النسخة المكتوبة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السادة الأئمة الأفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كثير منكم شهد التحولات التي شهدها مجال الإعلام في حياتنا المعاصرة، ورغم سرعة وتشعب هذه التحولات إلا أن تحولا شكل منعطف الثورة الإعلامية التي نحياها اليوم، وأقصد انتقال الأشخاص من وضعية تلقي الأخبار والمعلومات التي تنتجها وسائل الإعلام التقليدية إلى وضعية صار فيها المتلقي معدا ومنتجا ومرسلا للمضامين الإعلامية، وهذا ما أنشأ إعلاما موازيا سمي بـالإعلام الجديد.
وهذا الموضوع هو الذي سنتناوله وإياكم في لقاء اليوم.
لقد توج الإعلام الجديد ثورة شاملة طالت عالم الاتصال والمعلومات، محدثا تحولا جذريا حيث لم تعد قضية احتكار المعلومات والأخبار ووسائل الإعلام من اختصاص الدول والمؤسسات الكبرى، وإنما صار متاحا لأي شخص أن ينشئ قناته الإذاعية أو قناة على اليوتيوب، وينشئ مدونة أو منتدى أو حسابا على مواقع التواصل الاجتماعي، وبإمكانه إنتاج المعلومة أو الخبر أو أي مضمون إعلامي يستهدف به جمهوره الخاص عبر العالم بدون حدود ولا قيود.[1]
فما هي حقيقة هذا الإعلام الجديد؟
المحور الأول: الإعلام الجديد؛ المفهوم الخصائص
الإعلام الجديد هو مصطلح واسع يصف جميع أشكال المحتوى الرقمي التفاعلي الذي يتم إنشاؤه ونشره وتبادله عبر المنصات الرقمية، وهو لا يشير فقط إلى “المحتوى” نفسه، بل إلى التقنيات والمنصات والثقافة المصاحبة له.
الفقرة الأولى: مفهوم الإعلام الجديد
يعرف قاموس ليستر Lester الإعلام الجديد باختصار بكونه مجموعة تكنولوجيات الاتصال التي تولدت من التزاوج بين الكومبيوتر والوسائل التقليدية للإعلام، الطباعة والتصوير الفوتوغرافي والصوت والفيديو“.
وبعبارة أخرى يطلق الإعلام الجديد ويقصد به جميع الوسائط والأنظمة الرقمية المعتمدة على الإنترنت والتقنيات الحديثة، التي تتميز بالرقمنة والتفاعلية والاندماج بين النصوص والصور والصوت والفيديو، وهو ما يسمح للمستخدمين بالوصول إلى المحتوى والمشاركة فيه والتفاعل معه بشكل مباشر.
ومن الأمثلة على وسائل الإعلام الجديد:
§ مواقع التواصل الاجتماعي: مثل فيسبوك، إنستغرام، وتيك توك؛
§ تطبيقات الدردشة وتبادل الرسائل: كالوتساب والتلغرام؛
§ المدونات: هي منصات تتيح للأفراد والمؤسسات تدوين ونشر المقالات والأفكار والمعلومات التي يستهدفون بها جمهورهم الذي يقصدون التأثير فيه؛
§ مواقع الفيديو: كالمنصات التي تنشر المحتوى المرئي ومقاطع الفيديو كاليوتيوب وتسمح بنشرها ومشاركتها وتحميلها.
§ البودكاست: عبارة عن مدونات صوتية توفر محتوى صوتيا يمكن للمستخدمين الاستماع إليه في أي وقت.
§ الصحافة الإلكترونية: وتجسدها المواقع الإخبارية التي تنشر الأخبار على مدار الساعة عبر الإنترنت.
§ الراديو والتلفزيون الرقمي: ويتجليان في أشكال مطورة من الإذاعة والتلفزيون تعتمد على التقنيات الرقمية، وثبت على الانترنيت وتستغني عن الكابل أو اللاقط الهوائي.
الفقرة الثانية: خصائص الإعلام الجديد
يتميز الإعلام الجديد بخصائص:
أولا: التفاعلية
في الإعلام التقليدي يكتفي المستهدف بالتلقي، وليست لديه إمكانية التفاعل مع مضمون الرسالة الإعلامية أو التأثير في المرسل، أما الإعلام الجديد فيتيح تفاعلا ثنائيا بين المستخدم والمحتوى، حيث يمكن للمستخدمين الاستجابة للمحتوى والمشاركة فيه والتأثير في المنتج والمرسل.
ثانيا: الرقمنة
يعتمد الإعلام الجديد بشكل أساسي على التكنولوجيا الرقمية ومعالجة البيانات باستخدام الكمبيوتر، ما يسهل تخزين ونشر واسترجاع المعلومات.
ثالثا: الاندماج والاستيعاب
استطاع الإعلام الجديد أن ينشئ تجربة متميزة تستوعب أصناف الإعلام التقليدي المكتوب والسمعي والبصري عن طريق دمج عناصر مختلفة مثل النصوص المكتوبة والصور والصوت والفيديو في محتوى واحد متكامل.
رابعا: اللامركزية
يسمح الإعلام الجديد لأي فرد بالمشاركة في إنتاج ونشر المحتوى الذي ينتجه أو يعيد نشره، وهذا ما يكسر احتكار الإعلام التقليدي، ويحد من هيمنته على المجال الإعلامي.
خامسا: الاستمرارية
يتميز الإعلام الجديد بكونه يوفر بثاً مستمرا للمعلومات والأخبار على مدار الساعة، مما يخلق تواصلا لا ينقطع مع الجمهور.
سادسا: غزارة وتنوع المضمون والمحتوى
يتميز الإعلام الجديد بالتنوع الغزير في المحتويات والمضامين، وهذا ما لا يوفره الإعلام التقليدي البطيء الذي لا يتجاوز أنماطا محددة.
وبفضل هذه الخصائص نجد الإعلام الجديد يتفوق على الإعلام القديم في الانتشار والسرعة والتحيين في إنتاج وإرسال واستقبال المضامين الإعلامية المختلفة، ناهيكم عن امتياز التصرف الآني والسريع في الأرشيف الذي يمكن تحميله وتعبئته في رقائق صغيرة جدا.
وبالجملة فإن الإعلام الجديد كمظهر من مظاهر العولمة تتجلى قوته في كونه متعدد الوسائط يتم عرض محتواه في النص المكتوب والصوت والصورة والفيديو؛ ما يجعل المعلومة أكثر قوة وتأثيراً، ناهيكم عن كون محتواه الرقمي يتم إعداده وتخزينه وتعديله ونقله ونسخه بشكل إلكتروني.[2]
السادة الأئمة الأفاضل:
لقد أحدث الإعلام الجديد تحولا جذريا وعميقا في مجال الصحافة والإعلام والاتصال من خلال ما يلي:
§ اعتماده على تقنيات الاتصال الجديدة كالأقمار الصناعية وشبكة الانترنت الكمبيوتر والهواتف النقالة وغيرها؛
§ الانتقال من المجال الواقعي إلى المجال الافتراضي، وإيجاد علاقات بين المستخدمين تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية؛
§ إنشاء واقع جديد يتجاوز الأبعاد التقليدية التي كانت تحكم الإعلام التقليدي من حيث استراتيجياته وأهدافه ومضامينه وأشكاله وتشريعاته والفاعلون فيه.
تحول الجمهور من وضع التلقي إلى فعل التأليف، عبر إنتاج خطاب ذي أشكال ومضامين متنوعة في الفضاء العمومي الإلكتروني الجديد، إعلام النحن، والإعلام الجماهيري، وإعلام المواطنين، والإعلام الاجتماعي، والصحافة التعاضدية. وتحيل هذه المصطلحات جميعها إلى ظاهرة واحدة، هي ظهور الجمهور المؤلف.[3]
المحور الثاني: القيم الديني بين تحديات الإعلام الجديد وفرصه
نظرا لرمزية القيم الديني ووظيفته فإنه من آكد الواجبات أن يكون على بينة ووعي من هذا الإعلام الجديد، ليدرك حقيقته وأدواره والفاعلين فيه وآثاره على الأفراد والمجتمعات والدول.
وبناء على ذلك يجد القيم نفسه بين فرص واعدة، وتحديات حقيقية في التعامل مع هذا الإعلام الجديد، ولذلك سنتحدث في فقرتين عن هذه الفرص والتحديات.
الفقرة الأولى: التحديات
إن مجرد حمل الهاتف الذكي أو أي جهاز أخر مثله يجعلك منخرطا في منظومة هذا الإعلام الجديد، بصفتك متلقيا ومرسلا.
وفي الوقت الذي يتم فيه إنشاء وفتح الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها وأشكالها تحدد هويتك وموقع اتصالك، وبمجرد تنشيطك للحساب تجمع عنك معطيات شخصية قد تجهلها عن نفسك، وتتفاعل معك بناء على ما تشكل لديها من معطيات لتقترح عليك مضامين تتناسب مع هويتك ومستواك المعرفي وهواياتك واهتماماتك ونظامك المعيشي بل إنه قد يصوغ لك خريطة شخصية يحدد فيها طموحك وأمراضك…
وعلى مستوى آخر قد يغفل البعض عن خطورة النشر والتفاعل مع مضامين إعلامية تخالف القانون، وتؤدي إلى ارتكاب جرائم الكترونية[4] يتضرر منها الأفراد أو المؤسسات، كالتشهير ونشر السر المهني والتحرش ناهيكم عن مخاطر متعلقة بالفكر الإرهابي ونشر ثقافة العنف، وإثارة النعرات الطائفية والعنصرية.[5]
وقد يكون ضحية لجريمة الاحتيال، والابتزاز، والاختراق، وسرقة الهوية، فمن مظاهر الجرائم الإلكترونية الشائعة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التهديد والابتزاز الإلكتروني والقرصنة والتهديد بإتاحة البيانات الشخصية للأفراد ونشرها وذلك للمساومة بمقابل مادي.[6]
ومن جهة أخرى فإن التعرض لمضامين ومحتويات الإعلام الجديد تجعل المتلقي في مواجهة أمواج عاتية تضطرب فيها الإشاعات والأخبار الكاذبة ويصعب التحقق من صحة المعلومات وتمييز المصادر الموثوقة بسبب وفرتها وسرعة انتشارها.
كما يحتمل انتهاك خصوصيتك من خلال جمع البيانات الشخصية للمستخدمين واستغلالها لأغراض تجارية وغير ذلك.
الأئمة الأفاضل:
لقد أدى ظهور الجريمة الإلكترونية إلى سن تشريعات خاصة لمواجهتها. ولذلك تم تطوير إطار قانوني لمكافحة الجرائم الإلكترونية يجمع بين التشريعات الوطنية والالتزامات الدولية قصد حماية الأفراد والمؤسسات من الجرائم المرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية، مثل قانون مكافحة جرائم الإنترنت.
الفقرة الثانية: الفرص
تفتح مواقع التواصل الاجتماعي للأئمة والخطباء والوعاظ فرصا واعدة في مجال اشتغالهم من خلال ما يلي:
§ معرفة وتشخيص الخطاب الديني الرائج بين المواطنات والمواطنين، وهذا ما يمهد للتفاعل معه بإيجابية؛
§ ترشيد تدين الناس من خلال تصحيح معارفهم ومعلوماتهم الخاطئة، وتعديل تمثلاتهم وتصوراتهم المنحرفة، وتثبيتهم على ثوابتهم الدينية والوطنية؛
§ مواجهة ومدافعة التيارات المنحرفة والأفكار الهدامة وتبيين حقيقتها على تدين الناس وعلى وحدتهم وثوابتهم؛
§ فتح آفاق واسعة لمواضيع خطة تسديد التبليغ، وتعضيد أدوار الأئمة والخطباء والوعاظ المنخرطين في تنزيل هذه الخطة المباركة.
وعطفا على ما تم إيراده، قد يوهم البعض نفسه بالركون إلى الحياد في ظل ما يعتمل في هذا الإعلام الجديد، وهذا الوهم ناشئ عن اعتبار الحياد فضيلة تنجي من الفتنة، بينما هو قعود وتخلف وركون إلى مجرد التلقي من الفاعلين الذين يضعون استراتيجياتهم ويحضرون المضامين الإعلامية ويهيئون المؤثرين والمؤثرين لتحقيق أهدافهم.
وعليه فإن ميدان الاشتغال تأرجح الإمام بعلمه وحلمه بين الواقع والمواقع.
هذا ما تيسر عرضه في هذا اللقاء
أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] – مستقبل نمط الحياة الإسلامي في ظل الإعلام الجديد بين المعايير والضوابط الشرعية وتحديات العولمة. ابراهيم الوجاجي. بحث منشور ضمن أعمال منتدى الاقتصاد الإسلامي. دائرة العمل الخيري، دبي 2018.
[2] – الإعلام الجديد في عصر المعلومات، شيخاني سميرة. مقال منشور في مجلة دمشق، العدد الأول. 2010. ص 443.
[3] – الصادق الحمامي، تجديد الإعلام الجديد مناقشة حول هوية الصحافة الإلكترونية. دراسة منشورة في المجلة العربية للإعلام والاتصال الصادرة عن الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، جامعة الملك سعود، المملكة العربية السعودية، العدد الخامس، نوفمبر 2009. ص 21-22.
[4] – الجرائم الإلكترونية هي المخالفات التي ترتكب ضد الأفرا د أو المجموعات بدافع الجريمة وبقصد إيذاء سمعة الضحية أو أذى مادي او عقلي للضحية مباشر او غير مباشر باستخدام شبكات الاتصالات مثل الإنترنت مثل غرف الدردشة، والبريد الإلكتروني، والهواتف المحمولة.
[5] – أحمد عبدالعزيز المبارك، 1977، “أجهزة الإعلام ودورها في توجيه المجتمع”، أبوظبي، دائرة القضاء الشرعي، ص70.
[6] – محمد كامل النجحا، 1984، ” دور الإعلام في بناء الإنسان المثالي، دار العلم للطباعة والنشر، جدة، ص25.






