جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

المشيخة العلمية بالمغرب تعريف وترصيف

تستمد المشيخة العلمية بالمغرب مشروعية وجودها من موقعها المتميز الذي تحتله في ضمير الأمة وقلب المجتمع الذي وضع فيها ثقته الكاملة، وخصها بكثير من التقدير والاحترام، لاحتضانها خيرة علماء الأمة المغربية، الذين تحملوا عبر التاريخ مسؤولية البيان والبلاغ، ودعوة الناس إلى الله، وتفقيههم في دينهم، وتبصيرهم بأمور معاشهم،  باعتبارهم ورثة للأنبياء  ناط الله بهم تعليم الناس الخير، وائتمنهم على القرآن الكريم، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلفهم بنشر علمهم لينتفع به الخاص والعام، وحذرهم من كتمان ما علمهم الله، والبخل به عن السائلين والمتطلعين للمعرفة، قال تعالى: ”  إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ “ وقال صلى الله عليه وسلم:”  “‏ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏“‏ .

فلهذه الاعتبارات وغيرها، آلت المشيخة العلمية بالمغرب عبر تاريخه العريق على نفسها ألا تدخر وسعا في القيام بوظيفتها، وأداء رسالتها، وذلك بخدمة دينها ووطنها وأمتها، مسترشدة بكتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختيارات الأمة المغربية الدينية والوطنية والحضارية، المتمثلة في الثوابت والمقدسات التي اختارها المغاربة وتوارثوها كابرا عن كابر، لأنها حافظت على التحامهم وتماسكهم وتضامنهم، وساهمت في اتزان مسيرتهم، واستقرار أوضاعهم، فوضعوا أسسها منذ فجر الدولة المغربية، وأرسوا دعائمها عبرتاريخهم المجيد، وألفوا فيها وشرحوا مقاصدها ورسخوها في العقول والأذهان في كل المراحل وعلى عهد جميع الدول المتعاقبة على حكم المغرب، وهذه الثوابت هي:

1-العقيدة الأشعرية، التي أرسى أسسها ومبادئها وقواعدها الإمـام أبو الحسن الأشعري، والتي وجد فيها المغاربة، ما لم شعثهم، ورأب صدعهم، وجعلهم في مأمن من الصراعات الفكرية، والخلافات المذهبية، والمعارك الكلامية.

2-المذهب الفقهي المالكي، الذي بناه على أسس متينة، وأصول قوية، وأدلة واضحة، عالم المدينة، مالك بن أنس، وامتاز عن بقية المذاهب الفقهية باعتماده على عمل أهل المدينة المنورة، الذي هو عمل التابعين الأجلاء، والصحابة الفضلاء، والذي هو آخر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هذه الناحية بمثابة الطبعة الأخيرة المهذبة المنقحة للإسلام.

3-التصوف الجنيدي، الموافق للكتاب والسنة، والمبني على مجاهدة النفس وتزكيتها، وتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وذلك عن طريق تطهير القلب، وتحويل العلم إلى عمل، والمحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل.

4-إمارة المؤمنين التي عرف المغاربة أهميتها ودورها في جمع الكلمة، وتوحيد الصف، وحراسة الدين، وسياسة الدنيا، فاختاروها منذ عهد الأدارسة نظاما للحكم، وأعطوها من الحب والوفاء، والطاعة والولاء، ما وجدوا بركته، وجنوا ثمرته، وجنبهم الفتن والقلاقل، ووفر لهم الأمن والاستقرار.

هكذا وضعت المشيخة العلمية بالمغرب بذرتها الأولى  مع الفاتحين، ورعتها وحافظت عليها ودعمت أسسها حتى أصبحت غرسا مثمرا ـ كما سنقف عليه في الفصول القادمة من هذا العمل،  ونقصد بالعلم العلم المحقق بفقه مضامين الوحي وما يجب على المكلفين، وما يتعلق بشرع الله ومقاصده، وتعاليم الدين وأسسه، ومن أجمع ما قال الله تعالى في ذلك قوله عز وجل: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ، وَعَلَّمَ ءَادَمَ اَ۬لَاسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي اَ۬لْمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِے بِأَسْمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ ان كُنتُمْ صَٰدِقِينَۖ ، قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ اَ۬لْعَلِيمُ اُ۬لْحَكِيمُۖ ، قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمَ اَقُل لَّكُمُۥٓ إِنِّيَ أَعْلَمُ غَيْبَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَۖ). وقوله: (شَهِدَ اَ۬للَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ اُ۬لْعِلْمِ قَآئِماَۢ بِالْقِسْطِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُۖ).

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ ». 

فإذا كان هذا هو المقصود بالعلم في حديثنا عن المشيخة العلمية بالمغرب، فإن العالم المنتسب إلى هذه المشيخة هو عالم الشريعة المتفقه في أصولها ومعارفها ومشاربها، المشتغل بنشر العلم الشرعي وتعليمه وتربية الأمة على قيمه ومبادئه الذي اتجهت عنايته إلى تزكية نفسه وتطهير أخلاقه، واستكمال آدابه، محافظا على العلم بما أُمِرَ به في نفسه وخاصته… حريصاعلى وحدة الأمة، وما اجتمعت عليه في الاعتقاد والتحليل والتحريم والطاعة، ملتزما النَّفْرَة الدائمة التي تقتضيها الرؤية الصادقة لمشيخة العلم وتستدعيها حاجة الناس إلى الاسترقاء في أمنهم الروحي الذي يثبت الإيمان في نفوسهم، ويقرب إليهم مفاهيم دينهم، ويحميهم في وحدتهم، مراعيا الأحوال بالحكمة وحسن الاعتبار، وطبائع الناس ومستوى إدراكهم، ومقاصدهم ونياتهم، وقيمهم وعاداتهم وأعرافهم، وأولوياتهم ومهماتهم. إنه (عالم الشريعة المقتدى به، الذي عرف ربه فخشيه، وعرف ما أراد منه فعمله، وعرف حق العلم فأداه، وخدم اجتماع أمته على ثوابتها، وساندها في وحدة صفها واجتماع كلمتها، ودرء الفتنة عنها، ووضع من آصارها ونفس عنها ما يُستطاع من أغلالها وهمومها).

إنه العالم المتسم بصفات أهمها:

1 – الاشتغال بالعلم الشرعي الموروث؛ فهما واستنباطا وتنزيلا وفق قواعد أهل العلم المقررة التي حفظت السنة وحافظت على الجماعة، وتلقاها الخلف عن السلف.

2 – الاشتغال بالعلم المحقق لمعرفة الله: محبة وخشية تعظيما لمقامه، ورجاء لثوابه، وخوفا من عقابه، مع الإخلاص في الأقوال والأفعال وسائر الأحوال.

3 – التبصر بمقام الاقتداء، اقتداءً وتمثلا للأسوة الحسنة.

4 – الجمع بين العلم والعمل، أي أن يكون عاملا بعلمه.

5 – القيام بحق البلاغ لإقامة الحجة، ودفع الغفلة، وهو رأس مهام العلماء الذين استودع الله عندهم وحيه؛ لأن التبليغ عن الله تعالى، والتفهيم عن رسوله صلى الله عليه وسلم لمن أهم الوظائف الشرعية التي يتولاها العلماء.

6 – النهوض بواجب خدمة اجتماع الأمة والنصح لها، بأن يكون ناظرا بعين مصلحة أمته، موقرا لأصول الاجتماع التي اختارها أهل بلده عن علم، وأوقعوا عليها الإجماع.

7- التزام الاستقلالية المتبصرة، بأن تكون همة العالم عالية في إنفاق علمه في سبيل خدمة وحدة الصف، واجتماع الكلمة، والذود عن ثوابت الأمة، بعيدا كل البعد عن التجاذبات السياسية التي تحكمها الاجتهادات الجزئية، قائما بواجب البلاغ الذي لا يستثني أحدا كيف ما كان اختياره.

 

د. محمد كنون الحسني