جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

العصر العلوي الزاهر


توحيد الأمة وتوطيد دعائم الدولة المجيدة:

 مهدت انتفاضة المولى الشريف لقيام الدولة العلوية بصفة شرعية سنة 1050 هـ 1640م. بمبايعة أهل الحل والعقد لولده محمد بن الشريف بن علي الشريف الثالث دفين مراكش..

وبعد وفاة محمد الأول اجتمعت الكلمة على أخيه الرشيد (1664- 1671م) وكانت بيعة المولى الرشيد برهانا على وعي الأمة المغربية والتزامها بالعهد الذي أخذته على نفسها يوم بايعت الملك المؤسس محمد الأول، وفي الالتزام بالبيعة الشرعية تتجلى الأصالة المغربية الإسلامية التي يتوارثها الخلف عن السلف، والتي عرفها ابن خلدون بقوله: ( إعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر في المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، وهذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع).

وقد بلغت دولتنا الشريفة أوج الازدهار والاستقرار في عهد أمير المومنين مولاي إسماعيل بن الشريف (1671-1727م)، وهو ثالث الإخوة الرواد الذين لمع ذكرهم وتألق نجمهم في تاريخ الدولة العلوية، حيث تمكَّن من تحقيق وحدة التراب المغربي كاملة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى شاطئ نهر السينغال جنوبا. (وما إِنْ انتقل إلى رحمة الله حتى قام خلفاؤه فنسفوا بتنازعهم ذلك البنيانَ الشامخ نسفا، وبدلوا أمن البلاد خوفا وقُوتها ضعفا؛ فكادت تصير إلى ما كانت عليه قبلُ من الفوضى والاختلال، لولا أن تداركها الله بولاية محمد بن عبد الله، فَخْرِ هذه الدولة وباعِثِ مجد المغرب…، فلم يلبث أن ضرب على أيدي الفساد، وساح في أنحاء البلاد متفقدا لأمورها، مستصلحا لأحوالها، فاجتمعت على محبته القلوب، وأخلصت له الضمائر).

وهكذا ظلت السلطة في المغرب في أيدي أمينة، مكافحة عن وحدة البلد واستقلاله وسلامته، إلى أن حلت السنون الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ حيث توالت عليه النكسات وسال عليه لعاب الدول الكبرى؛ ليقع تحت وطأة الاستعمار الذي انبرى له أسد مغوار قاد شعبه وضحى بعرشه من أجل استقلال البلاد، إنه السلطان المحرر جلالة الملك محمد الخامس الذي قاد حركة التحرر في بلاده ومحيطه، ليحمل بشرى الاستقلال والحرية، ويترك لخلفه المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني مهمة استكمال الوحدة الترابية وبناء المغرب الجديد.

وحين رحل إلى دار البقاء ترك المغرب بين يدي ملك شاب، وقائد مغوار، مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، والذي عرف كيف يستثمر عمل الآباء والأجداد، ويواصل العمل في البناء والتشييد وفتح الأوراش الاقتصادية الكبرى بربط الشمال بالجنوب، مع إيلاء قضية وحدتنا الترابية عنايته السامية.

تآزر العلماء والسلاطين لحماية الأمة:

  واصل العلماءُ على عهد حكم الشرفاء العلوييين مشروعهم العلمي الإصلاحي حيث برزوا لمؤازرة الدولة في حمايتها للثغور ودفاعها عن الثوابت والمقدسات، وتجندت الأسر العلمية لنشر العلم وتثقيف المجتمع، وحرص العلماء على نصح الأمة وتوجيهها.

وقد كان ملوك الدولة العلوية يَصْطَفون جهابذة العلماء وأساطين الفكر لمجالسهم، يتخذونهم شيوخا لهم ومستشارين، ولم يلبثوا أن طوروا مجالسهم الخاصة مع شيوخهم إلى مجالس علمية عامة، أضحت مجالا للمدارسة والنقاش بين العلماء في مواضيع عامة وخاصة، والتزموا بعقد مجالس علمية في بلاطهم في أشهر رجب وشعبان ورمضان يستدعون إليها كبار العلماء لسرد صحيح البخاري وغيره من الكتب الستة، وقد تسرد كتب أخرى في التفسير أو السيرة النبوية وغيرها ، كما كان الملوك العلويون يعقدون مجالس لسرد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة المولد النبوي، ويقيمون حفلات خاصة بهذه المناسبة تكون على شكل مجالس علمية خاصة بالسيرة النبوية يساهم فيها العلماء والشعراء والأدباء.

وقد اتسعت نطاق هذه المجالس العلمية لتشمل المساجد والزوايا ومجالس كبار الأئمة والعلماء، حيث كانوا يقيمون مجالس علمية لسرد صحيح البخاري طيلة الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، ويقيمون حفلات لختم الصحيح، كالعلامة الطيب المسناوي الدلائي، والحسن اليوسي، ومحمد بن عبد القادر الفاسي، ومحمد بن علي الفيلالي، وأحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.

وكان من نتائج هذه المجالس والحلقات العلمية انخراط العلماء في عمل كبير تجلى بالأساس في :

  1. خدمة عموم الأمة بتعليمها أمور دينها، وتنوير الشباب وطلبة العلم في حلقات العلم ومجالسه في القرويين وغيرها.
  2. مواصلة البحث والتأليف في علوم الشريعة ومنابعها، مناقشة وشرحا وتحشية وتعليقا، لبسط وتقريب كل ما يتعلق بعقيدة الأمة الأشعرية، وبمذهب فقه مالك، وبالتصوف السني الجنيدي، وبجوب طاعة الإمام ومناصرته.
  3. نصح الأمة وتوجيهها وإرشادها عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «اَلدِّينُ اَلنَّصِيحَةُ»، ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اَللَّهِ? قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فقد كان المولى إسماعيل رحمه الله، يخفض جناحه للعلماء، ويترفق بهم، ويستشيرهم في أموره، ويعترف لهم بالفضل، و يقبل منعهم النصح، و لو جاء هذا النصح أحيانا في صورة شديدة، كما هو الشأن بالنسبة لبعض رسائل الحسن اليوسي إليه، والذي يقول في ختام رسالته « ندب الملوك إلى العدل »:  » وقد  حمدنا الله تعالى إذ كنا في دولة سلطان هاشمي علوي فاطمي، يستمع الحق ويطلبه ولا يأنف منه، ولا يستفره كبرياء و لا أشر و لا بطر، فهذا من فضل الله علينا و منته لدينا ».

وهي شهادة على جانب عظيم من الأهمية، لأنها صادرة عن شخصية علمية لم تكن سهلة الانقياد، و لم تكن منافقة ولا من الذين يبيعون دينهم بدنياهم، بل كانت على العكس من ذلك، شديدة في الحق، صريحة إلى أبعد حدود الصراحة، لا تتأخر عن أن تقول كل ما في نفسها، و أن تقول بطريقة واضحة لا غموض فيها و لا إبهام ولا التواء. 

وقد وجه اليوسي إلى المولى إسماعيل رسائل دالة على ما كان يتمتع به من شجاعة أدبية، ومن مقدرة على الجهر بالحق، وعلى أداء النصيحة ولو كانت مرة، وشاهدة على ما كان يتمتع به المولى إسماعيل من استعداد لسماع صوت الحق، وقبول النصيحة ما دامت مجردة من شوائب الهوى والغرض.

من هذه الرسائل، تلك التي وجهها إلى مولاي إسماعيل، في أعقاب ما كان قد أقدم عليه من تجريد القبائل من السلاح والعدة الحربية، بعد أن تم له تكوين جيش قوي عنيد، واقتنع اقتناعا كليا بمقدرة هذا الجيش على ضمان الوحدة الوطنية، وعلى حماية الحدود والثغور. وكان اليوسي قد حض المولى إسماعيل على الإبقاء للقبائل على سلاحها و خيلها، خاصة سكان الثغور والسواحل البحري، وفي ذلك يقول في صلب هذه الرسالة:  » فعلى سيدنا أن يتفقد السواحل كلها من قلعية إلى ماسة، ويحرضهم على الجهاد والحراسة، بعد أن يحسن إليهم، و يعفيهم مما يكلف به غيرهم، و يترك لهم خيلهم وعدتهم، فهم حماة بيضة الإسلام، ويتحرى فيمن يوليه تلك النواحي، أن يكون أشد الناس رغبة في الجهاد، ونجده في المضايق، وغيرة على الإسلام، ولا يولي فيها من همته ملء بطنه، والاتكاء على أريكته ، والله الموفق ».

وفي رسالة أخرى كان قد وجهها اليوسي إلى المولى إسماعيل في أواخر حياته، حيث آثر أن يترك المدينة إلى البادية، وأن يعود إلى مسقط رأسه بالأطلس المتوسط، لكي يقضي بقية عمره، متفرغا للعبادة والتدريس، وقد أقدم على تنفيذ ذلك بالفعل، ولكن المولى إسماعيل كلف كتابه أن يكتبوا إليه باسمه، يدعونه إلى العودة إلى فاس. فكتب اليوسي جوابا مطولا إلى المولى إسماعيل، يعتذر فيه عن ذلك   ويناقش ما جاء في كتابه فيقول: وأما قول الكتاب: « ومن قديم الزمان لا تعرف العلماء إلا مع الملوك.. الخ » فأقول:  » لا شك أنه لم تدخل مملكة بحمد اله تعالى من علماء، ينفع الله بهم من هداه لطاعته، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه سلم، حيث قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ». قال الأئمة: وهم أهل العلم، لأن أول الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: » من يرد به الله خيرا يفقهه في الدين » دال على ذلك ».، وقال صلى الله عليه و سلم: » يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين و تأويل الجاهلين ».  أما صحبة الملوك، وملازمة أبوابهم.. فليس في العلماء على العموم ولا اللزوم، بل لم يزالوا تختلف أحوالهم في ذلك، فمنهم من يسارع إلى أبواب الملوك وهم الأقل، و منهم من يتجافى عن ذلك وهو الأكثر ».، فأما المنقبض، فقد يكون انقباضه لشغل له في حال بينه وبين الله تعالى، أو شغل آخر في معاش أو علم، أو لكونه نفور الطبع عن تلط الأبواب، أو لكونه لا يصلح لها، أو لكونه لم يجد إليها سبيلا، أو نحو ذلك »، .والذي يجب إعلام السلطان به، نصحا ينصح به نفسه وغيره من المؤمنين أن أكثر انتفاع الطلبة وأهل المسائل من العامة والخاصة، إنما هو من  » العالم » المنقبض، الجالس في داره، أو في بيت من بيوت الله، بحيث إذا جاء متعلم أو سائل وجده، ويصل إليه المسكين والعجوز، ويباحثه الطلبة، حتى يقفوا على التحقيق، ولا يرهبونه ولا يستنكرونه ولا  يتهمونه ».، ولا شك أنه يجوز أن يكون في صحبه الملوك من هو صحيح الدين، واقف عنده، ينفع الله به، ولكن ذلك أعز من الكبريت الأحمر »..

والذي يهمنا من هذه الرسائل وغيرها هو عمل المشيخة العلمية في هذا العهد إلى جانب ولاة الأمر بطاعة أمرهم والمنافحة عنهم، والتعاون معهم، والإخلاص لهم وإبداء النصيحة، فبدى التعاون والتآزر، وكان العطاء والتفرد والبناء. وقد تجلى هذا بوضوح في العهد الإسماعلي حيث انصبت ( جهود العلماء على مؤازرة الدولة الجديدة في تحرير عدد من المدن الشاطئية من الاحتلال الأجنبي، وتمثلت مؤازرة جهود الدولة الإصلاحية فيما أسدته البيوتات العلمية البارزة مثل الزاوية الفاسية التي كانت لعلمائها علاقة وطيدة بالسلطان، والزاوية الناصرية التي نشر شيوخها العلم على نطاق واسع، والزاوية الدلائية التي أسهم علماؤها في نهضة فاس العلمية، بالرغم من هدم زاويتهم ونقلهم إلى هذه المدينة) .

وتطور هذا العمل وتوسع على عهد السلطان: سيدي محمد بن عبد الله، الذي عرف نشاطا علميا ملحوظا تمثل في وفرة العلماء، وكثرة المؤلفات، وتعدد مجالس العلم والعلماء، الذين اهتموا بالتصوف السني علما وعملا وسلوكا، وبالفقه المالكي تدريسا وتأليفا، من أجل الحفاظ على تراثه المتوارث الذي لا يبغون به بديلا وبأحكام القرآن، وكتب الحديث، وبوجوب جعلها هي الأصل في الدراسات الإسلامية، إذ أن الاهتمام انصب على التأليف في الفقه والتصوف وعلوم القرآن والمنطق والعقائد والأدب وتراجم العلماء وسير الصالحين والتاريخ. وذلك بأقلام شخصيات عملية ذات مكانة مرموقة مثل: أبي العباس أحمد الهلالي السجلماسي (ت: 1175هـ) ومحمد الفاسي (ت: 1179هـ) وعبد الرحمن المنجرة (ت: 1179هـ) والصوفي اللامع المعطي بن الصالح الشرقي (ت: 1180هـ) وأبي مدين الفاسي (ت: 1181هـ) وأبي العلاء إدريس العراقي المحدث الشهير (ت: 1181هـ) وأبي العباس أحمد بن الونان (ت: 1187هـ) ومحمد بن الطيب القادري (ت: 1187هـ) وأبي حفص عمر الفاسي العالم الفذ (ت: 1188هـ) وأحمد الغزال (ت: 1191هـ)، وابن عزوز المراكشي (ت: 1204هـ)، وشيخ الجماعة سيدي محمد التاودي بن سودة (ت: 1209هـ) ومحمد بن عثمان المكناسي (ت: 1213هـ) وغيرهم.

وبهذا نرى أن بداية العصر العلوي عرفت نهضة فكرية ازدهرت في عهد المولى رشيد ثم في عهد المولى إسماعيل وبلغت أوجها على يد سيدي محمد بن عبد الله (1171هـ-1204هـ/1757-1790م) الذي يعد من الشخصيات البارزة في تاريخ المغرب، وتابعت هذا التوهج على عهد السلطان مولاي سليمان الذي نفق فيه سوق العلم، وبرز فيه علماء كبار، لأنه ( سار على نهج والده في إقامة المجالس العلمية، والاهتمام بالحديث النبوي الشريف، واتخاذ هذه المجالس قمة هرم هياكل الدولة ومؤسساتها، ومركزا ومجمعا علميا للتنظير والتشريع والتخطيط، ومرجعا في كل ما يواجه الدولة من مشاكل وقضايا، ومصاعب وأخطار، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي)، ولقد احتفظ لنا المؤرخ الكبير المرحوم السيد عبد الرحمان بن زيدان في الجزء الثاني من كتابه : «العز والصولة» بقائمة بأسماء العلماء المنقطعين لتدريس العلم بمدينة فاس، على عهد المولى سليمان، ذكر فيها نحوا من خمسمائة عالم، بطبقاتهم ورتبهم، وذلك نقلا عن ظهير وقع إليه من عهد المولى سليمان.

وحين أضحى المغرب على عتبة فرض الحماية، وأصبح يتعرض لمختلف الضغوطات الخارجية  » واجه العلماء الأوضاع الجديدة بالتحفظ تارة وبالتفاعل والمبادرة تارة أخرى، فكتبوا مطالبين بالإصلاحات في عدد من الميادين على رأسها الجيش، ووضعوا بيانات في التضامن مع الجزائر بعد احتلالها، ودعوا إلى الجهاد، مع أخد وضع المغرب وقوته بعين الاعتبار، واستنكروا الامتيازات الأجنبية، وحكموا بالمقت والخيانة على الذين استجاروا بالحمايات الدبلوماسية، وطالبوا بحماية الصناعات المحلية ».

هكذا انخرط علماء المغرب في هذه الفترة في نضال من نوع خاص، نضال من أجل الإصلاح والتغيير وتجاوز مرحلة الركود والخمول، فانخرط المتنورون منهم في مواجهة الأوضاع الجديدة بالتفاعل والمبادرة، فكتبوا مطالبين بالجهاد ضد الأطماع، واستنكروا الامتيازات الأجنبية، وعملوا على تنقية الأفكار مما لصق بها من الخمول والاستسلام، واجتهدوا في إحياء الفكر الصوفي السني ونددوا بكل أنواع البدع والظواهر السلبية.

التشبت بالبيعة والدعوة إلى الجهاد من أجل تحرير البلاد:

أمام تفاقم الأوضاع وتكاثر الأطماع، واحتلال أطراف من المغرب العربي واقتراب المستعمر من باقي الأجزاء، انبرى للعلماء للتنوير الناس ودعوتهم إلى التشبث ببيعتهم، والجهاد تحت راية إمامهم دفاعا عن الإسلام والوطن، فكتبوا رسائل وحبروا كتبا ونظموا قصائد في الحث على الجهاد والدعوة إلى وحدة الصف وحسن الاستعداد لذلك، والتجند من أجل الدفاع عن الوطن، والتشبث ببيعة الإمام الشرعي للبلاد، ونبذ كل انحياز للأجنبي وطلب لحمايته أو رعايته، من ذلك:

  •  » كشف الغمة ببيان أن حرب النظام حق على الأمة »، لمحمد بن عبد القادر بن أحمد الكلالي الشهير بالكردودي الفاسي، المتوفى عام 1268 هـ / 1852م الذي ألفه بطلب من السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام ورتبه على عشرة أبواب وخاتمة، وذيله بقصائد شعرية، وهو مطبوع على الحجر بفاس. 
  • « أجوبة التسولي عن مسائل الأمير عبد القادر في الجهاد » الذي ألفه أبو الحسن علي بن عبد السلام مديدش التسولي المتوفى عام : 1258 هـ، بإشارة من السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام، حين ورد عليه سؤال من الأمير عبد القادر سنة 1252هـ فأجاب بجواب طويل يحتوي على خمس كراريس وزيادة، وضمنه حديثا عن حكم المتخلف عن الجهاد، ما يجب على الإمام من إجبار الرعية على الاستعداد للعدو، وحكم من ساكن العدو وأقام معه … وغيرها.
  •  » مقمع الكفرة بالسنان والحسام، في بيان إيجاب الاستعداد وحرب النظام » للعلامة الفقيه الغالي بن محمد الحسني الإدريسي العمراني المتوفى عام ثمان وأربعين وألف  للهجرة.
  • رسالة في تنظيم الجيش المغربي للفقيه بن عزوز سماها:  » رسالة العبد الضعيف إلى السلطان الشريف »، جاء فيها : (إعلم أيها المنصور بعون الله، المجاهد في سبيل الله، المخلص الأعمال لله، أن النصارى ملكوا الجزائر وسبوا نساءها، وأخذوا أولادها، وغنموا أموالها، …… وطمعوا في هذا المغرب، وفي الوصول إلى مدينة فاس، التي هي دار ملكك ومحل حكمك وولايتك، فوجب عليك ـ نصرك الله ـ التهيء لهم وجمع العسكر للقائهم).
  •  » هداية الضال المشتغل بالقيل والقال »، لأبي محمد المأمون بن عمر الكتاني الحسني الفاسي المتوفى عام 1310هـ، الذي تصدى فيه للحماية الأجنبية للمواطنين المغاربة، ومن يلوذ بالعدو وينحني له وينتصر به.
  •  » الرسالة، في أهل البصبور الحثالة »، لأبي حامد الحاج العربي بن علي المشرفي الحسني المتوفى عام 1313هـ.
  • الوزير محمد بن ادريس العمراوي الفاسي المتوفى عام: 1264هـ وكانت دعوته شعرا بعدة قصائد منها:

 

يـأهل مغربنا حق لكم النفـيـــــــــــر     °°°     إلى الجهاد فما في الحق من غلـط

 فالشرك من جنبات الشرق جاوركم     °°°     من بعد ما سام أهل الدين بالشطط

 

  • أبو عبد الله محمد بن الشيخ سيدي الشنكيطي، المتوفى عام 1284هـ، وله قصيدة مؤثرة عبارة عن  صرخة داوية لإيقاظ النفوس ودعوتها للمقاومة والجهاد جاء فيها:

  

  ترانا عاكفـــين على المغاني      °°°       لفرط الشـــوق نندبها حيارى

    أسارى لوعة وأســــى ننادي     °°°       وما يغني النداء عن الأسارى

    ولو في المسلمين اليوم حــر      °°°       يفك الأسرى أو يحمي الذمارا

    لفــكوا دينهم وحموه لمـــــا       °°°       أرد الكافرون به الصــــــغارا

    حماة الدين إن الدين صارا       °°°        أسيرا للصـــوص وللنصارى

    فإن بادرتموه تداركـــــــوه      °°°       وإلا يسبق السيف البـــــــــدارا

 

 ولما احتلت فرنسا مدينتي الدار البيضاء ووجدة جمع المولى عبد العزيز علماء مجالسه العلمية السلطانية واستفتاهم حول موقف الشريعة الإسلامية من القضية المغربية وأزمتها، فأصدر العلماء فتاوى تبين وجهة نظرهم وتدعوا إلى الجهاد والنضال، ومن هؤلاء العلماء: أحمد التازي و محمد المهدي بن محمد الوزاني، والعباس التازي، وأحمد بن الخياط، وعبد السلام الهواري، وعبد الرحمن بن القرشي، وغيرهم، كما رفعوا للجناب الشريف مذكرات تتعلق بالإصلاح العام الذي توجد البلاد في أمس الحاجة إليه.

ولم يكتف العلماء بالدعوة إلى الجهاد والحث عليه بل انخرطوا فيه وضحوا بأنفسهم ودويهم من أجل وحدة البلاد واستقلالها، فبعد توقيع عقد الحماية ودخول المستعمر إلى المغرب، شارك العلماء في الجهاد وانخرطوا في الحركة الوطنية من أجل استقلال البلاد ووحدتها، فمن بين قادة ( الحركة الوطنية الأربعين الذين تم إحصاؤهم مابين سنتي 1921 و 1944 هنالك ستة عشر عضوا ينتمون لجامعة القرويين )، فقد بدأ العمل الوطني ثقافيا على يد العلماء بتأسيس الجمعيات والمنتديات، حيث أسس المختار السوسي بفاس جمعية الحماسة، وأسس علال الفاسي جمعية لطلبة القرويين ضمت عبد العزيز بن ادريس والفقيه غازي، وإبراهيم الكتاني وغيرهم، وفي الشمال أسس الحاج عبد السلام بنونة بتطوان المعهد العلمي المغربي وكان من بين أعضاءه الفقيه داود، وأسس عبد الله كنون بطنجة “الجمعيّة الوطنيّة” التي تفرّعت عنها “كتلة العمل الوطني”.

كما نخرط المتصوفة وشيوخ الزوايا في هذا النضال وتجندوا للدفاع عم حوزة الوطن بالنصح والإرشاد، والعمل والجهاد في حركة مشهودة وعمل وطني جليل

وبعد استقلال المغرب ساهم العلماء في الجهاد الأكبر، في بناء المغرب الجديد وإرساء هياكله، فضمت حكومته الأولى ثلة من العلماء نذكر منهم : المختار السوسي، محمد الفاسي ، عبد الهادي بوطالب، وتولى عبد الله كنون عمالة طنجة والمكي الناصري عمالة أكادير، وتولى غيرهم مناصب عليا في القضاء والإدارة.

إصلاح التعليم:

 أيقن العلماء أن تقدم الأمة ورقيها لن يتم إلا بشباب متعلم واع منخرط في حضارة العصر وعلومهم أساسها دين إسلامي، ولغة عربية، وتاريخ عربي إسلامي، وبرامج تعليمية مسايرة لروح العصر ومنفتحة على علومه.

انطلاقا من هذا الاقتناع حملوا لواء الدفاع عن العلم وتجديد مناهج تدريسه، فهذا شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي الذي ينتقد أسلوب علماء عصره فيقول : « كنت أحد العلماء الذين يحضرون الدروس الحديثية التي كان يعقدها الملك عبد الحفيظ بالقصر الملكي بفاس قبل عقد الحماية، فصار جمع من العلماء الكبار يتناقشون حول التاء الواردة في قوله تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾، هل هي للتأنيث أم للوحدة؟ فقلت: لهم لقد فرغ العلماء من البحث في هذا الموضوع منذ قرون عديدة، وكان ينبغي لنا نحن أن نبحث عن الطرق التي تمكننا من طرد الجيش الفرنسي الذي بدأ يحتل بلادنا منذ سنوات، وبلغني أنه وصل في هذا الأسبوع إلى سيدي « أبي عثمان » بقبيلة الرحامنة في طريقه إلى مدينة مراكش »، قال الإمام عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني مُعلِّقًا على هذه الواقعة: « وهو كلام نفيس لا يصدر إلا من رواد الفكر وقادة النهضة ».

أما الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعلبي الفاسي المتوفى عام 1956م، فقد انتقد في محاضرة له ألقاها بالمدرسة العليا بالرباط سنة 1922م، مناهج التعليم وما آلت إليه المنظومة التعليمية في المغرب فقال: ( أما كيفية التعليم عندنا فهي لازالت على النسق القديم، بل العقيم الذي كان نافعا في القرون التي كانت اللغة الفصحى لا زالت  معروفة، توصل إلى فهم المراد بسهولة، لكن لما تغير الزمان وفسدت اللغة وجب تغيير أسلوب التعليم، سواء في التعليم الابتدائي، في الكتاتيب، أو المتوسط أو النهائي في القرويين)، 

وهكذا توالت الدعوات الإصلاحية، واقتراح المناهج التعليمية من طرف كبار العلماء من أمثال الحسن الحجوي الثعالبي وعلال الفاسي وعبد الله كنون وغيرهم، بل انخرطوا في سياسة جديدة ومرحلة عملية من مراحل التجديد والبناء تتمثل في إنشاء المدارس العربية الحرة التي تجمل بين أصلة الفكر واللغة والدين، والانفتاح على العلوم العصرية والمناهج الجديدة، فظهرت أولى  المدارس الحرة سنة 1919م في شكل  » كتاتيب ثم تحديثها » بمبادرة شخصية من بعض العلماء أمثال محمد العربي الخطيب بتطوان، وأحمد مكوار بفاس، ومحمد حساين النجار بسلا… وغيرهم، ثم ارتفعت وتيرة إحداث هذه المدارس بعد ذلك فأسس المكي الناصري المعهد الحر بتطوان، وعبد الله كنون المدرسة الإسلامية الحرة بطنجة.. وغيرها.

تجديد الدعوة إلى التصوف السني الجنيدي واستبعاد كل اتجاه مخالف للمذهب القويم في السلوك:

 إيمانا بمسؤوليتهم العلمية والإصلاحية، نظر العلماء إلى محيطهم وانتبهوا إلى ما أضحى يغزو مجتمعهم من أفكار ومظاهر مخالفة للشرع أو بعيدة عنه، حملتها  عادات مكتسبة أو أفكار منتحلة، فقاموا بالتصدي لكل انحراف في الفكر والعمل والسلوك، فألفوا في ذلك رسائل وكتب إصلاحية نذكر منها مجوعة من المؤلفات للعالم المصلح محمد بن المدني كنون المتوفى عام1302هـ.

  • نصيحة ذوي الهمم الأكياس في بعض ما يتعلق بخلطة الناس مطبوع على الحجر بفاس.
  • نصيحة النذير العريان لأهل الإسلام والإيمان في التحذير من مخالطة أهل النميمة والغيبة والبهتان ، وهو مطبوع على الحجر بفاس..
  • التسلية والسلوان لمن ابتلي بالإداية والبهتان ، مطبوع على الحجر بفاس
  • رسالة في التحذير من الازدراء بالعلماء وتنقيصهم والأمر بتعظيمهم واحترامهم .

كما نادوا بإصلاح الفكر الصوفي والرجوع إلى منابعه الصافية التي كان عليها شيوخ الأمة وعلماؤها، فهذا محمد بن المدني كنون وهو من رجال التربية والسلوك، له في ذلك نظم تصل أبياته إلى 104 وضع فيه أسس التصوف التي تتحقق عنده بارتباط العلم بالعمل، كما ألف في الرد على المتصوفة الخارجين عن منهاج الشريعة المخالفين للسنة من المبتدعة، فذهب إلى أن عمل الصوفية إما أن يكون له أصل في الشريعة أو لا يكون له أصل، فالذي لا أصل له لا ينبغي العمل به والاقتداء به، وهنا يستحضر الشيخ كنون تصوف الجنيد وأقوال الشيخ زروق والقشيري وابن عباد ليدعو إلى الرجوع إلى هذه الأصول التي اعتمدها المغاربة في تصوفهم واستناروا بهديها. 

والدعوة إلى الرجوع إلى التصوف السني الجنيدي، ونبذ كل سلوك أو مظهر مخالف لما نصت عليه نصوص الكتاب والسنة نجدها حاضرة عند جل علماء هذه الفترة، فهذا محمد الحفيد بن عبد الصمد كنون وهو ابن الزاوية التيجانية يؤلف كتابا في انتقاد ما أصبح عليه بعض مريدي التصوف سماه:  » نصيحة الإخوان في التحذير من الدخول في طريق متصوفة هذا الزمان » وهذا علال الفاسي وهو ابن الزاوية الفاسية ينتقد ما آل إليه التصوف عند البعض وينادي ( بإصلاح حالتنا وتحرير أمتنا من عبث الذين يدعون للخرافات والأوهام، وإنقاذها من كثير من التقاليد البالية التي تمنعها من التقدم والرقي، وتحول بين عقلها وبين التفتح لأسرار الكون ومعالم الإيمان)، ونفس الدعوة تتكرر على لسان العلامة المرحوم عبد الله كنون في كثير من مقالاته وكتبه. 

د. محمد كنون الحسني