جارٍ تحميل التاريخ...

بث تجريبي

اختيار المغاربة للعقيدة الأشعريـة… اختيار لعقيدة أهل السنة والجماعة

اختيار المغاربة للعقيدة الأشعريـة... اختيار لعقيدة أهل السنة والجماعة

ذ:عبد القادر بطار

 

أولا: العقيدة الأشعرية هي الصياغة النهائية لعقائد أهل السنة والجماعة:

اعلم أن اختيار المغاربة للعقيدة الأشعرية جاء بناء على إجماع علماء الإسلام على هذه العقيدة السنية الجماعية. التي كانت العقيدة الرسمية لأتباع الأئمة الأربعة، مالك بن أنس والشافعي وأبي حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل… وغيرهم كثير من العقلاء والفضلاء. فقد أسهم هذا المذهب بشكل كبير في تحصين المعتقد الإسلامي على طريقة أهل السنة والجماعة. كما قام أئمته بدور فعال في الحفاظ على جوهر التوحيد الإسلامي القائم على الإثبات المفصل، والتنزيه المطلق. ولم يخالطوا أصولهم بشيء من بدع الفرق الضالة.

لقد أجمع الأشاعرة على حدوث العالم، ووجود البارئ تعالى، وأنه لا خالق مبدع سوى الله تعالى، وأنه سبحانه قديم لم يزل ولا يزال، وأنه متصف بصفات الجلال من العلم والقدرة والإرادة… وأنه سبحانه وتعالى لا شبيه له ولا نظير، وأنه لا يحل في شيء، ولا هو محل للحوادث، وأنه ليس في جهة ولا حيز، ولا يجوز عليه الحركة والانتقال، وأنه يستحيل عليه الجهل والكذب وسائر صفات النقص، وأنه لا شريك له، ولا ضد ولا ند، وأنه مرئي للمؤمنين في الآخرة، وأنه لا يكون إلا ما يريد، وما أراده فهو كائن، وأنه غني عن خلقه غير محتاج إلى شيء، وأنه لا يجب عليه شيء، بل إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وأنه برئ من المقاصد والأغراض في فعله، لا يوصف فيما يفعل بجور ولا ظلم…وأجمعوا على المعاد والمجازاة والمحاسبة وخلق الجنة والنار وخلود نعيم أهل الجنة، وخلود عذاب أهل النار من الكفار، وجواز العفو عن المذنبين، وشفاعة الشافعين. وعلى جواز بعثة الرسل، والاعتراف بكل من بعث وأيد بالمعجزات من الرسل والأنبياء، من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وأن أهل الرضوان وأهل بدر من أهل الجنة… ووجوب نصب الإمام.([1])       

لقد قام الإمام الأشعري علي بن إسماعيل بن بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن بلال بن بردة بن موسى الأشعري، وكنيته أبو الحسن ويلقب بناصر الدين، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، ولد في البصرة حوالي 260هـ ثم انتقل إلى بغداد وعاش بها حتى وفاته عام 324 ﻫ على الأرجح  وهو أحد العلماء أحد المجديين على رأس المائة الثالثة.([2]) بنصرة عقيدة أهل السنة والجماعة وتوسط الطرق وأقام الحجج حتى أضحى مرجعا وإماما في باب العقائد الدينية ورائدا روحيا كبيرا لأهل السنة والجماعة. 

لقد ظهر الإمام الأشعري في وقت رفعت فيه بعض الفرق الضالة رؤوسها “فجحرهم في أقماع السمسم، وكان مؤتما بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، متمسكا بالدلائل العقلية والشواهد السمعية، وإذا تأملت كتب الحديث المتفق على صحتها كموطأ مالك رحمه الله وصحيحي البخاري ومسلم وجدته ناطقا عنهما، وناقلا منهما، لم يأت برأي ابتدعه ولا مذهب اخترعه، وسبيله في بسط القول في مسائل الأصول كسبيل -مالك رحمه الله- وغيره من الفقهاء فيما بسطوا القول فيه من مسائل الفروع”.([3])

إن حقيقة مذهب الإمام الأشعري والمضمون العقدي الذي يرتكز أنه:” لم يُبدع رأيا، ولم ينشئ مذهبا، وإنما هو مقرر لمذاهب السلف، مناضل عما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريقة السلف نطاقا، وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه، فصار المقتدي به في ذلك السالكُ سبيله في الدلائل، يسمى أشعريا… وقد ذكر شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة.”([4])

لقد عرف علماء المغرب فضائل العقيدة الأشعرية والمقاصد النبيلة التي انبنت عليه هذه العقيدة السنية الجماعية، والمنهج الوسطي الذي تميزت به عبر تاريخها الحافل فاعتمدوها عقيدة رسمية، ونافحوا عنها وانتصروا لها.

 يقول القاضي عياض في ترجمته للإمام الأشعري:”…وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة…”([5])

ويقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي الجد ( تـ 520 هـ) في جواب له عن سؤال وجهه إليه أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، ( تـ 500 هـ) حول رأيه في الشيخ أبي الحسن الأشعري وبعض كبار أئمة المذهب الأشعري: “… تصفحت -عصمنا الله وإياك- سؤالك هذا، ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وهدى، وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات، وبينوا ما يجب أن يدان به من المعتقدات. فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء على الحقيقة لعلمهم بالله عز وجل، وما يجب له، وما يجوز عليه، وما ينفى عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول. فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عني رسول الله r بقوله:” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين“. فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا جاهل أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق. وقد قال الله تعالى:” وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً. [الأحزاب: 58] ([6])

لقد اتصف ابن رشد المدرسة الأشعرية التي قام إمامها الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه إمام المتكلمين – كما يقول ابن خلدون- ” فتوسط بين الطرق، ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه…”([7])

لقد أدرك علماء المغرب أن العقيدة الأشعرية في صيغتها النهائية ما هي إلا امتداد طبيعي لمذهب أهل السنة والجماعة، وأن الاقتداء بأئمة هذه العقيدة السنية يسمو بالمعتقد إلى تمثل روح المنهج القرآني في تقرير العقائد الدينية، ثم منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابع التابعين في التلقي والفهم والتنزيل.

يقول الإمام أبو علي عمر بن خليل السكوني ( تـ 717 هـ) “… وليعول على الاقتداء برسول الله r خاتم النبيين وسيد المرسلين وخيرة المخلوقين محمد المصطفى r ولما أنزل عليه من الكتاب وما وردت به سنته… ثم الاقتداء بأئمة المؤمنين من الصحابة والتابعين والمتبعين لهم من أهل السنة من أئمة المتكلمين في أصول الدين الذابين عن الدين والداعين إلى المنهج الحق المبين والحبل المتين كأبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى صاحب المختزن في تفسير القرآن في أربعمائة سفر…” ([8])

ويقول أيضا:” ومما أيد الله سبحانه به الدين وأقام به منار المسلمين، شيخ السنة وحبر الأمة أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه رفع بتأييد الله تعالى راية الموحدين، وأدحض ضلال الملحدين، فعضد بيانه شُبَهَ مَن مال أو زاغ ودفع بواضح حجته، ولائح محجته مَِن حاد عن الطريقة المثلى أو زاغ فربط ما انحل من العقود وأجرى العقائد على أكمل مقصود.”([9])

ويقول العلامة أبو عبد الله سيدي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج عن الإمام الأشعري: “… أنه أول من تصدى لتحرير عقائد أهل السنة وتخليصها ودفع الشكوك والشبه عنها وإبطال دعوى الخصوم، وجعل ذلك علما مفردا بالتدوين”.([10])

أما تعميم العقيدة الأشعرية والتعريف بمفرداتها على نطاق واسع وجعلها عقيدة تحظى بعناية خاصة في الأوساط الشعبية بكل ما في الكلمة من معنى، فيرجع الفضل في ذلك كله إلى الإمام المجاهد سيدي أبي محمد عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر (تـ 1040 هـ) الذي عمد إلى صناعة منظومة تتضمن جملة ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، وهي بحق الصياغة المبسطة والنهائية للعقيدة الأشعرية بأدلتها العقلية والنقلية… وهذه المنظومة فضلا عن اشتمالها على أساسيات العقيدة الأشعرية كما انتهت عند المتأخرين، فإنها جاءت بنسق معرفي متكامل يتأسس على العقيدة أولا ثم الفقه ثانيا ثم التصوف السني الذي يعطي لهذه المعارف كلها نفسا متجددا ثالثا.  

لقد أدرك علماء المغرب أيضا روح المنهج الذي وظفه الإمام الأشعري في دراسة قضايا أصول الدين، وتقرر لديهم أنه منهج يسير على هدي القرآن الكريم الذي يجعل حدا فاصلا بين الخالق والمخلوق، كما ينفي نفيا قاطعا أن يكون لله شبيه من مخلوقاته، لقوله سبحانه:” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] وهذه الآية الكريمة أصبحت عند أئمة المذهب الأشعري قاعدة أساسية في تنزيه الله تعالى تنزيها مطلقا ترد إليها جميع النصوص الدينية الموهمة للتشبيه…

ولقد ظل الإمام الأشعري وفيا لمذاهب أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد الإيمانية، بل إن مصطلح الأشعرية أصبح مرادفا لمصطلح أهل السنة والجماعة، الذي يعبر عنه أيضا بمذهب أهل الحق، أو المثبتة… بل هو الصيغة النهائية لمذهب هؤلاء جميعا.

وفي هذا الصدد يقول القاضي عياض: “… فلما كثرت تواليفه وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصرة الملة فسموا باسمه وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعرفوا بذلك وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة، إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه… فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واجد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه.” ([11])

لقد نذر الإمام الأشعري – رضي الله عنه- حياته وفكره لنصرة عقائد أهل السنة والجماعة متوسلا في ذلك بأدلة عقلية ومنطقية مسددة بروح الشرع طبعا “… فتوسط – كما يقول ابن خلدون- بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطرق النقل والعقل ورد على المبتدعة في ذلك كله…” ([12])

وقد فصل تقي الدين المقريزي حال المذهب الأشعري منذ نشأته إلى عهده فقال: “وحقيقة مذهب الأشعري رحمه الله أنه سلك طريقا بين النفي الذي هو مذهب الاعتزال وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظر على قوله هذا واحتج لمذهبه فمال إليه جماعة وعولوا على رأيه… فانتشر مذهب أبي الحسن في العراق من نحو سنة 380 للهجرة وانتقل منه إلى الشام… وإلى مصر على يد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومن بعده من ملوك الأيوبيين. وإلى بلاد المغرب على يد أبي عبد الله محمد بن تومرت… وقد انتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في أمصار الإسلام بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الذي انتصر للدعوة له الإمام تقي الدين ابن تيمية…”.([13])

وقد أصبح للمذهب الأشعري السيادة على معتنقي مذهبين من أكثر المذاهب الفقهية انتشارا هما: الشافعية والمالكية، وتيسر له الانتشار والانتصار بفضل المنهج الوسطي الذي سلكه صاحب المذهب، فضلا عن اعتناق كبار العلماء له، من مختلف المذاهب الفقهية السنية وارتباطه بالتصوف السني، كل ذلك جعله يجد طريقه للانتشار بين مختلف أقطار العالم الإسلامي.

لقد كان أهل السنة قبل الإمام الأشعري ” لا يعتمدون إلا على النقل في أمور الاعتقاد على حين أخذت الفلسفة توجه أهل الفرق إلى الاعتماد على العقل، فلما أخذ الإمام الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظا على السنة جاء أنصار مذهبه من بعده يثبتون عقائدهم بالعقل تدعيما لها ومنعا لإثارة الشبه حولها…”([14])

ثانيا: التأويل أداة لتحقيق للتنزيه:

لا يشك باحث منصف في كون التأويل بمفهومه العلمي لعب دورا مهما في خدمة النص الديني– الكتاب والسنة – وأسهم إلى حد كبير في تكوين منظومة تشريعية شاملة تواكب النزعة التجديدية للإسلام، وتستوعب جميع النظريات التي أبدعها مفكرو الإسلام في هذا المجال، اعتمادا على آلية الاجتهاد الذي يعتبر التأويل أحد أدواته الأساسية، كما ساعد على ذلك طبيعة اللغة التي جاء بها القرآن الكريم، والتي تتسع لمثل تلك النظريات.

لكن وعلى الرغم من كل هذا فقد أخل التأويل بروح النص الديني، وأضر بمقاصده الجوهرية، حيث استغلت تيارات محسوبة على الإسلام هذا الفضاء المعرفي، فعمدت إلى تقسيم القرآن الكريم إلى ظاهر وباطن، وتحت هذا التقسيم عرف المسلمون نظريات غريبة عن روح الثقافة الإسلامية الأصيلة حملتها إلينا بعض التفاسير التي تصدر عن منهج باطني ملئ بالرموز والإشارات، لم تحترم شروط قراءة النص الديني، ولا لغته التداولية، كما تسربت إلى العالم الإسلامي نظريات فلسفية إشراقية لم يعرفها الفكر الإسلامي الأصيل في أطواره الأولى.

وعلى هذا النهج غير القويم سار دعاة الخطاب الفلسفي الإسلامي في محاولاتهم التوفيقية أو التلفيقية بين النص الديني – النقل- والفلسفة الإغريقية –العقل- معتقدين أنهما يعبران عن حقيقة واحدة، حتى أصبح التأويل قانونا لا غنى عنه لتحقيق هذا الهدف غير النبيل، عند أصحاب هذا الخطاب العليل. وهذه الحقيقة يشير إليها ابن رشد على سبيل القطع “… أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن”.([15])

مفهوم التأويل:

 التأويل مصدر ” تفعيل ” فعله الماضي “أول” من آل يؤول إلى كذا إذا صار إليه، فالتأويل: التصيير، وأولته تأويلا إذا صيرته إليه، فآل وتأول، وهو مطاوع أولته.([16])

كما يدل لفظ “التأويل” في وضعه اللغوي على عدة معان تؤول إلى المرجع والمصير والعاقبة والتفسير والبيان والتدبر والارتداد…

فإذا رجعنا إلى “تهذيب اللغة” باعتباره  معجما لغويا قديما نجده يحدد مدلول هذا اللفظ في الرجوع من الأول، وأصله آل يؤول أولا.([17])

أما صاحب معجم مقاييس اللغة فتفيد مادة “أول” عنده المرجع والعاقبة: آل يؤول أي رجع، وتأويل الكلام أي عاقبته وما يؤول إليه، ويجعل من ذلك قوله تعالى: }هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ{ [الأعراف: 53]. أي ما يؤول إليه في وقت بعثهم ونشورهم.([18])

كما يفيد لفظ “التأويل” عند صاحب مختار الصحاح معنى التفسير، أي تفسير ما يؤول إليه الشيء، وأولته وتأويله بمعنى واحد.([19]) وهذا المدلول نفسه نجده عند الجواهري.([20])

في حين استثمر صاحب القاموس المحيط جميع المعاني المتعلقة بمادة “أول” غير أنه جعل لفظ “التأويل” أو “التأول” مختصا بتدبر الكلام وتقديره وتفسيره، ومنه التأويل الذي هو عبارة الرؤيا.([21])

وإذا ما انتقلنا إلى الإمام الطبري الذي أطلق اسم “التأويل” على تفسيره نجده يحدد مدلول هذا اللفظ في كلام العرب بأنه “التفسير والمرجع والمصير، وأصله من آل الشيء إلى كذا إذا صار ورجع، يؤول أولا، وأولته أنا إذا صيرته إليه. ويفسر قوله تعالى: }ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً{ [النساء: 58] و[الإسراء: 35]، بالجزاء. وذلك لأن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.([22])

إذن التأويل على مستوى الدلالة اللغوية يرتد إلى الجذر “آل” فآل إليه، رجع وآل عنه ارتد، ولما كان المآل إلى الشيء أو الارتداد عنه لا يكون إلا بعد إدراك معناه وفهم مقاصده، قالوا: امتدادا لكلمة “آل” أول الكلام تأويلا، وتأوله: دبره وقدره وفسره.([23])

المدلول الاصطلاحي للفظ التأويل:

يرتبط لفظ “التأويل” عند علماء العقيدة بالنصوص العقدية المتشابهة – آيات الصفات من الكتاب والسنة- التي يوحي ظاهرها بمشابهة الذات الإلهية المقدسة للحوادث أو الممكنات التي من صفاتها أن لها صورة وجسما، وهي مؤلفة من أجزاء ولها زمان خاص ومكان خاص. والله سبحانه وتعالى لا يشبهها في شيء من هذا ولا من غيره، لأنه – كما يقول الإمام الأشعري- ” لو أشبهها لكان حكمه في الحدث حكمها، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها، فإن أشبهها من جميع الجهات كان محدثا مثلها من جميع الجهات، وإن أشبهها من بعضها كان محدثا من حيث أشبهها، ويستحيل أن يكون المحدَث لم يزل قديما وقد قال الله: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى: 11] وقال: }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{ [الإخلاص: 4]”.([24])

وعلى هذا الأساس يعرف التأويل عند الأشاعرة بأنه: “حمل اللفظ على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فيحكم المكلف بأن اللفظ مصروف عن ظاهره قطعا. ثم يؤول اللفظ تأويلا تفصيليا بأن يبين فيه المعنى الذي يظن أنه المقصود من اللفظ” ويقابل هذا المدلول لفظ “التفويض” الذي يعني صرف اللفظ عن ظاهره، مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويفوض علمه إلى الله تعالى بأن يقول: الله أعلم بمراده.([25]) كما يحدد لفظ التأويل بصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه – المؤول- موافقا الكتاب والسنة.([26])

ويحدد الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك لفظ التأويل بأنه:” صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله”.([27])

وهو عند ابن رشد: “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب…”([28])

التأويل بين السلف الخلف:

اعلم أن مذهب السلف وهم الذين كانوا من أهل العلم قبل القرن الثالث الهجري، وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم، والخلف وهم من كان من العلماء بعد نهاية القرن الثالث الهجري  قائم على صرف النصوص المتشابهة عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا، استنادا إلى آيات محكمات.

وإذا كان السلف والخلف يتفقون على صرف النصوص عن ظواهرها المستحلية، فإن السلف يفوضون معاني هذه المتشابهات إلى الله تعالى وحده بعد تنزيهه عن ظواهرها، وهذا ضرب من التأويل الإجمالي للنصوص المتشابهة، فإن الخلف اختاروا التأويل التفصيلي للنصوص المتشابهة، أي حمل اللفظ على معنى يسوغ في اللغة العربية ويليق بالله تعالى. بمعنى أن ما فعله الأشاعرة وهم من الخلف إزاء هذه المشكلة هو الاستمرار على مذهب أهل السنة والجماعة مع:” تأويل المتشابه من الكتاب والسنة وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها، وضروب بلاغاتها مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع.”([29])

لقد استطاع الإمام الأشعري بمنهجه الوسطي المتجدد الذي وظفه في الدفاع عن العقائد الدينية السنية الجماعية أن يتدرج بمفكري هذه العقائد من مستوى النظرة الضيقة للنصوص العقدية أو القراءة الحرفية لتلك للنصوص التي تنتهي حتما إلى تكريس عقيدة التجسيم المرفوضة إسلاميا إلى مستوى عال من التفكير العقلاني المسدد الذي يحقق التنزيه في صورة تفصيلية متعالية.

وإذا كانت آي القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين:

قسم محكم تأويله بتنزيله، ويفهم المراد منه بظاهره وذاته.

قسم لا يوقف على معناه إلا بالرد إلى المحكم لفهم معناه فإن الأحاديث النبوية جارية هذا المجرى، ومنزلة هذا التنزيل كما يقول الإمام الحافظ أبو بكر ابن فورك. ([30])

شروط التأويل:

انطلاقا من قيمة النص القرآني بوصفه كلام الله تعالى فإن أئمة الفكر الأشعري لم يقابلوا نصوصه بأي إنكار أو تأويل تعسفي، بل قرروا أن الواجبات كلها بالسمع تجب… كما أنهم لم يسرفوا ولم يتوغلوا في التأويل العقلي، ولم يوسعوا دائرته من غير ضرورة، بل ضلوا مرتبطين بالنص الديني يحاولون فهمه في ضوء نصوص أخرى، وباعتماد شواهد لغوية وضوابط شرعية صارمة نشير إلى بعض منها:

  • الظاهر هو الأصل: لقد قرر علماء العقيدة أن النصوص تحمل على ظاهرها، ولا يعدل عن الظاهرة إلا لضرورة. وفي جميع الحالات ضرورة قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع.
  • كثرة الاستعمال واشتهاره: ينبغي توجيه معاني القرآن الكريم إلى المعنى الظاهر المشتهر استعماله بين الناس في زمان الرسالة، ولا يجوز توجيهها إلى المعنى الخفي المستعمل على قلة.
  • احتمال اللفظ لما صرف له: من شروط التأويل الصحيح أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي صرف إليه. ومن ثَمَّ لا يجوز تأويل النص القرآني عن طريق حمله على تأويل لا يحتمله اللفظ. وهذا الشرط يقتضي أن يكون المؤول على اطلاع واسع بلغة العرب وأساليبها…
  • أن يدل السياق على المعنى المصروف إليه: يقول الإمام الطبري:” فتوجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه”([31])
  • أن لا يخالف التأويل أصلا شرعيا ثابتا: فحمل اللفظ على معنى مخالف لما قد تبين في أصول الدين أو قواعد الشرع، وغير جار على وفق قواعد العقل واللغة يعد تأويلا باطلا، وهاذ متفق عليه.([32])
  • أن يكون المعني المصروف إليه اللفظ مما يصح في أوصافه تعالى من غير اقتضاء تشبيه أو إضافة إلى ما يليق بالله جل ذكره إليه.([33])
  • أن يكون المتأول أهلا لذلك: وهذا الشرط يتعلق بممارس فعل التأويل الذي يتعين أن يكون متصفا بالفضيلة الخلقية والعلمية، خبيرا باللغة العربية وأساليبها، عالما بأصول الشرع وأحكامه…([34])
  • أن تكون ثمة ضرورة شرعية تدعو إلى التأويل: بأن نخشى على إنسان مسلم من ذهاب عقيدته. وإلا فالتمسك بمذهب السلف الذي يعني تفويض معاني النصوص المتشابهة إلى الله تعالى وحده بعد تنزيهه عن ظواهرها المستحيلة أولى من فعل التأويل.([35])

ثالثا: رفض تكفير المخالف في الرأي:

يدرك المشتغل بالدراسات العقدية أن ظاهرة التكفير لم تكن متداولة بين جيل الصحابة أو التابعين أو تابعيهم، لأن جيل الصحابة كما يقول طاش كبرى زاده: “أدركوا زمان الوحي، وشرف صحبة صاحبه، وأزال عنهم نور الصحبة ظلم الشكوك والأوهام”([36]) ولأن جيل التابعين وتابعيهم ساروا على النهج الذي كان عليه سلفهم الصالح الذين شهد لهم الرسول r بالخيرية فقال: “خَيْرُ اَلْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ اَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبَقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهٌ.([37]) وإنما ظهرت وتأصلت على يد الخوارج الذين كان التكفير بالنسبة إليهم قاعدة مطردة، والإيمان استثناء، وكانت الزعامة السياسية هي التي تتحكم في مسارهم العقدي. كما كان التطرف الديني من المعالم الأساسية في منظومتهم الفكرية، فقد أباح هؤلاء قتل كل عاص لله تعالى بناء على أصلهم الفاسد: إن الإيمان يزول عن مرتكبي الذنوب، وهي الفكرة التي سيرفضها البناة من مفكري الأشعرية الذين نادوا بفكرة الإيمان الذي لا يزول بذنب دون الكفر، واعتبار كل من أذنب ذنبا دون الكفر مؤمنا وإن فسق بمعصيته.([38]

لقد عظم على أهل السنة والجماعة إطلاق لفظ الكفر على المسلم، لاقتناعهم الشديد بحرمة ذلك شرعا، ولما يترتب عن هذا الوصف القبيح من نتائج وأحكام فقهية خطيرة تمتد إلى حياة الشخص المكَفَّر وماله وعرضه… ومن ثم وضعوا شروطا صارمة لقضية التكفير.

لقد وضع الإمام الغزالي قاعدة جليلة في هذا الموضع الخطير فقال:” والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين للقبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ. والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم…” ([39])

وإذا رجعنا إلى ما قرره الإمام الأشعري نفسه نجده لا يخرج عما قرره عامة أهل السنة والجماعة بخصوص الموقف من قضية التكفير التي افتتن بها التيار الخارجي من قبل.

 تذكر المصادر التي عنيت بسيرة الإمام الأشعري أن العقيدة التي مات عليها هذا الإمام العظيم، هي القول بعدم تكفير أي أحد من أهل القبلة.

 وفي هذا الصدد يذكر ابن عساكر الدمشقي أن أبا علي زاهر بن أحمد السرخسي قال: ” لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري – رحمه الله- في داري ببغداد دعاني فأتيته فقال: اشهد على أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف في العبارات”([40]).

ولقد أعلن الإمام الأشعري كما أعلن الإمام أبو حنيفة من قبل أن الإيمان هو التصديق بالله، وهذا المعنى أفاده الوضع اللغوي الذي يأخذ عند الإمام الأشعري مدلوله من إجماع أهل اللغة. ويستشهد في هذا السياق بقوله تعالى } وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادقِينَ{  [يوسف: 17]. للتدليل على أن لفظ “الإيمان” يفيد التصديق.

ومن وراء هذا التحديد اللغوي مقاصد عقدية تتمثل بالأساس في اعتبار الفاسق من أهل القبلة مؤمنا بإيمانه فاسقا بفسقه وكبيرته، مخالفة للتيار الاعتزالي الذي جعله في منزلة بين المنزلتين، وضدا على التيار الخارجي الذي قضى بتكفيره.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الأشعري: “فإن قال قائل: فحدثونا عن الفاسق من أهل القبلة أمؤمن هو؟

قيل له: نعم مؤمن بإيمانه، فاسق بفسقه وكبيرته. وقد أجمع أهل اللغة أن من كان منه ضرب فهو ضارب، ومن كان منه قتل فهو قاتل، ومن كان منه كفر فهو كافر، ومن كان منه فسق فهو فاسق، ومن كان منه تصديق فهو مصدق، وكذلك من كان فيه إيمان فهو مؤمن…” ([41])

ويتفرع على هذا الأصل حكمان شرعيان:

الأول: أن مرتكب الكبيرة مؤمن وليس بكافر كما يقول الخوارج.

الثاني: أنه ليس ثمة منزلة بين الإيمان والكفر إذ ” لو كان الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا لم يكن منه كفر ولا إيمان، ولكان لا موحدا ولا ملحدا ولا وليا ولا عدوا، فلما استحال ذلك استحال أن يكون الفاسق لا مؤمنا ولا كافرا كما قالت المعتزلة.

وأيضا فإذا كان الفاسق مؤمنا قبل فسقه بتوحيده، فحدوث الزنا بعد التوحيد لا يطال اسم الإيمان الذي لم يفارقه.” ([42])

ويفصح الإمام الأشعري عن موقفه من قضية التكفير بوضوح فيقرر في معرض عرضه لمذهب أهل الحق والسنة فيقول: ” وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه ما لم يستحله، كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون، ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا. “([43])

وهذا الموقف سيتحول عند الإمام الأشعري إلى أصل من أصول عقائد السلف المجمع عليها فيقرر بأن “السلف مجمعون على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما ادعاه النبي r إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي، ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورون بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم”.([44])

وعموما فإن الخطاب الأشعري سواء منه المتقدم أو المتأخر يعتبر قضية تكفير المسلمين من أخطر القضايا، وأعظم البلايا، وقد عظم على الأشاعرة عموما تكفير صاحب الكبيرة غير المستحل لها. ولعل البناء العام للعقيدة الأشعرية التي تنتظم في الإلهيات والنبوات والسمعيات وجعل قضية الشفاعة من الأصول العقدية يبين بوضوح موقفهم من مسألة التكفير واستبعادهم لها.

 وهكذا فقد أصبح مقررا في المنظومة السنية الجماعية أن شفاعة سيدنا محمد r في إخراج العصاة والمذنبين المرتكبين للكبائر من النار لا خلاف في ثبوتها عند أهل السنة، بل هي من الأمور المجمع عليها عندهم.([45]) وهذا أصل. والأصل الثاني أن من استحق الشفاعة كان مؤمنا غير كافر وهو المطلوب.

ويطالعنا الإمام الأشعري بموقف أهل السنة والجماعة من مسألة التكفير، فيقرر أنهم “لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر”.([46])

وهذا القول العقدي الذي أصبح من المبادئ الأساسية في مذهب أهل السنة والجماعة نراه يتردد عند كثير من العلماء الذين اتبعوا مذهب السلف، فهذا الإمام أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني (ت386ﻫ) يعلن أن مذهب السلف قائم على عدم تكفير أحد بذنب من أهل القبلة.([47])

وقد تفنن شراح الرسالة في تقريب هذا الأصل العظيم، فذهب الشيخ زروق في تعليقه على هذا النص: “إلى أن أهل القبلة عبارة عن أهل الصلاة، وقيل اسم لكل مؤمن بالله تعالى ورسوله r، صلى أو لم يصل، وما ذكره الشيخ – ابن أبي زيد القيرواني – هو قول جماعة أهل السنة سلفا وخلفا، وقالت المعتزلة من مات غير تائب فهو مخلد في النار، ولا يطلق عليه اسم كافر ولا مؤمن، وإنما يسمى فاسقا.”([48])

ويذهب شارح آخر نفس المذهب فيقرر ” أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ممن حكم بإسلامه بذنب، (من أهل القبلة) أي الصلاة والمعنى أن من تقرر بالإيمان الجازم إيمانه، وتحقق بالإتيان بالشهادتين إسلامه، إذا ارتكب ذنبا ليس من المكفرات، وكان غير مستحل له، فإنه لا يكفر عندنا بارتكابه، ولا يخرج به عندنا عن الإيمان صغيرا كان الذنب أو كبيرا، خلافا للخوارج في التكفير بارتكاب الذنوب ولو صغائر”.([49])

قال القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي في شرحه لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني عند قول الإمام “ولا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة” وهذا كمال الإيمان، فالمذنبون من أهل الملة مؤمنون مذنبون، ولا يخرجون بذنوبهم عن الإسلام ولا عن الإيمان، ولا يحبط ذنوبَهم إيمانُهم، هذا قول السلف وسلف الأمة”.([50])

وخلاصة القول فإن أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية وأصحاب الحديث والفقهاء الأربعة متفقون جميعهم على عدم تكفير المسلم بذنب يرتكبه كيفما كانت طبيعة هذا الذنب كبيرا كان أو صغيرا، وأن المسلم يظل يحتفظ بانتمائه للإسلام، فتثبت له جميع الحقوق التي يتمتع بها بقية المسلمين.

ثم إن الإجماع واقع على أن المرتكب لذنب من الذنوب الكبائر أو الممتنع عن أداء بعض الشعائر الدينية وهو يقر بوجوبها فإنه لا يعد كافرا. أما من أنكر ضرورة من ضروريات الإسلام المجمع عليها فلا خلاف بين العلماء في تكفيره، وفي جميع الحالات فإن الجاحد أو الممتنع أمامه فرصة الاستتابة حتى يرجع عن قوله ويعود إلى صوابه.

وعندما يتعلق الأمر بجزئيات العقائد الدينية فإن الأشاعرة يظهرون تسامحا لا مثيل له، حيث لم يكفروا من اجتهد في تقريب بعض قضايا الاعتقاد كإنكار الرؤية أو القول بخلق الأفعال ومسألة الوعد والوعيد وخلق القرآن وبقاء الأعراض… وغير ذلك من دقائق علم الكلام، فالأولى كما يقرر هؤلاء عدم التكفير، لكونهم من المتأولين وفعل التأويل كما سبق إنما هو ضرب من الاجتهاد في فهم النص، وهو عمل يثاب عليه المجتهد سواء أخطأ أم أصاب.([51])

إن اعتبار جميع أهل القبلة مسلمين لا يجوز تكفيرهم، وهذا أصل مهم عند الأشاعرة، ثم الإعلان عن تصويب المجتهدين في الفروع الذي يعني عدم تكفير أحد من أهل القبلة أيضا، إضافة إلى فكرة مسألة تكافئ الأدلة التي تعني الاعتراف بقدر من الصواب في كل طرف من الطرفين المتقابلين يصححه التوسط الذي هو أساس المذهب الأشعري يجعل المذهب الأشعري الذي يمثل قمة التسامح الديني بإعلانه عن هذه المبادئ الأساسية منسجما تماما مع حياتنا الدينية المعاصرة وينفعها أجل النفع([52])  .

([1] ) أبكار الأفكار في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي 5/96

([2]) تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري، لابن عساكر الدمشقي، ص:53

([3])  عيون المناظرات لأبي علي عمر السكوني، ص: 225. وقد أورد محقق الكتاب لفظ ” فحرهم في أقماع… وهو تحريف    واضح، والصواب ما أثبتناه كما يدل على ذلك سياق الكلام. / أنظر كتاب”  وفيات الأعيان وأنباء الزمان” لابن خلكان 3/286 تحقيق د. أحسان عباس. سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي 15/85  تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11 346،

([4])  طبقات الشافعية، 2 /254

([5]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، 5/24. تحقيق د. محمد بنشريفة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

([6]) فتاوى ابن رشد، 2/802  تقديم وتحقيق وتعليق  الدكتور المختار بن الطاهر التليلي، طبعة دار الغرب الإسلامي.

([7]) مقدةمة ابن خلدون، 3/975 بتحقيق الدكتور عبد الواحد وافي.

([8]) لحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام، لابي علي عمر بن خليل السكوني، ص: 215، تحقيق سعد غراب، حوليات الجامعة التونسية، عدد 125 سنة 1975

([9]) عيون المناظرات، لأبي علي عمر السكوني، ص: 223

([10])  حاشية العلامة محمد الطالب بن الحاج على ميارة، شرح المرشد المعين،ص: 116

([11]) ترتيب المدارك للقاضي عياض، 5/25.

([12]) مقدمة ابن خلدون، 3/975.

([13]) الخطط للمقريزي، 2/357.

([14])  تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، الشيخ مصطفى عبد الرازق، ص299

([15])  فصل المقال لابن رشد، ص: 98.

([16])   الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، 1/175.

([17])  تهذيب اللغة للأزهري، مادة أول، 15/437، تحقيق إبراهيم الأبياري.

([18])  معجم مقاييس اللغة لابن فارس، 1/160، تحقيق.د. عبد السلام هارون.

([19])  مختار الصحاح للرازي، مادة ” أول”.

([20])  تاج اللغة للجواهري، باب اللام والألف، 4/1626.

([21])  القاموس المحيط، للفيروزآبادي، باب اللام مع الألف، 3/341.

([22])  جامع البيان في تأويل آي القرآن، الطبري، 1/184. دار الكتب العلمية، 1997.

([23])  التأويل: دراسة في آفاق المصطلح، د. عبد القادر الرباعي، دراسة منشورة ضمن مجلة عالم الفكر الكويتية المجلد 31 أكتوبر – ديسمبر 2002 ص: 150.

([24])  اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، ص: 84.

([25])  شرح جوهرة التوحيد، للباجوري، ص: 149.

([26])  التعريفات للجرجاني، باب التاء، ص: 22.

([27])   الحدود ي الأصول لأبي بكر محمد بن الحسن بن فورك الإصبهاني، ص 146.

([28])  فصل المقال، لابن رشد، ص: 97.

([29])  الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، للشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري، 1/140

([30]) مشكل الحديث وبيانه، ص: 41-42

([31]) تفسير الطبري، 6/91.

([32]) البرهان أصول الفقه للجويني، 1/536

([33]) مشكل الحديث وبيانه، للإمام أبي بكر بن فورك، ص 44.

([34]) التأويل اللغوي في القرآن الكريم، دراسة دلالية، د. حسين حامد الصالح، ص: 80، 98

([35])  شرح جوهرة التوحيد، للإمام الباجوري، ص 154.

([36])  مفتاح دار السعادة ومصباح السيادة، 2/32.

([37]) حديث خير القرون… صحيح رواه الإمام البخاري من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال النبي r: “خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: لا أدري أذكر النبي r بعد قرنين أو ثلاثة، قال النبي r إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويَشهدون ولا يُشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن” أنظر صحيح الإمام البخاري، كتاب الشهادات، رقم الحديث: 2651، 2/302. أنظر أطراف هذا الحديث في الرقمين:3650، 6428 من صحيح الإمام البخاري.… انظر: شرح هذا في فتح الباري، بشرح صحيح الإمام البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، 5/326.

كما ورد هذا الحديث بصيغة “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، البخاري 4/118، ومسلم 4/1963 والترمذي 3859، وابن ماجه 2362 من طريق عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

([38])  الفرق بين الفرق للإمام البغدادي، ص: 343.

([39])   الاقتصاد في الاعتقاد للإمام الغزالي، ص: 157.

([40])   تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري، لابن عساكر الدمشقي، ص: 149.

([41])   اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع للإمام الأشعري، ص: 154.

([42]) المصدر السابق ص: 154.

([43]) الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعري، ص: 26.

([44]) رسالة إلى أهل الثغر للإمام أبي الحسن الأشعري ص: 274.

([45]) الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعري، ص: 241. رسالة إلى أهل الثغر له أيضا، ص: 288. التمهيد للباقلاني، ص: 415. الإنصاف له أيضا، ص: 168. الإرشاد للجويني393. العقيدة النظامية له أيضا ص: 81. شرح السنوسية الكبرى للإمام السنوسي، ص: 408. شرح جوهرة التوحيد للإمام الباجوري ص: 432. المواقف في علم الكلام للإيجي، ص: 380…

([46]) مقالات الإسلاميين للإمام الأشعري، ص: 292.

([47]) رسالة ابن أبي زيد القيرواني (باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات) من مقدمة رسالته.

([48]) شرح الشيخ أحمد بن محمد الشهير بزروق على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، 1/62، طبعة دار الفكر، بيروت، 1982.

([49]) الفواكه الدواني شرح الشيخ أحمد بن غنيم النفراوي المالكي لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، 1/110.

([50]) شرح عقيدة ابن أبي زيد القيرواني، للقاضي عبد الوهاب، ص: 347.

([51]) شرح النفراوي لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، 1/111.

([52]) المجدون في الإسلام، أمين الخولي، ص: 129

At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)