع أن يحيط بها حديث من نوع حديثنا هذا ذي الصبغة التذكيرية المحدودة.

ولعل في مقدمتها من حيث الإثارة هذه الرحلة العجيبة التي رحلها محمد بجسده وروحه مخترقا أجواء الفضاء، منتقلا من سماء إلى سماء، ثم إلى سدرة المنتهى حيث وقف من ربه الأعلى قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه رب العزة ما أوحى.

وفي مقدمة ما أوحى إليه من التكاليف “الصلاة” التي كان فرضها من فوق سبع سماوات ودعي رسول الله نفسه ليتلقاها، فكان ذلك من أعظم خصوصياتها.

وفرض الصلاة في المعراج، إشارة إلى الحكمة التي من أجلها شرعت، فكأن الله تعالى يقول لعباده المومنين:”إذا كان معراج رسولكم بجسمه وروحه إلى السماء معجزة فليكن لكم أنتم في كل يوم خمس مرات، معراج تعرج فيه أرواحكم وقلوبكم إلي، ليكن لكم عروج روحي تحققون فيه الترفع عن أهوائكم وشهواتكم وتشهدون به من عظمتي وقدرتي ووحدانيتي ما يدفعكم إلى السيادة على الأرض لا عن طريق الاستعباد والقهر والغلبة، بل عن طريق العمل والتمدن والعلم والخلق.

ولعله بسبب هذا العروج الذي يناله من يصلي صلاة حقيقية، كانت الصلاة مناجاة وخطابا مباشرا وحوارا متصلا بين المصلي وربه، وكان الساجد لعظمة الله أقرب الناس وأدناهم مرتبة منه، مصداقا لقول الرسول e:”أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”.

“اللهم اجعلنا من المصلين الذين تعرج بهم صلاتهم إلى حضرة قدسك”.

وأعود إلى رحلة الإسراء في محاولة لفهم الحكمة من وراء الربط بين المسجد الحرام والأقصى، وما حوله من الأرض المقدسة وما لعله يهدي إليه هذا الربط من حقوق لهذه الأماكن في ذمة المسلمين مسؤولون عنها مسؤولية مباشرة أمام الله عز وجل.

ولعل أول ما يفهم من أحكام الصلة بين القبلتين أن الأقصى وفلسطين من مقدسات الإسلام، والدفاع عنها وحمايتها، هو دفاع عن الإسلام وحماية لمقدساته، والتفريط فيها تفريط في الإسلام نفسه، وإن استصراخ الأقصى نداء موجه إلى ضمير كل مسلم أينما كان موقعه في شرق أو غرب، والجهاد من أجل تحريره وتطهيره واجب بالنفس والمال والكلمة النافذة، والصلاة الخاشعة كما أن الربط بين الإسراء والمعراج، وجعل الأقصى منطلقا للمعراج دلالة على مدى ما لهذا البيت من مكانة وقدسية عند الله.

ولنا كذلك أن نستشعر من هذا الربط بعدا تاريخيا يرتبط بتحول في القيادة الروحية، ذلك أن النبوة والرسالة ظلت طويلة في بني إسرائيل، وظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومنبت الأنبياء، فلما أهدر اليهود كرامة الوحي، واستهانوا بأحكام السماء، حلت عليهم اللعنة وتقرر حرمانهم من هذا التكريم، وتحويل النبوة عنهم إلى الأبد، فكان أن وكل الله هذه الرسالة إلى قوم ليسوا بها بكافرين، إعلانا بانتقال القيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة، ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل.

ومضت إرادة الله على الرغم من تمرد اليهود وإنكارهم لهذا التحول، وحملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث نبي الإنسانية تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقام يكافح من أجل نشرها ودعوة الناس إليها، فكان من تمام وصل الحاضر بالماضي وإدماج الكل في حقيقة واحدة، إذ يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين في الإسلام تقديرا لدوره التاريخي في القيادة الروحية، وأن ينتقل إليه الرسول في إسرائه فيكون هذا الانتقال بمثابة تحية إجلال وتكريم للإيمان الذي درج قديما في رحابه. ثم يجمع الله الرسل السابقين من حملة الهداية في الأرض ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة، دليلا على أن النبوات يصدق بعضها بعضا، ويمهد السابق منها للاحق، مصداقا لقول الله تعالى:”وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه…

وفي صحيح السنة أن رسول الله e صلى بإخوانه الأنبياء ركعتين بالمسجد الأقصى، فكانت هذه الإمامة إقرارا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها وكمالها على يد النبي الخاتم محمد e …

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن هذه الاستمرارية والامتداد الروحي وأن اللاحق يكمل عمل السابق عند ما قال:”إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيئين”

ويجرنا هذا إلى الإذعان والإقرار بأن الأديان المعتمدة على الوحي السماوي معروفة، وليس منها – طبعا – ما اصطنعه الناس لأنفسهم من أوثان وطقوس قديمة موروثة وحدثية مصنوعة.

وكان بالإمكان لو سلم القصد وخلصت النيات من الشوائب أن توضع أسس عادلة لوحدة دينية تقوم على احترام المبادئ الثابتة المشتركة، وإبعاد الهوى عن استغلال الفروق التي تختفي مع الزمن، أو تفقد حدتها مع مرور الأيام، وإن الإسلام الذي يعتبر تعاليمه امتدادا للنبوات الأولى، ولبنة مضافة على بنائها العتيد لأول من يرحب بهذا التوجه ويباركه ويزكيه.

وإن ارتفاع نبي الإسلام وعروجه إلى أعلى عليين انطلاقا من الأقصى وفلسطين ليشعر – إن شاء الله – بظهور الإسلام وانتصاره في خاتمة المطاف، كما علا رسول الله بعد أن تجاوز كل ذرائع الإحباط، وانتصر على قوى العدوان والشر والشيطان، وما المحنة التي تجتازها الأمة الإسلامية اليوم إلا ابتلاء من الله لدرجة إيمانها ومستوى يقينها، وغدا “يفرح المومنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون“.

وعاد رسول الله e من عروجه إلى مسراه، ومنه إلى المسجد الحرام، نقطة الانطلاق الأولى في الليلة نفسها والليل أليل، إذ لم يستغرق كل ذلك سوى جزء بسيط من الليل لم يتعد أربع ساعات في تقدير البعض.

عاد وقد عرف مكانته عند ربه إذ آتاه ما لم يوت أحدا من خلقه. عاد بعد أن أودع ملف هذا الدين سبقا إعجازيا في ميدان قهر المسافات، وفتحا في ريادة الفضاء. وها هو العلم، بعد أربعة عشر قرنا من الزمن، يتحرك في محاولة للتغلب على الأبعاد وغزو الفضاء على نحو ما يفعله البشر عندما يعتزم استخدام ما أودع الله فيه من قوى ذاتية وسخر له من إمكانات طبيعية.

على أن الإسلام قد هيأنا لقبول مثل هذا الإعجاز بما زودنا به من إيمان ودعانا إليه من إقبال على المعرفة.

إن حديث القرآن عن السرعة المذهلة في نقل الأشياء، وكذا حديث السنة عنها وعن نقل الصور مما لا تنكره أسماعنا.

حدثنا كتاب الله في قصة بلقيس ملكة سبأ عندما عزم عليها سليمان أن تقدم عليه بفلسطين، فأمر خدام المملكة من الجن بإحضار عرشها قبل أن تحضر بشخصها على أن يكون ذلك بأقصى سرعة ممكنة، فأظهر فريقان منهم قدرتهما على فعل ذلك.

أما أحدهما، فقال: أقدر على إحضاره قبل أن تقوم من مقامك، وهذه سرعة خارقة أن يحضر شيئا من اليمن إلى فلسطين في أقل من حركة الجسم قياما من قعود،

ولكن سليمان استبطأ هذه السرعة، فطلب سرعة أكثر، فكان الثاني أقدر على إحضاره في أقل من لمح البصر، وكان هذا فريق أهل العلم.

فحديث القرآن هنا يربط السرعة بالعلم، وإن العلم يستطيع أن يحقق الكثير.

وفي نقل الصورة نجد حديث رسول الله e عندما طلب منه المشركون أن يصف لهم المسجد الأقصى، فظهرت صورته أمامه وصار ينظر إليه ويحدثهم عنه، والصورة ماثلة أمامه كأنه ينظر إليها على شاشة تلفاز يعرض شريطا.

صدى الحدث في مكة:

عاد رسول الله e إلى مكة وأخذ يحدث عن رحلته المثيرة.

فكان الملأ من حوله فريقين:

فريق معارض رافض على رأسه أبو جهل، عمرو بن هشام، حاول أن يجعل من حدث الإسراء والمعراج سلاحا يضرب به مصداقية محمد ويشكك في جديته، وهم ينطلقون في تصورهم من منطلق القدرة المحدودة للإنسان، وأن العادة جرت بأن القافلة التجارية لا يمكن أن تقطع المسافة في أقل من شهر ذهابا وشهر آخر إيابا.

وقد استطاع أبو جهل والمعارضة أن يؤثر إلى حد ما في ضعاف العقول والإيمان، ويزرع الشك والبلبلة في الأوساط العامية، ولو أن أبا جهل بالخصوص كان في قرارة نفسه مقتنعا بصدق ما أخبر به الرسول e، قد يؤيد ذلك ما صدر عنه هو نفسه في حالة من حالات يقظة ضميره، حين كشف عن الخلفية الحقيقية التي تقف وراء معارضته ورفضه.

سئل مرة على رأيه في محمد أهو غير صادق في نظره؟ فقال: كلا، ولكننا تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا ما تحاذينا الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا:”منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نصدقه أبدا”.

أما على مستوى النصرة والتأييد، فكان هناك فريق المومنين بالله على رأسه أبو بكر الذي بادر إلى تصديق رسول الله فيما أخبر به، ولما روجع، أأنت تصدقه في ذلك؟ قال: أنا أصدقه فيما هو أبعد من هذا يخبرني أن الوحي يأتيه من السماء في لحظة من ليل أو نهار فأصدقه، فما لي لا أصدقه وقد رأى ذلك بنفسه.

من أجل ذلك لقب بالصديق.

وينتهي حديث الإسراء والمعراج، وتنتهي معه مرحلة الدعوة في مكة لتبدأ مرحلة النصرة بالتحول إلى المدينة حيث يتحقق هناك وعد الله بالنصر والفتح.

وقف الشعراء ولاسيما شعراء المديح النبوي أمام الإسراء والمعراج مستلهمين من أحداثه ووقائعه، فصاغوه صياغة شعرية جميلة، ومنهم الشقراطمي في لاميته البديعية التي منها قوله:

عرجت تخترق السبع الطبـاق إلى مقام زلفى كريم قمت فيه علي

عن قاب قوسين أو أدنى هبطت ولم      تستعمل الليل بيـن المر والقفل

وحذا البوصيري حذوه:

سريت  من حرم ليلا إلى حرم             كما سرى البدر في داج من الظلم

وبت ترقى  إلى أن نلت  منزلة            من قـاب قوسين لم تدرك ولم ترم

وقدمتك  جميع الأنبـياء بـها               والرسـل تقديم مخدوم على خدم

وأنت تخترق السبع الطباق بهم           في موكب كنت فيه صاحب العلم

وقال في همزيته:

ثم ناداه بعدما  سيمت الخـ                سف وقد ينجـد الغريق النداء

فطوى الأرض سائرا والسما               وات العـلا  فوقـها له  إسراء

فصف الليل التي كان للمختا             ر فيهـا  على البـراق  استواء

وترقى به إلى قاب قوسيـن               وتلـك  السـيادة  القعـساء

رتـب تسقط الأماني عنـها             دونـها  مـا وراءهـن  وراء

على المستوى الأدبي:

أثر حدث المعراج المعجز في الأدب العربي والآداب العالمية المختلفة تأثيرا قويا.

ففي الأدب العربي كان صداه واضحا عند أبي العلاء المعري في الرحلة الخيالية إلى الجنة والنار في “رسالة الغفران” التي كانت رحلة رائعة التصوير محلقة فوق قمم الفن والإبداع، وتلك الرسالة ذاتها ألهمت شاعرا إيطاليا الرائد دانتي في كتابه الشهير:”الكوميديا الإلهية”.

حدث الإسراء والمعراج وصلته بالمسجد الأقصى والقدس الشريف:

تتجدد ذكرى الإسراء والمعراج كل عام، وتمضي بكل ما تحمله من معان ودروس وعبر وأسرار، دون أن يتحقق ما هو مرجو من هذه الذكريات، على مستوى التعبئة الروحية، بل ودون أن يتحقق حتى الحد الأدنى من الإحساس بالانتماء الحضاري والتاريخي لدى السواد الأعظم من الأمة، وكأنها حدث لا يعني شيئا لدينا.

ويتجدد مع تجدد الذكرى على الساحة الإسلامية من النكسات ما يراكم الاخفاقات المتواترة والتي لم تعد الذاكرة قادرة على استيعابها. ولولا أن المحن قديمها ومتجددها قد استنزفتنا، لكانت ذكرياتنا مناسبة لوقفة تأملية، قد تكون دليل هذه الأمة إلى تشخيص العيوب، وتحديد أسباب الداء والبحث عن دوائه الناجع.

وقد يلاحظ أن النمو الديموغرافي للمسلمين في تزايد مطرد، ويلاحظ بالمقابل ترد رهيب وذهول محزن على مستوى الشعور بالذات، والتسارع نحو الانسلاخ عن النفس، والدفع السريع نحو الاندماج في الآخر، والانبهار به واتباع خطاه شبرا بشبر وذراعا بذراع.

ولعل الكثيرين يتساءلون اليوم كما تساءل من كانوا من قبلهم: إلى أين نسير، ونحو أي جهة نحث الخطى؟ وسيبقى هذا التساؤل مشروعا ومعلقا طالما أن جوابا مقنعا عنه لم يأت بعد، وكثير من عقلاء الأمة نصحوا بالخضوع لعملية تغيير كبير تضع حدا للداء الذي يستشري ضرره، وينهي أزمة التخلف الذي كاد أن يكون ضربة لازب لحياة المسلمين، وقدرا مقدورا لا محيد عنه.

والسؤال الذي يطرحه الملاحظون هو: ما شأن هذه الكتلة البشرية الهائلة من حيث كمها، الهزيلة من حيث جدواها وفائدتها لا تخجل من نفسها، ولا تبالي بما يصب عليها من أشكال التنقيص والتهوين من قدرها، سيما وهي – لسوء الحظ – تمثل تراثا تاريخيا وعلميا وحضاريا ما يزال العقلاء يذكرونه بقدر من الاحترام.

لماذا رضيت هذه الأمة بالهوان واستكانت للذل، وألفت المسكنة، وهي التي تملك من أسباب النهضة وشرائط الإقلاع المادي والمعنوي ما يجعل منها المثل الأعلى والقدوة الحسنة للآخرين، ولكن:

من يهن يسهل الهوان عليه            ما لجرح بميت إيلام

ومع ذلك فلا بأس من الأمل والرجاء، فقد تحدث المفاجأة، ويحصل ما ليس بالحسبان.

ولعل في ذكرى حدث الإسراء والمعراج بما تضمنه من أبعاد ودلالات، ما يساعد على تجاوز الضعف واستعادة الوعي بالذات، والانتصار على التحديات.

أما على مستوى الأقصى الذي بارك الله حوله وهو كان غاية الرحلة الأرضية “الإسراء” ومنطلق الرحلة السماوية “المعراج” فإنه جرح عميق، في قلب كل مسلم، أينما كان موقفه في شرق أو غرب، وعلى أرضه المباركة تتجلى قصة الهوان بكل فصولها ومشاهدها التي  يشيب لها الولدان. قصة الضياع  والهزيمة تتجلى بشاعتها وقبحها – أيضا- في استجداء الحل وطلب العفو والرحمة من الغاصب المحتل، ولو كان ثمنه الركوع والخنوع والعار، بالرغم مما نتلوه، ونعيد تلاوته في كل وقت وحين في كتاب ربنا الذي يقول:”ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم“.

 

إن الأقصى الأسير الجريح، يستصرخ اليوم ضمير المسلمين، أن يهبوا لنجدته، وفك أمره، وتحرير رقبته:

لقد أسمعت لو ناديت حيا             ولكن لا حياة لمن تنادى

لقد حقت عليهم كلمات ربك القائل في محكم التنزيل:”لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون“.

ولكن لا بأس على الإسلام، وقد تكفل الله بحفظه وانتصاره ولو كره الكافرون، فإن يضعف قومنا اليوم عن حماية الوجود، وحفظ العهود، فإن الله سيستبدل بهم قوما آخرين أولي بأس شديد، تحقيقا لوعده الذي لن يتخلف أبدا فقد قال وهو أصدق القائلين:”وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم“. 

ويبقى الرجاء معقودا، والأنظار مشدودة والآمال معلقة على إمارة المومنين بمغرب الإسلام، وهي التي جعلت من القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك قضيتها ذات الأسبقية المطلقة، لا يشغلها عن ذلك شاغل، سنة مضى عليها ملوك المغرب منذ أقدم العصور، وتلقاها الخلف عن السلف بالرضى والقبول.

وقد كان فقيد المغرب أمير المومنين مولاي الحسن الثاني طيب الله ثراه أول من انتفض انتفاضة الأحرار عندما اقترفت يد الإجرام جريمة إحراق المسجد الأقصى، فدعا إلى عقد قمة إسلامية بالرباط، حضرها ملوك ورؤساء المسلمين، كانت هي أولى القمم، وفي أحضانها ولدت منظمة المؤتمر الإسلامي التي لها وزنها الإسلامي والدولي؛

وانتخب الحسن الثاني بإجماع الملوك والرؤساء رئيسا للجنة القدس الشريف التي تحمل أعباءها بعزم وصدق وإخلاص صابرا محتسبا حتى أتاه اليقين، وكثيرا ما كان يقول:”سنصلي في القدس، والله سنصلي في القدس”، وسيتحقق ذلك – بإذن الله – مهما طال الزمن.

وها هو وارث سره، وحامل راية النهضة والتجديد من بعده، أمير المومنين سيدي محمد السادس – أطال الله بقاءه – يواصل حمل أمانة لجنة القدس كما حملها والده المنعم، ذابا عن المقدسات، منافحا عن مسرى جده المصطفى الأكرم e ومعراجه باذلا بسخاء من أجل تخفيف المعاناة عن القدس والمقدسيين ودعم فلسطين والفلسطينيين وفاء للأمانة الموضوعة على عاتقه في تحرير القدس، وفك أسر الأقصى الشريف، ولن يخيب الله سبحانه رجاء الأمة في مساعيه المخلصة، وصدق الله العظيم:”وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا”.

شاهد أيضا