النسخة المكتوبة
نص الحديث:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته.» رواه البخاري ومسلم. [1]
في التعريف براوي الحديث الصحابي الجليل (عبد الله بن عمرt):
هو: أبو عبد الرحمن عبد الله ابن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، كان فقيهًا عالمًا زاهدًا، أحد الأعلام، وكان من أهل الورع والعلم، وكان كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، شديد التحري والاحتياط والتوقي في فتواه، قال ابن الحنفية: كان خير هذه الأمة، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، وهو من أهل بيعة الرضوان، استصغر يوم أحد؛ لأن سنه كان ثلاث عشرة فمولده قبل الوحي بسنة،
وهو أحد العبادلة الأربعة: عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وهو من المكثرين من الصحابة في الرواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مات بمكة سنة 73 هـ[2]
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفا حديث وستمائة وثلاثون”2630″ حديثًا اتفق البخاري ومسلم على مائة وثمانية وستين حديثًا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين، روى عنه أولاده وأحفاده ومولاه نافع وأكثر عنه وخلق كثير من التابعين.
ولعبد الله بن عمر فضائل شهيرة ومناقب كثيرة، وكان صوّامًا قوّامًا متواضعًا بكّاءً خشاعًا، لا يأكل حتى يُؤتى بمسكين فيأكل معه، لم تَمِلْ به الدنيا، وكان إذا أعجبه شيء من ماله قربه لربه، وكان رقيقه يتزينون له بالعبادة وملازمة المسجد، فيعتقهم فيقول له أصحابه: ما بهم إلَّا خديعتك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له.[3]
شرح الحديث:
هذا الحديث من جوامع كلمه r ، وهو أصل في وجوب قيام كل فرد من المجتمع بما أنيط به من مسؤوليات؛
قوله r :”كلكم راعٍ“: “الرِّعَايَة: صونٌ بالعناية”[4]: أَيْ حِفْظٌ بِالِاعْتِنَاءِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ الشَّيْءِ الَّذِي يَرْعَاهُ[5]، وهي التَّعَهُّد وحُسنِ الرِّعايةِ، والاهتمام، والحفظ، والتفقد، وهي نقيض الإهمال والتضييع، والمقصود: “المحافظة على أمر الدين والدنيا.”[6]
فالراعي «ليس مطلوبا لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه، وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه، فإنه أَجْمَلَ أولا ثم فصَّل وأتى بحرف التنبيه مكررا،»[7]
قوله r :”«وكلكم مسؤول عن رعيته»: أي: سيسأل الله جل في علاه كل إنسان عن الأمانة التي أُوكلت إليه، هل رعاها حق رعايتها أم ضيعها وأهملها؟ وعن الأشخاص الذين كانوا تحت مسؤوليته: هل قام بحقهم؟ هل ظلمهم؟ هل أهملهم؟
قوله r :”«الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته»:
الإمام أو الحاكم مسؤول عن إدارة شؤون الدولة ورعاية مصالح الناس. وولاية أمور الرعية، والحياطة من ورائهم وتدبير شؤون الدين وأحكام الشرع فيهم. ويجب عليه أن يحكم بالعدل، ويحفظ الحقوق، ويمنع الظلم.
يقال: رعى الأميرُ القومَ رعايةً فهو راع؛ أي: قام بإصلاح ما يتولاه، وهم رعيةٌ فَعِيلة بمعنى مفعول، ودخلت التاء لغلبة الاسمية. «والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه.»[8] فإن أحسن الرعاية ووفى ما عليه «حصل له الحظ الأوفر، والجزاء الأكبر، وإلاَّ طالبه كل واحد من رعيته في الآخرة بحقه.»[9].
والمراد أن الله سيَسأل يوم القيامة كل حاكم أَعَدَلَ في رعاية أمر رعيته أم لا؟ وقد ورد في الحديث “ما مِن والٍ يلي رعيةً مِن المسلمينَ، فيموتُ وهو غاشٌّ لهم إلا حرَّمَ الله عليهِ الجنةَ”[10]. أي: إن خان أو ظلم ولم يعطهم حقوقهم، أو اغتصب منهم ما لا يحق له، حرَّم الله عليه الجنة.
قوله r :”«الرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته»:
الزوج أو الأب أو رب الأسرة مسؤول عن أهله: زوجته وأولاده وكل من يعول، ويجب عليه القيام بشؤونهم، وتوفيتهم حقهم في النفقة والكسوة وحسن العشرة، والسياسة لأمرهم، ويطالب بأن ينفق عليهم، ويربيهم، ويوجههم للخير، ويقيهم من الفساد. قال تعالى:]وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[[طه:132]. وقال جل جلاله:]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً[ [مريم:54 – 55].
فمن حقوق الأهل والأولاد: العناية بتربيتهم وتنشئتهم تنشئة دينية وأخلاقية، وتعليمهم أمور عقيدتهم الصحيحة، وفرائض الدين، وتربيتهم على الثقة بالله، ومراقبته في السر والعلن: وتحفيظهم: “الله معي الله، شاهدي، الله ناظر إلي”.
وبعد بذل الجهد يجب التضرع إلى الله تعالى:]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ[ [إبراهيم: 40]. وأن يجأر المؤمن إلى مولاه ]رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[ [الفرقان: 74]. والغاية والقصد صناعة جيل عالي الهمة، ملتزم بدينه وعقيدته، محب لوطنه وأمته، ذاب ومنافح عن عرضه وأرضه.
لا مناص من قيام الزوج بالمنوط به حتى لا تضيع الأجيال، ويتيتم الأطفال وآباؤهم أحياء، ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
ليس اليتيمُ مَنِ انتهى أبواه من … همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلَا
إن اليتيمَ هو الذي تَلقَى له … أمًّا تخلَّت أو أبًا مَشغولَا
قوله r :”«المرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»:
الزوجة مسؤولة عن تدبير شؤون الأسرة، وتربية الأبناء، وصيانة مال الزوج، وهي ليست أقل مسؤولية من الرجل، بل هي شريكة في تدبير مؤسسة الأسرة. وهي راعية في بيت زوجها، ورعايتها حسنُ التدبير في ذلك، وخدمة أضيافه والتعهد لمن تحت يدها من عياله وخدمه…
قوله r :”«الخادم راعٍ في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته»:
لم يستثن الخادم من المسؤولية فهو راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، وهو مسؤول عن الأمانة التي أوكِلت إليه.
ويحفظ «ما في يده من مال سيده والنصيحة له فيه، والقيام بما استكفاه من شغل وخدمة.»[11]
وعموما كل عامل أو أجير يجب أن يحافظ على مال صاحب العمل ولا يخونه. وعليه النصيحة له فيه، والقيام بما استكفاه من شغل وخدمة. فالموظفون عموما مسؤولون: المعلمون، والقضاة والأطباء، وكذا التجار والصناع والقيمون الدينيون.
ويجب أن يعلم الجميع أن الوظيفة تجمع: أولا: حق الله تبارك وتعالى، ثانيا: حق ولي الأمر بالسمع والطاعة والقيام بالمهام المنوطة بالمسؤول، وثالثا: حقوق المسلمين، وخدمتهم والقيام بشؤونهم ورعاية مصالحهم.
قوله r :”في رواية «الابن راعٍ في مال والده وهو مسؤول عن رعيته»:
ورد في رواية: «قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: (وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ ومسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ ومسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ).»[12]
فالولد مؤتمن على مال أبيه «يستثمره وينميه، ويحفظه ويرعاه، فلا يبذره تبذيرا، ويبدده تبديدا، ولا يخونه فيه بالسرقة أو الاغتصاب، أو الكذب عليه في الحساب.»[13]
خاتمة:
إن هذا الحديث يبين لنا أن الأسرة نواة المجتمع، والعناية بها مسؤولية جميع مكوناتها. فالإسلام يحمّل كل فرد مسؤولية ما تحت يده، ولا يعفي ولا يستثني أحدًا. وأن قيام البيت بالرجل والمرأة معا وبقيام الأسرة يقوم المجتمع، وأن الجميع مسؤولون أمام الله تعالى، وأن كل راعٍ سيحاسَب على رعيته، فلا مجال للتهاون أو التهرب من المسؤولية. قال تعالى: ]وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[ [التوبة: 105]. فليعد كل واحد منا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
هذا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجمعة: الجمعة في القرى والمدن 2/ 380 ح 893 وأطرافه في: 2409، 2554، 2558، 2751، 5188، 5200، 7138. ومسلم في: كتاب الإمارة: باب فضيلة الإمام العادل 3/ 1459 – 1460 ح 20 – (1829).
[2] انظر شجرة النور الزكية في طبقات المالكية2/108
[3] الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 459)
[4] منازل السائرين ص:37
[5] مدارج السالكين (2/ 62)
[6] الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري (3/ 20)
[7] فتح الباري لابن حجر (13/ 113)
[8] فتح الباري لابن حجر (13/ 112)
[9] إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري (2/ 167)
[10] صحيح البخاري كتاب الأحكام بَاب: مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً فَلَمْ يَنْصَحْ
[11] أعلام الحديث (1/ 579-580)
[12] صحيح البخاري كتاب الجمعة بَاب: الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدُنِ
[13] الأدب النبوي ص:50
شاهد أيضا
القواعد الفقهية مصطلحات ومفاهيم – ذ. محمد والسو
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تجليات الحياة الطيبة من خلال السيرة النبوية -مشهد غزوة أحد-1- ذ. المصطفى زمهنى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدين و التدين – ذ. محمد درقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثقافة الإمام -5- ذ. إبراهيم الوجاجي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.