جارٍ تحميل التاريخ...

بث تجريبي

الاستدلال في المذهب المالكي ومصادره الأساسية

الاستدلال في المذهب المالكي ومصادره الأساسية

ذ: محمد المصلح

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحابته ومن والاه إلى يوم الدين.

أما بعد، فإن هذه المداخلة تتوخى أساسا بيان مسالك أئمة المذهب المالكي في الاستدلال لفروع مذهبهم والاحتجاج لها انطلاقاً من مصنفاتهم المختلفة ذات المنحى الاستدلالي والتأصيلي.

ومما دفعني إلى اختيار موضوع الاستدلال في المذهب إثارة البعض قديما وحديثا لشبهة حول التراث الفقهي المالكي مفادها أن هذا التراث ضعيف الصلة بالأدلة الشرعية وأن المشتغلين به والمنتجين له لم يعنوا بالاستدلال إلا قليلاً، وقد اتخذ بعض المناوئين المذهب هذه الشبهة ذريعة إلى صرف أتباعه عنه وزعزعة ثقتهم بأئمته الأوائل الذين أسسوه وأرسوا قواعده، لذا أجد الباعث قويا إلى إنصاف هؤلاء الأئمة والإجابة عن هذه الشبهة.

وقد آثرت أن تكون الإجابة عن الشبهة مستندة إلى شواهد ملموسة ووقائع عملية لذا تجاوزت سوق أقوال أئمة المذهب في وجوب الاستدلال الفقهي، والحث على تأصيل الفروع واقتصرت على إيراد مؤلفاتهم التي تنعكس فيها جهودهم في الاستدلال الفقهي بجلاء، لأن هذه المؤلفات كافية -في نظري- لدحض تلك الشبهة عملياً، وقد ذكرت إلى جانبها بعض المصنفات المالكية في الفروع المجردة التي تضرب في الغالب أمثلة ونماذج لقلة عناية أئمة المذهب بالاستدلال، وأوضحت الأسباب الموضوعية والمنهجية التي دعت مؤلفي هذه المصنفات إلى الاقتصار على الفقه المجرد عن الدليل.

وقد اقتضى مني ذلك منهجيا أن أتحدث في المداخلة عن ثلاث مسائل أساسية:

المسألة الأولى: مصادر الاستدلال الفقهي في المذهب المالكي.

المسألة الثانية: منشأ القول بضعف ارتباط الفقه المالكي بالدليل.

المسألة الثالثة: مصنفات الفروع المجردة ومقاصد مؤلفيها في ترك الاستدلال.

المسألة الأولى: مصادر الاستدلال في المذهب المالكي:

لا أقصد بمصادر الاستدلال في هذه الورقة الأصول والقواعد الاجتهادية التي كان يسلكها الإمام مالك وأتباع مذهبه في الاستنباط، وإنما أعني بها المؤلفات التي وردت فيها الفروع الفقهية مقرونة بأدلتها وأصولها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة المعتبرة في الاستدلال الفقهي عند المالكية.

وقد تبين لي من خلال النظر في بعض هذه المؤلفات أنها متفاوتة من حيث نوع الأدلة وتنوعها وتبعا لذلك يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أصناف رئيسية:

  • صنف يغلب عليه الاستدلال بالقرآن،
  • وصنف يطغى عليه الاستدلال بالسنة والآثار،
  • وصنف يعرض مختلف الأدلة المعتبرة في الاستدلال الفقهي.

الصنف الأول: مصنفات يغلب عليها الاستدلال والاحتجاج بالقرآن، وهي المصنفات التي ألفها المالكية لتفسير آيات الأحكام، المعروفة بأحكام القرآن. لقد سبق المالكية غيرهم في التأليف في أحكام القرآن، وربط فروع مذهبهم بمستنداتها وأدلتها من الكتاب العزيز، ومن هذه المصنفات

أ- أحكام القرآن للقاضي إسماعيل بن إسحاق البغدادي المتوفي سنة 282هـ. وهو من أقدم المؤلفات المالكية في أحكام القرآن، وهو مليء بالاستدلال والاحتجاج لمذهب مالك والرد على غيره، وقد اعتمده من جاء بعده من المالكية وأحالوا عليه كثيراً في مصنفاتهم وكان ابن عبدالبر يفضله على غيره[1].

ج-أحكام القرآن لبكر بن العلاء القشيري (344هـ)[2] اختصر فيه كتاب أحكام القرآن المذكور للقاضي إسماعيل. وقد كان ابن أبي زيد القيرواني يوصي بقراءة أحكام القرآن للقاضي إسماعيل واختصاره لبكر بن العلاء وذلك لما يشتملان عليه من الاستدلال الواسع لمذهب مالك والرد على غيره[3].

د- أحكام القرآن، لابن خويز منداد محمد بن أحمد البصري.

هـ- أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المعافري، مطبوع متداول

و- الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، مطبوع متداول.

ميزة هذه المصنفات من حيث الاستدلال للمذهب أنها تذكر الأحكام الفقهية المستنبطة من الآية وتورد مذهب مالك فيها وتبين وجه الاستدلال عليه من الآية ومحل الدليل فيها.

الصنف الثاني: مصنفات يغلب عليها الاستدلال بالسنة والأثر.

هذا النوع من المصنفات مرتبط بكتب السنة، يعنى أصحابها أساسا بشرح الحديث وبيان ما يشتمل عليه من الأحكام الفقهية وهي المعروفة بكتب فقه الحديث، وقد أكثر المالكية من التأليف في هذا المجال واستدلوا الفروع مذهبهم بالسنن والآثار الواردة في كتب السنن التي شرحوها وبينوا وجه استدلالهم بها. وهذه المؤلفات منها ما وقع التركيز فيه على الاستدلال لفروع المذهب بالسنن والآثار، ومنها ما ورد فيه الاستدلال لفروع المذهب ومناقشة المذاهب الأخرى وأدلتها والرد عليها، كما أن منها ما ارتبط بالموطأ ومنها ما ارتبط بغيره من كتب السنة. ومن أشهر المصنفات المالكية في هذا المجال:

  1. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري، شرح فيه أحاديث الموطأ سنداً ومتناوبين ما يتضمنه النص الحديثي من الأحكام الفقهية، قال عنه ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف بأحسن منه.
  2. الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما يتضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار لابن عبد البر أيضا، وهو أوسع من كتاب التمهيد، لأن المؤلف تناول فيه شرح الآراء والآثار الواردة في الموطأ، وتوسع في ذكر مذاهب علماء الأمصار. وكلا الكتابين مطبوع متداول.
  3. الاستنباط للمعاني والأحكام من أحاديث الموطأ لمحمد بن يحيى بن الحذاء (ت410هـ).
  4. المنتقى في شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي: سليمان بن خلف (ت474هـ) وقد اختصر فيه كتابه الضخم: الاستيفاء في شرح الموطأ، وكتاب المنتقى حافل بأقوال وروايات الفقهاء المالكية وأدلتها مع التوجيه والتعليل لها. وهو مطبوع متداول.
  5. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، لأبي بكر بن العربي المعافري (ت543هـ) وهو حافل بالاستدلال لروايات وأقوال أئمة المذهب.
  6. المسالك في شرح موطأ مالك، لأبي بكر بن العربي أيضا، وهو أوسع من القبس من حيث الاستدلال للفروع الفقهية، وقد طبع حديثا في ثمانية أجزاء بدار الغرب الإسلامي.
  7. شرح البخاري لأبي الحسن علي بن خلف الشهير بابن بطال القرطبي (ت449هـ) وهو حافل بفقه الحديث، والاستدلال لفروع المذهب المالكي، وهو مطبوع في عشرة أجزاء بدار الكتب العلمية-بيروت.
  8. المعلم بفوائد مسلم، للإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري (ت536هـ) شرح فيه أحاديث صحيح مسلم شرحا فقهيا، وتعرض فيه لتأصيل فروع الفقه المالكي والاستدلال لها. وهو مطبوع بدار الغرب الإسلامي بتحقيق الشيخ محمد الشاذلي النيفر.
  9. إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت544هـ) أضاف فيه كثيراً من الروايات والأقوال المالكية وأدلتها مما لم يتعرض له المازري في كتابه المعلم. وهو مطبوع متداول.
  10. إكمال المعلم، لأبي عبد الله محمد بن خلفة الأُبِّي المالكي (ت828هـ) أضاف فيه أقوالاً وأدلة لم يذكرها المازري والقاضي عياض، وهو مطبوع مع إكمال المعلم.
  11. مكمل إكمال الإكمال لأبي عبد الله محمد بن محمد بن يوسف السنوسي (ت895هـ) وهو مطبوع أيضا مع إكمال المعلم.
  12. المفهم في شرح مسلم، لأبي العباس القرطبي، وهو شرح فقهي لصحيح مسلم، تعرض فيه أبو العباس القرطبي (وهو جد أبي عبد الله القرطبي صاحب الجامع لأحكام القرآن) لشرح الحديث وبيان ما يتضمنه من الأحكام الفقهية، وقد أورد الروايات والأقوال المالكية وبين أدلتها ومستنداتها من الحديث، وهو مطبوع أيضا ومتداول.

هذه بعض المؤلفات المالكية في فقه الحديث النبوي، وهي حافلة بالاستدلال لفروع المذهب المالكي وبيان أدلتها ومستنداتها من السنن والآثار.

الصنف الثالث: كتب الاستدلال العام:

وهي مصنفات يستدل أصحابها على فروع المذهب بمختلف الأدلة والقواعد المكونة لمسلك الإمام مالك وأتباعه في الاجتهاد، وهذه المصنفات كثيرة ومتنوعة من حيث حجم الاستدلال واستيعاب أنواعه، ومن حيث إيراد المذاهب الأخرى ومناقشة أدلتها والرد عليها. كما أن منها ما يرتبط بكتاب آخر ومنها ما هو تأليف مستقل، ويمكن تقسيمها في ضوء ذلك التنوع إلى قسمين كبيرين:

القسم الأول: كتب تستدل بمختلف أنواع الأدلة الفقهية وترد على المذاهب الأخرى بقوة بحيث يكون هذا الرد غرضاً مقصوداً لدى المؤلف وباعثا له على التأليف، وقد وردت هذه المؤلفات بعناوين تدل صراحة على حضور باعث الرد على المذاهب الأخرى والاستدلال للمذهب المالكي والاحتجاج له، من هذه العناوين: “الحجة”، “الرد”، “الذود”، “مسائل الخلاف” “الانتصار”، “النصرة” وإليك نماذج منها:

  1. كتاب الرد على الحنفية، للقاضي إسماعيل البغدادي، والرد على محمد بن الحسن الشيباني الحنفي للقاضي إسماعيل أيضا. وقد جاء الكتاب الثاني رداً على محمد بن الحسن الشيباني المعنون “بالحجة على أهل المدينة”[4] رد فيه محمد بن الحسن على الإمام مالك في حوالي أربعمائة مسألة، فانبرى له القاضي إسماعيل وبين وجه ترجيح قول مالك في تلك المسائل.
  2. كتاب الرد على المزني الحنفي، لأبي بكر الأبهري محمد بن عبد الله (ت375هـ).
  3. كتاب الرد على المزني أيضا لبكر بن العلاء القشيري (ت344هـ).
  4. كتاب الرد على الشافعي لحماد بن إسحاق (ت267هـ) صاحب القاضي إسماعيل.
  5. كتاب “الحجة” لأحمد بن المعذل.
  6. مسائل الخلاف والحجة لمالك لأبي الحسن عبد الله بن المنتاب من تلامذة القاضي إسماعيل[5].
  7. الذب على مذهب مالك لابن أبي زيد القيرواني[6].
  8. مسائل الخلاف والحجة لمالك، لأبي بكر محمد بن أحمد بن الجهم الشهير بابن الوراق [ق 329 هـ].
  9. مسائل الخلاف لبكر بن العلاء القشيري [ ت 344 هـ]
  10. عيون الأدلة في الخلافيات لأبي الحسن علي بن عمر بن القصار (ت398هـ).
  11. النصرة لمذهب إمام دار الهجرة للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ت 422 هـ).
  12. تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك، لأبي الحجاج الفندلاوي (ت543هـ) [7].
  13. شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للقاضي عبد الوهاب البغدادي، وقد توسع في هذا الشرح في ذكر روايات وأقوال أئمة المذهب المالكي واستدل لها بمختلف أنواع الأدلة المعتبرة، وأورد أقوال المخالفين وناقش أدلتها ورد عليها وانتصر لمذهب مالك. توجد نسخة منه في الخزانة العامة بالرباط.
  14. كتاب الممهد، للقاضي عبد الوهاب أيضا، وهو لا يختلف كثيراً من حيث الاستدلال لمسائل المذهب عن شرحه للرسالة السابق ذكره، غير أنه أوسع منه وأطول فيما يتعلق بذكر أدلة المخالفين ومناقشتها والرد عليها.

ويلاحظ على هذه المؤلفات بمختلف أحجامها وأنواع الاستدلال الوارد فيها أنها محكومة منهجيا بأمرين أساسين:

الأمر الأول: الاستدلال لمسائل المذهب المالكي والاحتجاج لها.

الأمر الثاني: مناقشة المذاهب الفقهية الأخرى والرد عليها.

ولعل ما حدا بالمالكية إلى سلوك هذا المنهج هو رفع التحدي الذي كانت المذاهب الأخرى ترفعه في وجه المذهب المالكي، فقد كان الحنفية والشافعية يتسلحون بالاستدلال في مناقشة المذهب المالكي ومناظرة أتباعه، وهذا ما دفع المالكية إلى تبني الأسلوب نفسه وسلوك الطريقة نفسها في النقاش الفقهي والمناظرة المذهبية.

ولاشك أن منهج الحجاج والمناظرة الذي سلكه الأتباع الأوائل للمذاهب الفقهية في إطار دراستهم للخلاف العالي، قد أسهم بشكل واضح في الكشف عن أصول الأئمة المتبوعين وإرساء قواعد مذاهبهم واستقرار أسسها؛ إذ بواسطة هذا المنهج اكتشفت طرق الأئمة المتبوعين في الاجتهاد وعرفت مستندات أقوالهم وعللها ومحاملها ومقاصدها ومآلاتها، كما عرفت بذلك مواطن الاتفاق والاختلاف بينهم.

والمنتهجون لهذا الأسلوب في دراسة الفقه من المالكية الأوائل لم تكن وراءهم دوافع التعصب للمذهب والتحيز له ضد الآخر كما قد توحي بذلك عناوين كتبهم في هذا المجال، وإنما التجأوا إليه بقصد إظهار أدلة مذهبهم وحججه وبيان صحتها وإثبات جدارة المذهب في مواكبة الأحداث وقدرته على الصمود أمام المذاهب الأخرى كما تدل على ذلك مؤلفاتهم التي وصلتنا في هذا السياق.

القسم الثاني: مؤلفات تستدل لفروع المذهب وتحتج لها بمختلف أنواع الأدلة وتذكر المذاهب الأخرى وتناقشها وترد عليها أحيانا، غير أن الرد على تلك المذاهب ليس هو المقصود الأصلي لدى مؤلفيها، بل غرضهم الأساس هو الاستدلال للمذهب المالكي، ويوردون المذاهب الأخرى للمقارنة وبيان مواضع الاتفاق والاختلاف بينها وبين المذهب المالكي. وهذه المصنفات كثيرة أيضا منها ما هو شرح لكتاب آخر ومنها ما هو تأليف مستقل. ومن أشهر هذه المصنفات في المذهب:

1) مختصر عبد الله بن عبد الحكم المصري (ت214هـ) هذا المصدر من أوسع المصادر المالكية من حيث المسائل الفقهية وأدلتها، وقد استدل فيه مؤلفه لمعظم المسائل الواردة في غيره مجردة عن الدليل مثل مسائل المدونة والواضحة والموازية…

وقد اهتم المالكية بهذا المصدر كثيراً خصوصا المالكية البغداديين، وشرحوه بشروح عدة، وأضافوا إليه مسائل وأدلة أخرى كثيرة، وممن اهتموا بهذا المصدر ودققوا في مسائله وأدلته أبو عبد الله البريكاني البغدادي المالكي (ت309هـ) قال عنه: عرضت مختصر ابن عبد الحكم على كتاب الله وسنة رسوله (يعني مسائله) فوجدت لكلها أصلاً إلا اثنتي عشرة مسألة لم أجد لها أصلا»[8] وعدد مسائله ثمانية عشر ألف مسألة.

2) المعونة على مذهب عالم المدينة، للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ت422هـ) وهو كتاب مطبوع متداول، وقد استدل فيه للفروع الفقهية المالكية بمختلف أنواع الأدلة النقلية والعقلية المعتبرة، وأورد فيه اختلاف الروايات في المذهب المالكي واستدل لها واهتم بتوجيهها وتعليلها وبيان مآلاتها المعتبرة، كما أورد فيها أقوال المذاهب الأخرى، غير أنه لا يناقشها كثيراً ولا يذكر أدلتها إلا قليلاً.

وذلك على خلاف منهجه في كتابه “الممهد” وشرحه على رسالة ابن أبي زيد القيرواني الذين يناقش فيهما أدلة المذاهب الأخرى ويرد عليها وينتصر لمذهب الإمام مالك.

3) الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب أيضا وهو مطبوع ومتداول كذلك، وهو لا يختلف كثيراً من حيث أنواع الأدلة عن كتاب “المعونة” فاهتمامه الأساس فيهما هو الاستدلال لمسائل المذهب.

4) شرح التلقين لأبي عبد الله المازري الصقلي الشهير بالإمام، وقد شرح به كتاب “التلقين” للقاضي عبد الوهاب، وقد توسع المازري في هذا الشرح في ذكر روايات وأقوال أئمة المذهب المالكي والاستدلال لها، كما أورد أقوال المذاهب الأخرى وناقش أدلتها، وكان غرضه الأساس هو الاستدلال لمسائل المذهب المالكي وتأصيلها، وقد طبع من هذا الكتاب ثلاثة أجزاء، طبع بدار الغرب الإسلامية بيروت.

هذه باختصار بعض المصنفات في الاستدلال الفقهي في المذهب المالكي وهي كافية في الرد على من يرمي المذهب المالكي بقلة اهتمام أئمته بالدليل والاستدلال، ويزعم أن الفقه المالكي ضعيف الصلة بالأدلة الشرعية المعتبرة. لكن التساؤل الذي يظل قائما بعد وضوح هذا الرد هو: ما هي المسوغات التي انطلق منها من حكم على المالكية بقلة العناية بالدليل؟ هل جاء هذا الحكم نتيجة دراسة وتقويم لعطاء المذهب المالكي عبر مراحله الزمنية المختلفة؟ أم هو مجرد ادعاء لا يستند إلى أي أساس معتبر؟ وهذا ما سأجيب عنه في المسألة الثانية.

المسألة الثانية: منشأ الحكم على الفقه المالكي بضعف ارتباطه بالدليل.

الحقيقة أن هذا الحكم لم تفض إليه دراسة متفحصة لمصادر المذهب، وإنما قادت إليه اعتبارات أخرى لا صلة لها بالبحث ولا بالنظر الواعي، هذه الاعتبارات ترجع –فيما يبدو- إلى ثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول: يرتبط بالفقهاء المالكية أنفسهم.

السبب الثاني: يعود إلى المسؤولين عن إخراج التراث المالكي عند ظهور المطبعة المعاصرة.

السبب الثالث: يعود إلى الجهل بمناهج الفقهاء المالكية ومقاصدهم في التأليف الفقهي.

فيما يخص السبب الأول المتعلق بالفقهاء المالكية أنفسهم، فإن الملاحظ أن العديد منهم اشتغلوا بمصنفات الفقه التجريدي التي لا يعنى مؤلفوها بالدليل إلا قليلا أو لا يهتمون به أصلاً. وهؤلاء الفقهاء الذين اقتصروا على هذه المصادر ذات المنحى التجريدي في الفقه لم يكونوا يجهلون المصادر الأخرى ذات المنهج الاستدلالي والتأصيلي بل كانوا مطلعين عليها وإنما اكتفوا بالأقوال والروايات دون بحث عن أدلتها ثقة منهم بأئمتهم الذين اطمأنوا إلى مستواهم العلمي والأخلاقي في مجال الاجتهاد، لذلك كانوا يبحثون فقط عن صحة نسبة الرواية أو القول إلى أئمتهم المشهود لهم برسوخ القدم في أصول المذهب وفروعه.

أما السبب الثاني الذي يعود إلى القيمين على خراج التراث المالكي فإنه جاء مترتبا على السبب الأول، إذ أن هؤلاء لم يجدوا أمامهم سوى تلك المؤلفات الخالية من الاستدلال التي كانت رائجة في مجال الدرس والقضاء والاقتداء. وهي التي قدمت لهم من قبل فقهاء الوقت لينشروها، كما أن الطلب كان عليها لا على غيرها. لذلك وجد هذا النمط من المصنفات طريقة إلى النشر بسهولة عند ظهور الطباعة.

وقد ظن من لا اطلاع له على المذهب أن مصنفاته كلها على هذه الشاكلة فحكم على المذهب كله بعدم عناية أهله بالدليل. ولاشك أن هذا الحكم كان حينئذ بريئاً بالرغم من أنه لم يكن موضوعيا، لكنه استغل فيما بعد من قبل المناوئين للمذهب والمشاغبين عليه لصرف أتباعه عنه وتشكيكهم في أحكامه ومقرراته، ولازال هؤلاء يروجون هذا الحكم المجانب للصواب بالرغم من أن مصنفات المذهب ذات المنحى الاستدلالي قد عرفت واطلع عليها الباحثون وأصبح كثير منها مطبوعا ومتداولاً كما فصلت ذلك سابقاًَ.

وفيما يتصل بالسبب الثالث العائد إلى الجهل بمسالك علماء المذهب في التأليف وقصودهم المنهجية فإن الملاحظ أن كثيراً ممن اتهموا أئمة المذهب بعدم العناية بالدليل فاتهم أن يعرفوا أن هناك طرقا منهجية متعددة سلكها أئمة المذهب في خدمة روايات وأقوال أئمتهم، وأن هناك غايات قصدوها من خلال جمعهم للفروع واقتصارهم عليها دونما ذكر لأدلتها ومستنداتها، وهذا ما سأوضحه في المسألة الثالثة.

المسألة الثالثة: مصنفات الفروع المجردة ومقاصد مؤلفيها في ترك الاستدلال:

إن علماء المذهب قد سلكوا في دراسة فروع مذهبهم طريقتين:

1) طريقة الاستدلال لهذه الفروع وتأصيلها،

2) طريقة جمع الفروع وتنقيحها وبيان الراجح والمشهور منها، واختيار ما يعتمد منها في الإفتاء والقضاء.

وهذه الطريقة الثانية في دراسة الفروع لم ينتهجها فقط المقلدون من فقهاء المذهب بل سلكها أيضا كثير من المجتهدين داخله، بل إن كثيراً من هؤلاء المجتهدين داخل المذهب ألفوا بالطريقتين معا: طريقة الاستدلال وطريقة التجريد، من هؤلاء القاضي عبد الوهاب الذي ألف في الاستدلال الفقهي “المعونة” و”الإشراف” و”شرح الرسالة” وألف في الفروع المجردة “التلقين” و”عيون المجالس”.

ومنهم ابن عبد البر الذي ألف “التمهيد”، و”الاستذكار” في الاستدلال وصنف كتاب “الكافي في فقه أهل المدينة المالكي” في الفروع المجردة.

ومنهم ابن أبي زيد القيرواني الذي ألف في الفقه التجريدي: “الرسالة” و”مختصر المدونة” و”النوادر والزيادات” وألف في الاستدلال للمذهب والاحتجاج لمسائله كتاب: “الذب عن مذهب مالك”.

وهؤلاء يصنفون داخل المذهب من المجتهدين الكبار فيه مما يدل على أن الاقتصار على الفروع في كثير من مصنفات المذهب كان لدوافع منهجية ومقاصد تعليمية، لذلك فإن الانطلاق منها للحكم على أئمة المذهب بالتقصير في الاستدلال فيه تعسف واضح وفيه إلزام بما لا يلزم؛ لأن أصحاب هذه المصنفات نصوا صراحة أو ضمنا على مقاصدهم المنهجية.

فالشيخ خليل مثلاً ألف مختصره ليجمع فيه الأقوال الراجحة والمشهورة التي يفتى بها في المذهب كما نص على ذلك في دباجة المختصر، ولم يكن قصده ربط الفقه بأصوله، وابن أبي زيد القيرواني ألف الرسالة للمتعلمين الصغار ليعرفوا أهم الأحكام الفقهية على مذهب إمام دار الهجرة، كما ذكر ذلك في مقدمة الرسالة، وعبد الواحد بن عاشر ألف المرشد المعين للعوام ليتعلموا الأمور الضرورية من دينهم وفق المذهب المالكي كما نص على ذلك في مقدمة الكتاب في قوله: في نظم أبيات لأبي تفيد، وأبو بكر بن عاصم ألف تحفته لجمع بعض الأحكام القضائية التي حكم بها أثناء توليه القضاء وبعض الأحكام التي قضى بها قضاة المذهب قبله.

ومنهم من كان غرضه المنهجي أن يجمع ويستوعب كل ما أثر عن الأقدمين من الروايات والأقوال مثل شهاب الدين القرافي في كتابه “الذخيرة” وابن أبي زيد القيرواني في مصنفه الضخم “النوادر والزيادات”.

ومنهم من كان قصده أن ينظم روايات وأقوال المذهب ويجمعها في أبواب ومباحث جامعة كجلال الدين عبد الله بن شاس (ت616هـ) في كتابه: “عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة”[9] الذي ذكر في مقدمته أن الدافع له إلى تأليفه هو ما لاحظه من عزوف الناس عن قراءة المدونة بسبب الخلط بين مسائلها، فألف كتابه لتنظيمها وترتيبها.

ومنهم من كان قصده أن يتتبع الأقوال المخرجة والمفرعة عن نصوص مدونة سحنون والمستنبطة منها، ويحدد المواطن التي استنبطت منها، مثل علي بن سعيد الرجراجي في مصنفه الموسوعي: مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها[10].

فهذه المصنفات كما نلاحظ وكما عبر أصحابها وضعت لأغراض خاصة ولم يقصد مؤلفوها الاستدلال والتأصيل للفروع، فالانطلاق منها للحكم على تراث المذهب المالكي كله بعدم اهتمام أئمته بالاستدلال مجانب للصواب، والله أعلم.    

[1]  فهرست ابن خير، ص121.

[2]  طبع حديثا بتحقيق محمد الدوسري باحث بجامعة الإمام محمد بن سعود.

[3]  الذب على مذهب مالك لابن أبي زيد القيرواني، تحقيق الدكتور محمد العلمي (مرقون).

[4]  كتاب مطبوع باعتناء محمد حسن الكيلاني، ط. دار عالم الكتب.

[5]  ترتيب المدارك: 5/2. [5]  كتاب مطبوع باعتناء محمد حسن الكيلاني، ط. دار عالم الكتب.

[6]  حققه الدكتور محمد العلمي (مرقون).

[7]  طبعته وزارة الأوقاف المغربية بتحقيق الدكتور أحمد البوشيخي.

[8]  ترتب المدارك5/15 نقلاً عن كتاب الجدل الفقهي عند مالكية بغداد للدكتور محمد العلمي ص15، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي.

[9]  مطبوع بدار الغرب الإسلامي بتحقيق محمد أبو الأجفان وعبد الحفيظ منصور.

[10]  مطبوع بدار ابن حزم بعناية أبي الفضل الدمياطي.

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)