جارٍ تحميل التاريخ...

جارٍ تحميل التاريخ...

المذهب الأشعري: أساسياته ومقاصده

العقيدةُ الأشعرية، المنتسبة لأهل السنة والجماعة، والمتسمة بالوسطية والاعتدال، والمناهِضةُ للغلو والتشدد، سواء في تأويل النصوص أو حملها على ظاهرها، والتي لا تكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، إمامُها أبو الحسن الأشعري، الذي دافع عن المذهب السني المعتدل ضد كثير من الفرق الغالية، وقرر مسائلها نصا وعقلا كما هو منهج القرآن الكريم في الاستدلال والنفي والإثبات بلزوم السنة النبوية وما كان عليه السلف الصالح الممثل لسواد الأمة الأعظم.

التعريف بالإمام أبي الحسن الأشعري

لقد ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري –رحمه الله- في وقت رفعت فيه بعض الفرق الكلامية رؤوسها “فجحرهم في أقماع السمسم، وكان مؤتما بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، متمسكا بالدلائل العقلية والشواهد السمعية، وإذا تأملت كتب الحديث المتفق على صحتها كموطأ مالك رحمه الله وصحيحي البخاري ومسلم وجدته ناطقا عنهما وناقلا منهما لم يأت برأي ابتدعه ولا مذهب اخترعه، وسبيله في بسط القول في مسائل الأصول كسبيل مالك -رحمه الله- وغيره من الفقهاء فيما بسطوا القول فيه من مسائل الفروع.

وقد أصبح المذهب الأشعري مرجعا أساسا لحفظ عقائد المسلمين، والرد على المحالفين، يقول الإمام القاضي عياض في ترجمته للإمام أبي الحسن الأشعري:” وصنف لأهل السنة التصانيف، وأقام الحجج على إثبات السنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقدم كلامه، وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجج الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة ودفع شبه المبتدعة.

وهناك نص أخر للقاضي عياض يؤكد فيه هذه الحقيقة التي لا تترك مجالا للشك في كون الإمام أبي الحسن الأشعري ظل وفيا لمذاهب أهل السنة والجماعة في مجال الاشتغال العقدي، يتعلمون على يديه أساليب الدفاع عن العقائد الدينية. حتى أصبح مصطلح الأشعرية مرادفا لمصطلح أهل السنة.

يقول القاضي عياض: “… فلما كثرت تواليفه – الإمام الأشعري- وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة، وبسط الحجج والأدلة في نصرة الملة فسموا باسمه وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعرفوا بذلك وإنما كانوا يعرفون قبل ذلك بالمثبتة، سمة عرفتهم بها المعتزلة، إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه… فكذلك أبو الحسن، فأهل السنة من المشرق والمغرب بحججه يحتجون، وعلى منهاجه يذهبون، وقد أثنى عليه غير واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه.

نصرته لعقائد أهل السنة والجماعة

لقد كرس الإمام أبو الحسن الأشعري حياته لنصرة عقائد أهل السنة والجماعة بأدلة عقلية ومنطقية تستند إلى ما قرره الشرع الحكيم. وقد التزم أنه” معتزم إظهار معايب المعتزلة وفضائحهم”

وفي هذا الصدد يقول عبد الرحمن بن خلدون: “وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطرق النقل والعقل ورد على المبتدعة في ذلك كله.

وقد أصبح للمذهب الأشعري السيادة على أتباع المذاهب الفقهية في العالم الإسلامي، وتيسر له الانتشار والانتصار بفضل المذهب الوسطي الذي سلكه صاحب المذهب، فضلا عن اعتناق كبار العلماء لمذهبه من مختلف فروع الثقافة الإسلامية.

وبهذه الوسطية التي أضحت سمة بارزة في المذهب الأشعري استطاع هذا المذهب أن يصمد أمام مختلف التيارات الفكرية التي عرفتها الحياة الإسلامية ووجد طريقه للانتشار بين مختلف أقطار العالم الإسلامي.

إن اعتبار جميع أهل القبلة مسلمين لا يجوز تكفيرهم، وهذا أصل مهم عند الإمام أبي الحسن الأشعري، ثم الإعلان عن تصويب المجتهدين في الفروع، وهو من جو إشهاده على أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة أيضا، إضافة إلى مسألة تكافئ الأدلة التي تعني الاعتراف بقدر من الصواب في كل طرف من الطرفين المتقابلين يصححه التوسط الذي هو أساس المذهب الأشعري يجعل هذا المذهب الذي يمثل قمة التسامح الديني بإعلانه عن هذه المبادئ الأساسية منسجما تماما مع حياتنا الدينية المعاصرة وينفعها أجل النفع.

لقد حظي الإمام أبو الحسن الأشعري – رحمه الله- بتقدير جميع العلماء، من مختلف فروع الثقافة الإسلامية، والمذاهب الفقهية، وذلك لمكانة هذا الإمام المجدد الذي يعتبر بحق رائدا في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي على طريقة أهل السنة.

انتشار المذهب الأشعري

لقد أصبح للمذهب الأشعري السيادة على أتباع المذاهب الفقهية الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي، وتيسر له الانتشار والانتصار بفضل المنهج الوسطي الذي سلكه صاحب المذهب الإمام أبو الحسن الأشعري، فضلا عن اعتناق كبار العلماء له من مختلف فروع الثقافة الإسلامية.

لقد انتشر المذهب الأشعري في مختلف أقطار العالم الإسلامي، فانتشر في العراق في نحو سنة 680هـ ومنه إلى الشام، وفي مصر على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وفي المغرب انتشر المذهب الأشعري على يد عبد الله محمد بن تومرت، وإن كان المغاربة قد عرفوا هذا المذهب السني على عهد المرابطين.

وفي هذا الصدد يقول المقريزي: «فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق في نحو سنة ثمانين وثلاثمائة، وانتقل منه إلى الشام ، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني على هذا المذهب قد نشأ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمد بن زنكي بدمشق وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري وصار يحفظها صغار أولاده فلذلك عقدوا الخناصر وشدوا البنان على مذهب الأشعري وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادى الحال على ذلك جميع الملوك من بني أيوب ثم في أيام مواليهم من الملوك من الأتراك واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم وضع لهم عقيدة تلقفها عنه عامتهم ثم مات فخلفه بعد موته عبد المومن بن علي القيسي وتلقب بأمير المؤمنين وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعده، مدة سنين وتسموا بالموحدين تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت … فكان هذا هو السبب في انتشار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نسي غيره من المذاهب وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات.

وقد اشتهر أئمة المذهب الأشعري باسم “الصفاتية” وهذا المصطلح سيصبح فيما بعد علما على حركة الأشاعرة الذين حملوا لواء هذا الفكر، بعد انحياز الإمام الأشعري إلى طائفة أهل السنة والجماعة على قاعدة كلامية، فأيد مقالاتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهبا لأهل السنة والجماعة، كما أصبح حلقة ذهبية تصل الخلف بالسلف.

أساسيات المذهب الأشعري ومقاصده

يعتبر المذهب الأشعري من أقوى المذاهب الكلامية السنية، باعتباره –كما يستنتج أحد الدارسين- من أقوى مدارس الفكر الفلسفي الإسلامي، تضم أقوى الشخصيات، وتتمتع بأخصب الآراء.

كما يعد هذا المذهب السني الجماعي استئنافا للنظر العقلي المسدد بالشرع، ومؤسسا لمنطق الاعتقاد الإسلامي الذي يستمد مادته من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة كما نستنتج نحن.

نصرة أئمة المذهب الأشعري في مبحث التوحيد لمعتقد السلف الصالح، القائم على الإثبات المفصل والمجمل للصفات على خلاف اتجاهات كلامية أخرى، اختارت النفي مذهبا لها، أو سقطت في أوحال التشبيه والتجسيم.

وقد استعان أئمة المذهب الأشعري بالتأويل بوصفه أداة لتحقيق التنزيه في صورته الشرعية، ضدا على عقيدة التشبيه والتجسيم المرفوضة إسلاميا. كل ذلك في إطار التأويل التفصيلي للنصوص الموهمة للتشبيه، وفي احترام كامل لنصوص الشرع الحكيم.

توسط أئمة المذهب الأشعري في علاقة العقل بالنقل، مع الانتصار لمنطق الشرع، فبعد التسليم بكون العقائد الإيمانية الإسلامية ثابتة شرعا ابتداء، توسل أئمة المذهب الأشعري بالعقل للدفاع عن تلك العقائد، بمقتضى أن السمع لا يوجد المعرفة، بل يوجبها كما يقول الشهرستاني.

خامسا: لقد رفض أئمة المذهب الأشعري تكفير أهل القبلة من المسلمين، ومما أثر عن الإمام الأشعري رحمه الله كما يذكر زاهر بن خالد بن أحمد السرخسي قال: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل هذه القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد وإنما هذا كله اختلاف العبارات.

وهذا المبدأ العقدي أصبح راسخا في المذهب الأشعري، حيث عظم على أئمته رمي خصومهم بالتكفير…ثم إن تحصيل هذا الأصل العقدي – عدم تكفير أهل القبلة من المسلمين- واستيعابه ضروري لمواجهة بعض التيارات الفكرية التي تعيد إنتاج فكر تكفيري تضليلي عدمي من حيث المنهج، تيئيسي من حيث الأبعاد والمضامين.

وقد تميز المذهب الأشعري في مجال الاشتغال العقدي الإسلامي بوسطية تقوم على أساس التوفيق بين المذاهب الكلامية الإسلامية. وقد التزم أئمة المذهب الأشعري هذا المنهج الوسطي التوفيقي في عرض جميع عناصر العقيدة الإسلامية: الإلهيات والنبوات والسمعيات والإمامة العظمى.

لقد أدرك أئمة المذهب الأشعري مكانة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ودورهم في حفظ الشريعة، وأن النيل منهم والطعن فيهم مدخل لهدم الدين من الداخل.

ومن ثم رأينا أئمة المذهب الأشعري يخصصون في آخر مؤلفاتهم العقدية مبحثا مهما لبيان عقيدة أهل السنة في الصحابة، وتدبير الخلاف الذي جرى بينهم، والدعوة إلى فهم ذلك في ضوء نصوص الشرع الحكيم، وفي نطاق استحضار قيم الاختلاف المحمود الناتج عن الاجتهاد الذي وصفوا به جميعهم، على أن الأسلم للدين عدم الخوض في شيء من ذلك. لأنه كما قال بعض المعتبرين:” تلك دماء طهر الله سيوفنا منها، أفلا نطهر ألسنتنا.

من المقرر في المذهب الأشعري أن الإمامة العظمى هي خلافة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة. ومن ثم أوجب أئمة المذهب الأشعري على جميع أفراد الأمة طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه. يقول ابن أبي زيد القيرواني:” … والسمع والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم ».

ويقول الإمام أبو جعفر الطحاوي:” ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو على أحد منهم، ولا ننزع يدا من طلعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزَّ وجلَّ، ما لم يأمروا بمعصية، ندعو لهم بالصلاح والنجاح والمعافاة، ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.

وهذا المعتقد هو الذي أجمع عليه أهل السنة أصحاب الحديث. كما يذكر الإمام الأشعري وينتصر له.

 

د.عبد القادر بطار عضو المجلس العلمي الإقليمي بوجدة بتصرف

الرابط: مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة