شهر رمضان الكريم بعيون أندلسية
ألهمت نفحات شهر رمضان الكريم عددا من أدباء الأندلس وشعرائها،وحركت قرائحهم للتعبير من خلال إبداعاتهم النثرية والشعرية عن المعاني الأصيلة التي ينطوي عليها هذا الشهر العظيم.
ولعل من روائع ما أنتجوه في الموضوع خطبة كتبها في استهلال الشهر الفضيل الأديب الشاعر البارع أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك المعروف بابن قزمان الزهري القرطبي ت 555هـ، وقد أورد الخطبة بتمامها الأديب المؤرخ لسان الدين ابن الخطيب ت 776هـ في كتابه: “الإحاطة بأخبار غرناطة” في معرض ترجمته لصاحبها، ومما جاء فيها:
(سلام على أنس المجتهدين، وراحة المتهجدين، وقرة أعين المهتدين، والذي زين الله به الدنيا، وأعز به الدين. شرف الله به الإسلام، وجعل أيامه رقوماً في عواتق الأيام، وحل به عن رقاب الأمة قلائد الآثام، ونزه فيه الأسماع عن المكاره، وصان الأفواه من رفث الكلام. أشهد أن الله أنبني عليك، وأدخل من شاء الجنة على يديك، وخصك من الفضائل بما يمشي فيه التفسير حتى يكل ويسأم ذلك اللسان ويمل، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظل، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله، ويهتز العرش لجلاله، وترتج الملائكة في حين إقباله، وتدخل الحور العين في زينتها تكريماً، وتلتزم إجلاله وتعظيماً، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطاً مستقيماً، وتغل الشياطين على ما خليت. وتذوق وبال ما كادت به وتخيلت، ويشمر التقي لعبادة ربه ذيلاً، وتهبط الملائكة إلى سماء الدنيا ليلا، وينتظم المتقون في ديوانه انتظام السلك. ويكون خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتفتح الجنة أبواباً، ويغفر لمن صامه إيماناً واحتساباً، جزاء من ربك عطاء حسابا، وبما فضلك الله على سائر الشهور، وقضى لك بالشرف والفضل المشهور. فرضك في كتابه، ومدحك في خطابه، حيث قال: ]شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان[، يعني تكبير الناس عليك، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك، حين لثمت بالسحاب، ونظرت من تحت ذلك النقاب، وقد يمتاز الشيب وإن استتر بالخضاب، حتى إذا وقف الأئمة منك على الصحيح، وصرحوا برؤيتك كل التصريح، نظرت كل جماعة في اجتماعها، وتأهبت القراء لإشفاعها، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها، وتضرعت الألباب، وطلبت المواقف أواخر العشار والأحزاب، وابتديت ]ألم ذلك الكتاب[، عندما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح، والله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، فأمّلك المسلمون في سر وجهر، وحطت أثقال السيئات عن كل ظهر، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر، فنشط الصالحون بك صوماً، وهجر المتهجدون في ليلك نوماً، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما.
فيا أيها الذي رحل، رحل بعد مقامة، وقام للسفر من مقامه، ورأى من قضى حقه، ومن قصر في صيامه، فمشى الناس إلى تشييعه، وبكوا لفراقه وتوديعه، وندم المضيع على ما كان من تضييعه، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه، فعض على كفه ندماً، وبكت عيه ماء وكبده دماً. رويداً حتى أمرح في ميدان فراتك، وأتضرع إلى حنانك وإشفاقك، وأتشفى من تقبيلك وعناقك، وأسل منك حاجة إن أراد الله قضاءها، وشاء نفوذها وإمضاءها، إذا أنت وقفت لرب العالمين، فقبلك من قوم، وردّك في وجوه آخرين. إن تثنى جميلاً، فعسى يصفح لعهده وإن أساء، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخراً، وأملت الأداء باطنا وظاهرا، وكنت على ذلك لو هدى الله قادراً، وإنما علم، من تقصير الإنسان ما علم، وللمرء ما قضى عليه به وحكم، وإن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم، فإن غفر فبطوله وإحسانه، وإن عاقب فيما قدمت يد العبد من عصيانه، فيا وحشة لهذه الفرقة، ويا أسفاً على بعد الشقة، ويا شدّ ما خلفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه، وراقب إعظاماً لكربه، وشرحت إلى أعمال البر قلبه. ومع هذا أتراك ترجع وترى، أم تضم علينا دونك أطباق الثرى؟ فيا ويلنا إن حل الأجل، ولم أقض دينك، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك. فأغرب، لا جعله الله آخر التوديع، وأي قلب يستطيع).
من العدد الأول لمجلة المجلس رمضان 1428هـ