البلاغ السديد شروطه ومقتضياته، مقالة بمجلة دعوة الحق، كتبها الأستاذ إدريس ابن الضاوية (رئيس المجلس العلمي المحلي للعرائش) ضمن مقالات العدد 450 بتاريخ ذو القعدة 1446/ أبريل 2025
البلاغ السديد شروطه ومقتضياته
ذ. إدريس ابن الضاوية
البلاغ السديد شروطه ومقتضياته، مقالة بمجلة دعوة الحق، كتبها الأستاذ إدريس ابن الضاوية (رئيس المجلس العلمي المحلي للعرائش) ضمن مقالات العدد 450 بتاريخ ذو القعدة 1446/ أبريل 2025؛ وفيما يلي هذه المقالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الخيرة الأبرار.
أما بعد؛ فالمراد بالبلاغ والتبليغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، مكانا كان أو زمانا، أو أمرا من الأمور المقدرة… ونحوه قوله عز وجل: ﴿هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ﴾ [إبراهيم: 52]، وقوله سبحانه: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَ۬لْبَلَٰغُ وَعَلَيْنَا اَ۬لْحِسَابُ﴾ [الرعد: 40].
والبلاغ: الكفاية، نحو قوله عز وجل: ﴿إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَٰغاٗ لِّقَوْمٍ عَٰبِدِينَ﴾ [الأنبياء: 106]، وقوله عز وجل: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَٰتِهِۦۖ﴾ [المائدة: 67]، أي: إن لم تبلغ هذا أو شيئا مما حُمِّلت تكن في حكم من لم يبلغ شيئا من رسالته، وذلك أن حكم الأنبياء وتكليفاتِهم أشد، وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يُتجافى عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا...
ويمكن أن يعرف من جهة العمل، بأنه الخطاب الديني الملقى من مبلغ عامل مؤهل، في موضوع محدد يستجيب لحاجة تدين الفرد والجماعة، بتناول حكيم يحصل به الإقناع.
البلاغ عن الله روح أمانات العلماء
وهو من أجل مهام العلماء ـ التي لا يقوم مقامهم فيها أحد غيرهم ـ النهوض بمهمة الدعوة وخلق الاستعداد للهداية بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم من هذا المنظور شهود ومحتسبون ولكنهم منشغلون بأرواح الناس مهتمون بخلق الوازع الديني عندهم، لأنهم صناع على الدوام في معمل الهداية والتسديد الذي هو منبر العلماء الأساس، ولاسيما فضاء المسجد الذي يقومون فيه بتبصير الناس وتلبية احتياجاتهم الدينية وتعليمهم مراقبة الله تعالى وتثقيفهم بواجباتهم نحو غيرهم، وتوفيقهم إلى استشعار المسؤولية في تصرفاتهم أمام ربهم.
وقد جعلتهم هذه المهمة المنوطة بهم بحق الوراثة للعلم النبوي المنتهي إليهم مركزيين لا هامشيين، لأنهم متوغلون بأمانة البلاغ في عمق الإصلاح والتغيير، والحجة الدامغة على ذلك ما ينتظر من رسالتهم من إرجاع الإنسان إلى الفطرة وإخراجه من سكرة الغفلة، وحمايته من الفتنة، وإبعاده عن جحيم أنواع الإدمان المفسد للأبدان والمشوه للأوطان، والمهدم للعمران، والنأي به عن التكاليف الباهظة لنمط حياة التكاثر الملهي، ومن أنواع الإسراف والانحراف والفاقة والشدة الموقعة في الإفساد برا وبحرا وجوا.
إن إدراك هذه الحقيقة تجعل العلماء يدركون أن السياسة الموكولة إليهم التي مدارها على التلقين والتمثيل والتمرين هي التي يمكن أن تصلح بها حياة الناس، وتصان بها أوطانهم، وتنمو بها مجتمعاتهم، وتنضبط بها السياسة التي تؤطرها مختلف أنواع الفعاليات.
إن الإقناع بهذا المنظور يتطلب مجهودا خاصا من العلماء ويتطلب على الخصوص أن يقوموا بكل ما أوتوا من قوة بحق البلاغ، مقتنعين بضرورة الانفتاح على العاملين في محيطهم بالإصلاح انطلاقا من مبادئ الدين ومقاصده وقيمه، وأن يحققوا مع من يشاركهم في مشروع إصلاحهم في إطار ثوابتهم المحققة لإجماعهم، وموروثاتهم المؤسسة لقيمة التعاون على البر، والمشايعة على التقوى اللذين أمر الله بهما جماعة المؤمنين في قوله سبحانه: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَي اَ۬لْبِرِّ وَالتَّقْويٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَي اَ۬لِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ﴾ [المائدة: 2]، ليبينوا للناس بحق تساندهم نصح غيرهم الذي يريدون به وجه الله قدر الأخلاق في التحالف على البر والتآزر على الخير، وَعظم فضلها في التأثير في غيرهم وإظهار وصف الإنصاف في علاقاتهم قولا وفعلا، ليعيش المتكلمون في الدين في محيطهم أوفياء لأماناتهم قائمين بحق أحكام شريعتهم، شاهدين على غيرهم بحسن إسوتهم، متواضعين لربهم، متآلفين فيما بينهم ومتعاونين على مهامهم، ومتراحمين، بحيث لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد.
وهذا يفرض على من هداه الله للبلاغ عنه ممن شرف بالانخراط في مشروع تسديد التبليغ الرائد الذي يشرف عليه العلماء في دولة إمارة المؤمنين صانها الله تعالى؛ أن يكون شخصا سويا (1) مقتدى به، مشهورا بطلب العلم ومعروفا به بين أهله ومحققا للمقصد منه في العمل والخشية والعطاء مظهرا للغاية الممكنة منه في الصلاح والإصلاح.
ومكونات هذا التوصيف الأساسية لعالم الوقت، توجب على من يرجو أن تنتهي إليه الصفة في العلم الملي ـ العقلي والنقلي ـ أن يكون متحققا بصفات أساسية، وجامعا سمات ضرورية علمية وعملية وربانية وأخلاقية، وانتمائية، وتنزيلية مراعية لرسم خطة التبليغ المعممة، تؤهله للقيام بواجبه نحو دينه وأمته، وخاص جماعته؛ حماية لتدينها وإصلاحا لأحوالها، وتنمية لمعارفها، ونفيرا دائما لازما لحراستها ودرء الفتنة عنها بترصد كل أنواع المشوشات التي تقذف بها ثوابت الأمة وتقصف اختياراتها، للتشغيب على وحدة الجماعة ولذاذة سكينتها.
وتستلزم هذه الصفات في حق العالم المنخرط بيقين في مشروع تسديد التبليغ؛ أداء حق الدين العملية بخدمة مقاصده وأسباب إقامة مكارم أخلاقه، لتحقيق غاية النبوة بإخراج الناس من ظلماتهم الراجعة إلى أنجاسهم وأرجاسهم وتمكن شياطينهم منهم، إلى نور الله المبين عن مراده منهم وعن أوجه علاج أدوائهم وطرق التحفظ مما يحول بينهم وبين أداء أماناتهم، وتحقيق واجب استخلافهم، بتصحيح معتقداتهم، وتقويم أخلاقهم، وضبط علاقاتهم... حتى تقوم على توثيق الصلة بالله الملحوظة صورتها في المبلغ عن الله بصدق إعماله لمقتضى ما أحاط علمه به من مكارم دينه، وأحكام شريعته التي تضمن له بلوغ السبق إلى مقاصد القرآن الكريم في السبق إلى منزلة القدوة والإمامة والشهادة على الناس التي يصدقها ما يراه قومه فيه من كرامة القبول الموضوع له في الأرض.
إن العالم القائم على مشروع تسديد تبليغ الدين يجب عليه أن يتحلى بحسن تبليغه، وإجادة تقريبه وتحصيل النفع الممكن به، نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلقينه، واقتداء به في تمثيله، وحرصا على تحقيق الهداية المرجوة لأتباع ملته؛ بتثبيت الإيمان في نفوس الناس، وتقريبهم من مفاهيم دينهم، وحمايتهم في وحدتهم، وصونهم من ألقيات المشوشين الذين يلقون أزمة أمورهم إلى مقتاديهم بغير حجة، أو الذين استثقلوا العبادات، وانسلخوا عن ضوابط المعاملات، واستنكفوا عن إتيان الصالحات، ولم يسندوا اختياراتهم إلى حجة مقبولة، أو محجة مسنونة، تذكرهم بأن الله لا يخلق شيئا عبثا، ولم يترك الخلق سدى؛ لقوله سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا اَ۬لسَّمَآءَ وَالَارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَٰعِبِينَ (16) لَوَ اَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواٗ لَّاتَّخَذْنَٰهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَٰعِلِينَ﴾ [الأنبياء 17 ـ 16 ]. وقوله: ﴿أَفَحَسِبْتُمُۥٓ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثاٗ وَأَنَّكُمُۥٓ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَۖ (116) فَتَعَٰلَي اَ۬للَّهُ اُ۬لْمَلِكُ اُ۬لْحَقُّۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ اُ۬لْعَرْشِ اِ۬لْكَرِيمِۖ﴾ [المؤمنون: 117 ـ 116].
مراتب البلاغ السديد وأولوياته
من أهم ما يجب على المندرج في رسوم خطة التبليغ أن يكون مستحضرا لمراتب الأولويات في البلاغ السديد المراد به تقديم ما يستحق التقديم من مجموع الوظائف الدينية العقدية والعملية المنوطة بمشيخة العلم؛ وجماعها في الانشغال بإصلاح القلوب من أدرانها، ثم إقامة الجوارح على رسوم هدايتها، ثم ضبط العلاقات الأسرية والبينية على أساس الإنصاف المتبادل المراعي مقاصد المكلف في حفظ دينه، ونفسه، وعرضه، وعقله وماله، والاهتمام بما أجمع عليه أهل بلده في العقيدة والعبادة والسلوك ونظام الحكم الحامي لهذه المقاصد كلها والراعي للوسائل الموصلة إليها نصا وتنزيلا وسياسة، لتحقيق نعمة الأمن والاستقرار التي تطيب بها الحياة ويتحقق بها الأمن وتشيع به نعمة الحرية التي يرى بها الإنسان ما يود رؤيته، ويقول ما يود قوله، ويفعل ما يود فعله مما لا يتصادم مع الإجماع القائم على ثوابت الأمة وموروثها الثقافي والحضاري.
إن أعز ما يتقصده هذا التبليغ الرشيد، وأولى ما يتطلبه ذلك البيان القاصد السديد: إعانةُ العامة ـ بتوكل وصبر واحتساب ـ على بلوغ هذا الأمر بنوعيه أصلا وفرعا؛ بحمل النفس على تطلب الحياة الخالدة، ورياضتها لبلوغ السعادة الماتعة؛ بسلامة التوحيد وتهذيب الأخلاق، وتصفية الأعمال، وتوفير الحقوق الواجبة المراعاة، وابتغاء مواقع رضوان الله المبتغاة، مفتاح استحقاق الدخول في الصراط القويم الموصل إلى الحياة الطيبة الموعودة، التي ضمنها الله لمن راقب العاقبة، واستعظم مستتر الخاتمة؛ فأجاب إجابة عملية سلوكية مشهودة عن الأسئلة المصيرية الفاصلة في مقامات المكلفين يوم القيامة، المجتمعة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه». (2).
وأول محور في التبليغ السديد يوصل إلى ذلك، التوحيد المحرر الأصيل المنزه عن الأغراض، الذي تقام به العبادة المطلوبة، والعلاقات المنشودة، المشار إليهما في قوله تعالى: ﴿اِنَّ هَٰذَا اَ۬لْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ اُ۬لْمُومِنِينَ اَ۬لذِينَ يَعْمَلُونَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمُٓ أَجْراٗ كَبِيراٗ (9) وَأَنَّ اَ۬لذِينَ لَا يُومِنُونَ بِالَاخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً اَلِيماٗ﴾ [الإسراء: 10 ـ 9].
إن أعظم ثمرة تستجلب من الدخول في رسوم هذا الاهتداء والذي به تتحمل المشاق، وتحمى النفس من العدمية، ومستقبح العبثية، التي تسوغ للإنسان أن يفعل ما يقبح في السمع والعقل في نفسه وأهله وخاصة جماعته.
كما تتحقق به مشمولات الاعتقاد وما يقتضيه من حسن العمل المؤسس على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والائتساء به في رحمته وخلقه وتواضعه، وانبساط نفعه لغيره، وحرصه على نجاة أمته؛ لأنه تمثل القرآن الكريم وأدى حقه في التلقين والتمرين، والنصح للمسلمين، حتى أمر الله تعالى باتخاذه إسوة حسنة هادية إلى الرشد الاعتقادي والعبادي والسلوكي في قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِے رَسُولِ اِ۬للَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اُ۬للَّهَ وَالْيَوْمَ اَ۬لَاخِرَ وَذَكَرَ اَ۬للَّهَ كَثِيراٗۖ﴾[الأحزاب: 21]، وفي قوله: ﴿..وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْۖ وَمَا عَلَي اَ۬لرَّسُولِ إِلَّا اَ۬لْبَلَٰغُ اُ۬لْمُبِينُ﴾ [النور: 54].
إن من أجل ثمار هذا الاقتداء المشترط في الإيمان بمستلزماته الاعتقادية، والعبادية، والأخلاقية، التزام الذكر، واستصحاب الشكر، واحتمال الصبر، وتحصيل التقوى التي تعين على تطهير النفس، وتقوي استصفاء السلوك، وتؤيد على مقاساة ما يشغل عن الحقوق، وتعين على استكمال مكارم الآداب، وإدارة التصرفات على رسم مكارم الأخلاق التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم غاية بعثته، وعدها رأس مهمات رسالته، واصطفاها عنوانا للصدق في الانتساب إلى ملته، ودليلا على معرفة الله تعالى ومعرفة حقوقه، وفقه فروض حنيفيته في قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؛ (3)
وقوله: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» (4).
إن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أنموذج رحمة الله في توحيده، وصدقه، وأمانته، وعبادته ونفعه، وكمال خلقه، وإحسانه إلى غيره كل أيام دهره، يعتبر في هذه الملة عنصرا أساسيا في أداء حق العبادة وإعطائها المعنى الحقيقي في التوحيد والاتباع ولزوم الجماعة والألفة بين المؤمنين، الذي يُذَكَّرُ به الناس كل يوم من خلال الأذان والإقامة والصلاة، الممثلة للمحور الأساس في إقامة رسوم العبودية لله تعالى إقامة تصفي النفس وتقوم السلوك، وتحفظ أمن الجماعة واستقرارها.
إن هذه الثمرة المنظمة للسلوك الإنساني والشاهدة عليه هي التي يصدقها من جهة العمل؛ كف مُتَشَرَّرِ الأذى، والخروج عن الحظوظ ببذل الندى، وإدخال السرور على ذوي الكلالة والفاقة، وإسعاد أهل ثقل الحاجة والمسكنة والهشاشة، والاقتصاد في الأمور، وإقامة العلاقة بين الناس على مبدأ البرور واستحلاء الخيور، القائم على أصل الإنصاف الذي يتجلى في حفظ الأمانة، وصدق اللسان، وحسن الخلق ، وكسب الحلال المشار إلى قدرها والمنوه بفضلها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طُعمة»
ـ أي في وجه المكسب ـ(5).
ولا شك أن مفردات عناصر هذا التخلق الذي يقتضيه الإيمان الكامل، وتؤدى به الحقوق على الوجه الشامل، مجتمعة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالِاحْسَٰنِ وَإِيتَآءِےْ ذِے اِ۬لْقُرْب۪يٰ وَيَنْه۪يٰ عَنِ اِ۬لْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِۖ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَۖ ﴾ [النحل: 91]، التي نقل الحافظ ابن عبد البر عمن يعلم من أهل العلم أنها أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق؛ وأن من أصولها في فقه عائشة أم المومنين رضي الله عنها: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة، وحفظ الأمانة، وصلة الرحم، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف؛ والحياء رأسها (6) ووسيلتها لبلوغ الكمال الإيماني الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخيركم خيركم لنسائهم» (7) وألطفهم بأهله» (8).
ما يرتجى أن يثمره البلاغ السديد
إن أهم ما يرتجى من خطة تسديد التبليغ المبدعة المحكمة، أن ترفع عن عامة الناس الحجب الحائلة دون لحاظ نظر الحق تعالى في وعده، أن يحفظ بها حق الأدب معه وفق مراد أمره، وترعى مصلحة القلب بطهره، ويتحرز من العَشَى عن ذكره، ويعتصم من مداخل الشيطان وحزبه، ويقام على أساسها محاسبةُ النفس على سوئها، والاطلاعُ الحثيث على خاص عيوبها، وتداركُ معاصيها وغرورها، وصيانةُ حقوق الخلق بشروطها، وإشاعةُ الرحمة بسرورها، وحفظُ الأمانات بأنواعها؛ وترقبُ الآخرة بأحوالها ونتائجها وجزاءاتها، التي بها تلذ الحياة الطيبة التي وعد الله تعالى بها عباده، وضمنها لمن جعلهم أولياءه، في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَّعْمَلْ مِنَ اَ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلْماٗ وَلَا هَضْماٗۖ﴾[طه: 112 ] (9)، وقولِه سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ انثىٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗ﴾.
ولهذه الحياة الطيبة المستجمعة لقوى الاستقامة، رُوحُها وَرَوْحُها وأثرها الأسري والاجتماعي والأمني، إذا صدق إعمال معنى الإيمان في الأقوال والأفعال والأحوال، وتزين التدين في أنظار الآخرين، وتوثق التعايش بين الموافقين والمخالفين، يتمظهر إن شاء الله بها في علاقاتنا مقام الإحسان بيننا بالأخلاق والأعمال والأقوال وبذل الأموال وإسقاط الحقوق المثقلة وإباحة المنافع المفرحة، والإعانة على الطاعات، والمساندة في المبرات، والمساعدة بكل نفع ممكن يدخل به السرور على الناس؛ فيدخل فيمن قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَ۬للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُۥٓ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمُۥٓ إِيمَٰناٗ وَعَلَيٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَۖ ٢ اَ۬لذِينَ يُقِيمُونَ اَ۬لصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُومِنُونَ حَقّاٗۖ لَّهُمْ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٞ وَرِزْقٞ كَرِيمٞۖ﴾ [الأنفال: 2 ـ 4].
وقد أبدع في الكشف عن حقيقة معناها الإمام الحسين بن الحسن الحليمي في قوله: إن الآية فيمن إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا، وليس المتخلف عن الفرائض، والقعود عن الواجبات اللوازم، من زيادة الإيمان بسبيل. فالآية فيمن إذا ذكر الله وجل قلبه، وليس ارتكاب المعاصي ومخالفة الأوامر من إمارات الوجل. فصح أن الذين بيننا أن يكونوا مؤمنين حقا، أو حسبنا أن يكونوا ناقصي الإيمان، غير داخلين في الآية. وأيضا فإنه إذا ثبت أن الموصوفين في الآية، إنما كانوا بما استوجبوا اسم المؤمنين حقا لمكان الأعمال التي وصفهم الله بها، ولم تكن الأعمال المتعبد بها هذه وحدها، صح أن المراد بذكرها هي وما في معناها من الأعمال المفروضة أو المندوب إليها، والصلاة إشارة إلى الطاعات التي تقام بالأبدان خاصة، والإنفاق مما رزق الله عز وجل إلى الطاعات التي تقام بالأموال، ووجل القلوب إشارة إلى الاستقامة من كل وجه. ويدخل فيها إقام الطاعات والابتعاد عن المعاصي. وأيضا فإن الله عز وجل وصف الصلاة: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. فبان بذلك، أن المحافظ على الصلوات، المقيم بها كما شرعت، الموفي حقها من الاستكانة والتباؤس والخشوع لا يكون إلا منتهيا عن الفحشاء والمنكر، فخلصت الآية إذا في الممتنعين من الفواحش ...(10).
والحمد لله رب العالمين
- (1) . القصد بالسواء هنا سلامة المتكلم في الدين من الاضطرابات النفسية والعقلية التي لا تفرق بين الطبقات، ولا تميز بين الأشخاص، ولا تراعي السن ولا الجنس ولا مستوى الثقافة. ينظر العقل الحي ص:128.
- (2) . العلم لأبي خيثمة زهير بن حرب ص:22، والترمذي برقم 2417، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
- (3) . أخرجه الإمام أحمد، 8939.
- (4) . البخاري برقم 6016.
- (5) . البيهقي في شعب الإيمان برقم 5012.
- (6) . التمهيد 334/24.
- (7) . الترمذي برقم 1162.
- (8). الترمذي برقم 2612
- (9) . قال الراغب الأصفهاني: بإصلاح قوة الفكر تحصل الحكمة حتى يحترز من البله والجربزة ـ أي الغباء ـ ويتحرى الاقتصاد في تدبير الأمور الدنيوية. وليس نعني بالحكمة ههنا العلوم النظرية وإنما نعني بها الحكمة العملية التي يتحري بها المصالح الدنيوية، وبإصلاح هذه القوى يحصل في الإنسان قوة العدالة فيقتدي بالله تعالى في سياسة نفسه وسياسة غيره، ص :95.
- (10) . المنهاج في شعب الإيمان 1/ 34.