جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

تاريخ المذهب المالكي بالمغرب

تاريخ المذهب المالكي بالمغرب


اختار المغاربة المذهب المالكي وآمنوا به إلى الحد الذي صار للمالكية دورها البارز والمؤثر في تاريخ المنطقة في الفترة الوسيطة، وأن دخول المذهب المالكي إلى المنطقة عبر عدة طرق كمواسم الحج، ورحلات طلب العلم من المغاربة الذين توجهوا إلى مراكز العلم في مصر والحجاز، ووجدوا بغيتهم هناك وبخاصة في الحجاز؛ حيث تتلمذوا على يد الإمام مالك بن أنس رحمه الله المتمسك بالكتاب والسُّنَّة، حيث صادف مذهب الإمام مالك هوى في نفوسهم لإقامته في المدينة المنورة مهد النبوة من ناحية، ولشدة تمسكه بالكتاب والسُّنَّة من ناحية أخرى، يضاف إلى ذلك ما اتسم به من أخلاق عالية ومعرفة سامية.
وقد استمر هذا التعلق والتمسك بمذهب عالم المدينة وإمام دار الهجرة عند المغاربة منذ الأيام الأولى لدخول تعاليم المذهب المالكي إلى المنطقة، في القرن الثاني الهجري، مع عودة طلبة العلم الأوائل، إلى أن بلغ المذهب ذروة انتشاره وتوسعه مع ظهور الكيانات السياسية السنية المستقلة عن مركز الخلافة العباسية، التي تبنت المذهب، وشجعت علماءه، والعمل بمقتضى أحكامه، وكان من بين الأمور المتفق عليها لدى غالبية المؤرخين والباحثين الذين كتبوا عن تاريخ الدولة المغربية ومذهبها المالكي الرسمي، هو أن الذي كان يجمع السياسي بالفقيه هو أكثر من الذي يفرقهما، ويأتي في مقدمة ذلك؛ وحدة النظرة والرُّؤية الدينية والمذهبية الفقهية المشتركة، وتأتي هذه الورقة البحثية لتسلط الضوء على الدور الريادي الذي قام به المذهب المالكي من أجل ترسيخ القيم الوطنية من خلال أصوله وقواعده، ويؤكد هذا مواقف جملة من الفقهاء المالكية الذين عملوا على إبراز القيم الروحية والوطنية داخل المجتمع المغربي، ونظرا للمكانة التي حازها المذهب المالكي وفقهاؤه في الحفاظ على هذه القيم وسعيهم إلى وحدة المجتمع المغربي والتأليف بين مختلف مكوناته وطبقاته.
الجذور الأولى للمذهب المالكي بالمغرب
يعتبر المذهب المالكي من المذاهب الفقهية الذي حقق انتشارا كبيرا في أصقاع كثيـرة من البلاد الإسلامية، وكان له الفضل في جمع شملها وتوحيد صفوفها، لذا اختاره المغاربة مذهبا في فقه العبادات والمعاملات والعادات والآداب الاجتماعية وغيـرها من مجالات الحياة التي يشملها التشريع الإسلامي.
وتبقى الجذور الأولى للمذهب المالكي بالمغرب غير معروفة بالتحديد، والروايات بشأن ذلك متضاربة، على العكس من ذلك في الأندلس والقيروان، والمغاربة قبل اعتناقهم وتبنيهم للمذهب المالكي كانوا يتمذهبون بمذاهب مختلفة، إلى أن قامت دولة الأدارسة، فاتجهوا إلى المذهب المالكي وذلك بأمر من المولى إدريس، الذي دعا الناس للأخذ به، واتباع منهجه، بعد أن جعله مذهبا رسميا للدولة، وأصدر أمره لولاته وقضاته بذلك، وقد جزم صاحب كتاب: «الأزهار العاطرة» أن المولى إدريس الثاني كان هو أيضا على مذهب مالك وفي ذلك يقول: «وعلى مذهبه كان إدريس وجميع العلماء من أهل المغرب الأقصى بسبب تقليد إدريس لمالك وتحصيل كتابه الموطأ وحفظه له».

و لعل أولَ مرحلة لاتصال المغاربة بالمذهب المالكي في منطقة النفوذ الإدريسي كانت عن طريق الدفعة الأولى من العرب الوافدين على المولى إدريس من إفريقيا والأندلس، بمدينة «وليلي» العاصمة الأولى للدولة الإدريسية، وذلك سنة: 189ﻫ، فَسُرَ المولى إدريس بمقدمهم، واتخذهم بطانة له، حيث استوز منهم عُمَيْرَ بن مصعب الأزدي، الذي اكتشف موقع العاصمة الإدريسية الثانية فاس، كما استقضى منهم عامرَ بن محمد القيسي الذي سمع من الإمام مالك وروى عنه الكثير وهو أول من أدخل كتاب الموطأ للمغرب، وكان بإشراك المولى إدريس لهذه النخبة في الحكم؛ الفضل في فتح الباب لدخول المذهب المالكي الذي تربطه به أكثر من صلة.

وفي المرحلة الثانية، توالت الوفود على المغرب من الحاضرتين المالكيتين؛ القيروان والأندلس، واستبحر العمران بفاس في أيام يحيى بن محمد بن إدريس، فقصدها الناس من الثغور البعيدة، وجميع بلاد المغرب، ففي عهده بُنِي جامع القرويين سنة 245ﻫ، والذي يعتبر مركز الإشعاع الثقافي والمذهبي، وبفضل هذا الجامعِ انتشر المذهب المالكي، بما خرجه من علماء كان لهم الأثر الحاسم في نشر مبادئه بين المغاربة، ثم تعزز بوفود نخبة من العلماء تحمل معها بذور المدرسة المالكية التي هي قدوة سواد الأمة في كل من الأندلس وإفريقيا إذ ذاك، وكان من جملة من وفد على مدينة فاس واستقر به المُقام بعدوة الأندلس منها؛ أحد أعلام مذهب مالك وحملته المتقدمين، العلامة؛ جبر الله بن القاسم الأندلسي الفاسي، حيث يعتبر أحد الأعلام الذين أدخلوا علم مالك إلى فاس، وكان له قدم راسخ في فروع المذهب وأصوله، رغم أن شهرته كانت محدودة.

وفي المرحلة الثالثة، نجد فيها أحد الذين أسهموا في نشر مذهب مالك بالمغرب وهو: أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الفاسي الذي سمع من شيوخ بلده فاس، ومن شيوخ الأندلس، إذ تكرر دخوله الأندلس طالبا ومجاهدا.
ولوفرة من روى عنه من الأعلام اشتهر به مذهب مالك بالمغرب الأقصى، ويذكر الرواة أنه أول من أدخل مدونة سحنون إلى المغرب، وبواسطته انتشر المذهب المالكي في المغرب وذاع، ومن أجل ذلك اهتم به من ألفوا تراجم علماء الغرب الإسلامي.
من خلال ما سبق نستشف أن الجذور الأولى لوجود المذهب المالكي بالمغرب كان بفضل الأدارسة، إذ في عهدهم عرف المذهب وانتشر في مناطق متعددة من البلاد المغربية، وكان ذلك بتأثير من الأندلس والقيروان، لأن دخوله إلى المغرب جاء لاحقا عن القطرين المتقدمين، ولكن منذ أن تمكن الأدارسة من توطيد نفوذهم في جل مناطق البلاد تمكن الاتجاه السني المالكي من الانتشار، ويرجع أحد الباحثين إلى أن السبب في إقرار المذهب المالكي بالمغرب في العهد الإدريسي هو نتيجة لمواقف الإمام مالك السياسية، وتأييده لثورة محمد النفس الزكية، ومع مطلع القرن الرابع الهجري انتشر المذهب المالكي في المغرب وتجذرت أصوله وفروعه في مختلف مناحي الحياة في هذا البلد.

أسباب وعوامل انتشار المذهب المالكي بالمغرب الأقصى

عرفت بلاد الغرب الإسلامي بشقيها الأندلس والقطر المغربي العربي المذهب المالكي منذ قرون خلت، واعتبروه أساس البناء الثقافي والحضاري، ومن الطبيعي أن يطرح حول هذا الاهتمام غير العادي، والإقبال الواسع على هذا المذهب من الأندلسيين والمغاربة على حد سواء أكثر من سؤال، ويوضع أكثر من علامة استفهام عن سبب هذا التمسك الكبير بهذا المذهب، والجواب هو؛ أن هناك عدة أسباب وعوامل أسهمت في هذا الانتشار الواسع من أهم هذه العوامل والأسباب نذكر:

أولاً: عوامل ترجع إلى شخصية مؤسس المذهب:
عرف عن الإمام مالك تمسكه الشديد بالسنة الصحيحة، وتشبثه بآثار الصحابة والتابعين، ومحاربته للبدع، لجمعه بين الحديث والفقه والرأي والأثر، والموطأ خير شاهد على ذلك، إضافة إلى الحديث الصحيح الذي ورد في عالم المدينة: (يُوشِكُ أَن يَضْرِبَ النَّاسُ أَكبَادَ ‏الإِبِلِ يَطلُبُونَ العِلمَ فَلاَ يَجِدُونَ أَحَدًا أَعلَمَ مِن عَالِمِ المَدِينَةِ)، كما أن مُقامَه بالمدينة وعدمَ مغادرته لها إلا لأداء مناسك الحج يدل على حبه وتشبته ببلده، وهذا يجسد لنا روح المواطنة التي كان يتمتع بها الإمام مالك رحمه الله، كما أن شخصية الإمام تعد شخصية حضارية، وليس مجرد عالم متقن للعلم، ولهذا نجد أن دخول المذهب المالكي للمغرب لا يعد مجرد دخول مذهبي فقهي، وإنما هو دخول أسلوب حضاري.
كل هذه الصفات حببت إلى المغاربة قاطبة شخصية الإمام مالك وأكسبته ثقتهم، فقدروا علمه، وانقادوا لفكره، واقتنعوا بسلامة مذهبه.
ثانياً: عامل طبيعة المجتمعين المدني والمغربي:
إن السبب في تمسك المغاربة بالمذهب المالكي هو أنه مذهب علمي مقيد بالواقع، يأخذ بأعراف الناس وعاداتهم؛ فهو فقه عملي أكثر من نظري، يتماشى مع طبيعة الفطرة في بساطتها ووضوحها، وأهل المغرب بطبيعتهم يميلون إلى البساطة والوضوح في كل القضايا والأمور، وهو ما ذهب إليه ابن خلدون من تشابه طبيعة المجتمعين؛ المدينة المنورة والمغرب، إذ يقول: «فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكان أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة».
ومراد ابن خلدون بالبداوة؛ الحالة التي ظل عليها عرب الحجاز من التشبث بتقاليد العرب، وعدم اندماجهم في الحضارة الوافدة عليهم، وليس المراد؛ البداوة التي تعني التخلف وخشونة الطبع، وهو نفس الأمر الذي يطبع الشخصية المغربية من حيث تشبثها بأعرافها وتقاليدها وقيمها الروحية والوطنية، ورد كل ثقافة وافدة عليها لا تتلاءم مع عاداتها وما عرف عنها من الميل إلى الاستقرار ولَمِّ الشمل داخل الأسرة والمجتمع.

ثالثا: رحلة المغاربة إلى الحجاز لأداء مناسك الحج والعمرة والزيارة:
تعد الرحلة في طلب العلم من أهم العوامل في انتشار المذهب المالكي، إلا أنه بالنسبة للواقع المغربي كان لها الأثر الأبرز؛ إذ أننا لا نجد خلال القرن الأول وحتى منتصف القرن الثاني مدرسة فقهية في المغرب الإسلامي عامة، وبلاد المغرب الأقصى على وجه الخصوص.
وإذا كانت البلاد المغربية لم تشهد دخول أحد من الصحابة الكرام من أجل نشر تعاليم الدين الإسلامي في ربوعه، وإنما دخلها عدد لا بأس به من التابعين، فإن هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل أهل المغرب يسعون إلى طلب العلم، والرحلة إلى المدينة المنورة من أجل أخذ أسس الشريعة، وتعاليم الدين الإسلامي من منبعها، وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون: «فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك».
لذلك؛ فقد كان عامل الرحلة في طلب العلم بالنسبة لأهل المغرب مصدرا أساسيا لدخول المذهب المالكي في هذا القطر الغربي من البلاد الإسلامية، نتيجة لبيئتهم في القرون الهجرية الأولى.

رابعا: دعم الملوك وسلاطين المغرب للمذهب المالكي:
حرص الإمام مالك ورجال مذهبه على أهمية اجتماع كلمة المسلمين ووحدتهم، والمحافظة على الروح الإسلامية، وهذا ما جعل المذهب المالكي سببا في قبوله وانتشاره عند أهل المغرب، فبالنظر للصراعات والحروب التي شهدتها منطقة الغرب الإسلامي؛ جعلت أهل المغرب يميلون إلى وحدة الصف والكلمة، والتمسك بالنصوص الدالة على طاعة أئمة المسلمين، فاقتضى الأمر وجود المذهب المالكي من أجل جمع الناس على رأي واحد، وشخص واحد، في أمر واحد، دون أن تتشتت أذهان الناس حول قضايا الفقه، كما كان الخوارجُ وغيرُهم من الفرق الأخرى يفعلون، وقد كانت مواقف المغاربة واضحة في هذه المسألة، إذ بمجرد أن وفد المولى إدريس على المغرب لم يتوان أمير قبيلة أوربة؛ إسحاق بن عبد الحميد الأوربي في مبايعته على أن يتولى أمر القبيلة، من أجل لم شملها، وتوحيد الصف بين كل مكونات وطبقات المجتمع المغربي، وقد تحقق له ذلك بفضل الإيمان الراسخ بوجوب طاعة الأمير، والانقياد لأوامره وتوجيهاته التي تسعى إلى استتباب الأمن الروحي، وتحقيق الوحدة الدينية والوطنية.

محمد المصلح رئيس المجلس العلمي الأقليمي بوجدة بتصرف
: المصدر