االإِيمَانُ يَنبُوعُ المَحَبَّةِ
الحمد لله؛
إنَّ الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عبده ورسوله، القائل ﷺ:
«لا يُؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»
رواه البخاري
صلَّى الله وسلَّم عليه، وعلى آله الطَّيبين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وعلى التَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد،
فإنَّ ممَّا ينبغي التَّذكير به، أنَّ المحبَّة وتآلف القُلوب هما قِوامُ الحياة الطَّيبة التي ينشُدها النَّاس، والإيمانُ هو ينبُوعهما الذي يروي العلاقات بينهم ويَسقيها، بما يَغرِسُ في قلوبهم من كريم الأخلاق، وجيِّد الخِصال، كالإيثار والتَّفاني في بذل المعروف لكلِّ الخلق، وغيرها من المكارم والفضائل، وكلُّ ذلك سعياً من العبد للتَّقرب إلى مولاه، واحتساب الأجر والثَّواب، وليس ذلك إلاَّ لمؤمن.
ولكن؛ وأنت تلتمس في طريقك ومسلكك أن تُحيي قلبك بالمحبَّة الإيمانية، لابد وأن تعلم أنَّ أسَاسها وشَرطها هو: محبَّةُ الله تعالى أولاً، فهي التي تنبثق منها سائرُ أنواع المحبَّة وتعودُ إليها، فمن أحبَّ لله، نال من محبَّة الله تعالى ما يُرضيه، وأنزله الله يوم القيامة منزلةَ المتحابِّين فيه. كما أخبر بذلك نبيُّنا ﷺ فيما يرويه عن ربِّه، عزَّ وجلَّ، أنَّه يقُول يوم القيامة:
«أين المتحابُّون لجلالي؟ اليومَ أُظِلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي»
رواه البخاري
وأولى النَّاس بهذا الحبِّ رأساً هو رسول الله ﷺ، فلا يصحُّ إيمانُ المؤمن إلاَّ بمحبَّته عليه السَّلام، فهو فوق المحابِّ كلِّها من مال، وولد، وما سواهما، لقوله ﷺ:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكُون أحبَّ إليه من ماله، وولده، والنَّاس أجمعين»
رواه البخاري
فإيمانُ المرء لا يصحُّ حتى يحبَّ الله ورسوله أكثر من أي شخص، أو أي شيء آخر ممَّا تتعلَّق به القُلوب والنُّفوس من المحبُوبات، مصداقاً لقول الله تعالى:
﴿قُلِ اِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ اِ۪قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اَ۬للَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِے سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّيٰ يَاتِيَ اَ۬للَّهُ بِأَمْرِهِۦۖ وَاللَّهُ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْفَٰسِقِينَۖ﴾.
[سورة التوبة الآية: 24]
ومعنـى الآية الكريمة أنَّه لا ينبغي أن تكون هذه الأمور الثَّمانية المحيطة بالإنسان حواجزَ بينه وبين الله ورسوله ﷺ، بل يجب أن تكُون أسباباً موصلةً إليه، ومساعدةً على الوقوف بين يديه سُبحانه.
فإذا صحَّت محبُّة العباد لله ورسوله ﷺ، وملكت عليهم كلَّ كيانهم وجوارحهم، أثمرت في قُلوبهم محبَّة الآخرين، مصداقاً لقوله ﷺ:
«لا تدخلُون الجنَّة حتى تؤمنُوا، ولا تؤمنُوا حتـى تحابُّوا»
رواه مسلم
فيقبلون بالخيـر على النَّاس، ويسعون في نفعهم، ويدفعون الشَّر عنهم، ليعيشُوا حياةً طيِّبةً مِلْئُها الودُّ والغبطةُ وحبُّ الغيـر، ونشر الفرحة في حياة النَّاس بمُختلِف طبقاتهم ومستوياتهم. وهكذا فالإيمان الذي تخالطه المحبَّة يُغيـِّر الشخصَ المؤمن في باطنه، ويجعلُه محباً للخير والإحسان، ومن ثمَّ وجب على كلِّ واحدٍ منَّا أن يراقب الله في باطنه، ويعرف أنَّ الاتصاف بالمحبَّة من علامات استقرار الإيمان في القلب.
تلكُم عباد الله بعض الثمار المرجوَّةِ من دعوة العلماء لتسديد التَّبليغ من أجل إسعاد الفرد والمجتمع، وهي لبُّ ما جاء به الرَّسول ﷺ باعتباره رحمةً للعالمين، ولا تكُون الرَّحمةُ منتشرةً بين النَّاس إلاَّ بالمحبَّة والإيثار.
نفعني الله وإياكم بكتابه المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإيَّاكم من عذابه المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وليُّ الصَّالحين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، وقُدوة المتحابِّين، سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله؛
إذا دلَّ البيان القرآني والنَّبوي على قيمة المحبَّة ومكانتها في الشَّريعة الإسلامية، فإنَّ الصَّحابة، رضوان الله عليهم، طبَّقوا هذه القيمة في حياتهم أحسن تطبيق، وجسدُوا بسلوكهم صوراً من المحبَّة تدل على فهمهم السَّليم لتعاليم الإسلام.
وهاكم، عباد الله، أنموذجاً واحداً للتَّمثيل لا الحصر؛
«قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة، فآخى النَّبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه سعدٌ أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السُّوق»
رواه البخاري
فإن تعجب، أخي المسلم، من سخاء ابن الربيع، فأعجب منه زُهدُ ابن عوف، الذي لم يزد أن قال أمام هذا السَّخاء العارم: «بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلَّني على السُّوق».
عباد الله،
هذه قصةٌ تستدعي التَّوقف عندها لنتأمَّل ما الذي غير هؤلاء لهذه الدَّرجة العالية من المحبَّة والإيثار، التي أخبـر عنها القرآن الكريم في قول الله جلَّ جلاله:
﴿وَالذِينَ تَبَوَّءُو اُ۬لدَّارَ وَالِايمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِے صُدُورِهِمْ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُوثِرُونَ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٞۖ وَمَنْ يُّوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَۖ﴾.
[سورة الحشر الآية: 09]
إنَّه الإيمان المنغرِس في قلوبهم، والمتجلِّي في أعمالهم، وليس ببعيدٍ على من سلك نهجهم أن يفُوز فوزهم.
فاتَّقوا الله، عباد الله، وصلُّوا وسلِّموا على المعلِّم الحكيم، والمربِّي الحليم، سيِّدنا محمد عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم، فاللهم صلِّ على سيِّدنا محمد عبدك، ونبيك، ورسولك النَّبي الأمِّي، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً عددَ خلقك، ورضَى نفسك، وزنةَ عرشك، ومداد كلماتك، وارض اللهم عن الخلفاء الرَّاشدين الأئمة المهديين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، الأنصار والمهاجرين، وعن التَّابعين وتابع التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
وانصر اللهم من قلدته أمر عبادك، عبدك الخاضع لعزِّك وجلالك، مولانا أميـر المومنين محمداً السَّادس، نصـرا تعزُّ به الدِّين، وترفع به راية الإسلام والمسلمين، وأقرَّ عينه بولي عهده الأميـر مولاي الحسن، وشدَّ أزره بشقيقه الأمير المولى رشيد، وارحم اللهم الملكين الجليلين مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأدخلهما برحمتك في عبادك الصَّالحين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكُفر والفُسوق والعصيان، واجعلنا من الرَّاشدين، فضلاً منك ورحمة يا أرحم الراحمين. يا رب العالمين
اللهم اجعلنا من المحبِّين لك ولرسُولك ولكتابك، ومن المتحابِّين فيك، وحبِّب إلينا كلَّ ما يقربنا إليك.
ربَّنا اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم، فإنَّك تعلم ولا نعلم، وأنت علاَّم الغُيوب؛
ربَّنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنَّا، ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار، ربَّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة، إنَّك لا تخلف الميعاد؛
ربَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين؛
ربنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار.
سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفُون، وسلامٌ على المرسلين،
والحمد لله ربِّ العالمين.