النسخة المكتوبة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أيها السادة الأئمة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نستروح في حصة اليوم بذكر قضية منهجية تتعلق بطرائق الفقهاء في التصنيف للقواعد الفقهية والتأليف فيها من خلال أشهر المؤلفات في هذا الفن.
ونشير أولا إلى أن القواعد الفقهية منثورة في مصادر المذهب من المدونة والموازية والواضحة والعتبية وغيرها من مصادر المذهب ودواوينه التي يعتمد عليها المتأخرون في صياغة القواعد.
فهي وإن لم ترد فيها بالصيغ المعهودة أحيانا فإنها مبثوثة واردة بصيغ يدركها المتأمل من خلال عبارات التعليل الفقهي بالمعنى الأعم، كما أنها لم تفرد بالتأليف لكنها موجودة مستحضرة في الأذهان والبيان وإن لم تبرز للتخصيص بالبنان، بل إن من النصوص الشرعية ما هو جار مجرى القواعد، وهو نوع يسمى التقعيد بالنص، مثل “لاضرر ولا ضرار” ومثل: “الخراج بالضمان”.
الطريقة الأولى: المزج بين القواعد والضوابط الفقهية وذكر الخلاف في الفروع المندرجة فيها مع مراعاة الأبواب الفقهية
وهي طريقة العلامة محمد بن حارث الخشني المتوفى في حدود 361 هجري، فكتابه المسمى “أصول الفتيا في الفقه على مذهب الإمام مالك” أعلق بالفروع منه بالقواعد مع أنه مضمن قواعد وكليات فقهية.
وكتابه يعد من أقدم الكتب التي تصنف ضمن المؤلفات في القواعد الفقهية، وتسمية مضمونه أصول الفتيا جار على إطلاق الأصول على القواعد لاسيما الأصولية والفقهية الكبرى لشبهها بالأدلة لاطرادها وشهرة أصولها، كما أن إطلاق الأصول على معتمد الأقوال في المذهب عرف جار بين أئمة المذهب.
وأيضا لأن أقوال المجتهدين كالأدلة الشرعية للمقلدين.
والشاطبي يقول: “أقوال العلماء بالنسبة إلى العامة كالأدلة بالنسبة إلى المجتهدين.”[1]
ويقول أيضا: “فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئا؛ فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: {فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ اَ۬لذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]”.
والمقلد غير عالم؛ فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام أقوال الشارع.”[2]
ومن العبارات المحتملة لإطلاق الأصول بمعنى الروايات ما جاء في الجامع لابن يونس بعد كلام: “…لأن كثيرا في أصولنا أن نجعل القليل تبعاً للكثير، ولكن القياس ما قدمنا.”[3]
وفي تنبيهات القاضي عياض: “وأنكر محمد بن مسلمة نقده عن الطعام غيره، ورأى ذلك من بيعه قبل قبضه، وقد اعتذر عنها شيوخنا، وتأولوها بما هو منصوص في أصولنا الشارحة”.[4]
وإرجاء الحجة مصرح عنه في أصولنا الواضحة وغيرها، وهو في المدونة في مواضع في ثاني النكاح وفي الخلع وكتاب الشفعة وغيرها.[5]
وفي شرح التحفة للعلامة التسولي التعبير بالاحتجاج عن الاستشهاد بكلام الأئمة في سياق ذكر شروط المسلم فيه في باب السلم قائلا بعد كلام: “وتعبيره بالقيمة مساو لتعبير غيره بالأغراض كما حققه ابن رحال قائلا: كل ما تختلف به القيمة تختلف به الأغراض وبالعكس، وأطال في الاحتجاج لذلك بكلام الأئمة”[6].
وعلى أي حال فللكتاب أثر بين في كتب فقهائنا، وعليه عول غير واحد من المحققين في جمع القواعد والكليات وتقرير مسائلها، ومن أشهر المتأثرين به العلامة الفقيه المقرئ ابن غازي المكناسي رحمه الله في كلياته الفقهية لما بين الكتابين من تشابه في العبارة أحيانا.
الطريقة الثانية: المزج بين القواعد الفقهية والأصولية واللغوية الخادمة للصنفين من القواعد مع خلط بينها بعلاقة رابطة أحيانا، وأحيانا من غير صلة بينة
وهي طريقة الإمام القرافي في كتابه: “الفروق“، والظاهر أن الإمام القرافي رحمه الله كان يدون الفروق والقواعد وغيرها حسب ما يرد عليه من الإشكالات ليعود لترتيبه وتهذيبه فلم يكتب له ذلك.
وهذا شيء ادخره الله للإمام البقوري الذي كتب كتاب تهذيب الفروق وتلخيصها والاستدراك عليها.
والدليل على أن طريقة الفروق ليست الطريقة المنهجية في ترتيب الأفكار عند القرافي رحمه الله أنه في كتاب الذخيرة ذو منهج دقيق محكم شكلا ومضمونا.
وفي الحصة المقبلة إن شاء الله نكمل هذه الطرائق بحول الله وقوته.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] الموافقات 5/68
[2] الموافقات 5/336
[3] الجامع لابن يونس 10/766
[4] التنبيهات المستنبطة للقاضي عياض 3/1224
[5] المعيار 1/412
[6] البهجة في شرح التحفة 2/ 259


