أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة، مقالة بمجلة دعوة الحق، كتبها الأستاذ عبد الحميد ازمير: إمام مرشد بالمجلس العلمي المحلي لأزيلال؛ ضمن مقالات العدد 450 بتاريخ ذو القعدة 1446/ أبريل 2025
أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة
ذ. عبد الحميد ازمير
إن من الأهداف الكبيرة التي جاء من أجلها مشروع خطة تسديد التبليغ الذي يقوده العلماء تحت القيادة الرشيدة لمولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، هو تخليق الحياة العامة، بمعنى أن تكون حياة الناس ومعاملاتهم اليومية كلها مبنية على أخلاق الدين السمحة، ولا يكون ذلك إلا من خلال تقريب الشقة الكبيرة التي حدثت بين الدين والتدين، أو بين المدنية والقيم الإسلامية الأصيلة، والناظر في مراجع خطة تسديد التبليغ سيجد هذا المقصد حاضرا وبقوة، وإن كان ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو هدف وفي الآن نفسه وسيلة لتحقيق الحياة الطيبة التي هي مبتغى كل إنسان، بله كل مؤمن، بيد أن تخليق الحياة العامة لا يكون بأية وسيلة كانت، وإنما يكون بالطرائق المنهجية الصحيحة التي استنبطها العلماء من سير الأنبياء والصالحين.
وأما أهمية موضوع تخليق الحياة العامة فلا تخفى على أي باحث بله العلماء، ويكفي إيماء لتلك الأهمية أن نشير إلى أن أربعة دروس حسنية على الأقل في عهد مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله قد خصصت لهذا الموضوع وحده، وهي: أولا: «القدوة الحسنة وأثرها في تخليق الحياة العامة» من إلقاء الدكتور محمد جميل مبارك، ثانيا: «خطبة الجمعة ودورها في تخليق الحياة العامة» من إلقاء الدكتور محمد المصلح، ثالثا: «استثمار قيم الدين في نموذج التنمية» من إلقاء معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق، رابعا: «المجتمع المدني في خدمة القيم الدينية» من إلقاء الدكتور محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى. وعليه فليس من المستغرب أن نجد العلماء قد اعتنوا بهذا الموضوع في مشروع خطة تسديد التبليغ اعتناء بالغا.
وانطلاقا من أهمية هذا الموضوع وما يثيره من إشكالات علمية وعملية نفصح عن جوهر الإشكالية التي سيعالجها هذا المقال في الصيغة التالية: إلى أي حد اهتم مشروع خطة تسديد التبليغ بموضوع تخليق الحياة العامة؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية عديدة من قبيل: ما مفهوم تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ؟ وما هي المسالك التي توسل بها القائمون على هذا المشروع الرائد لتحقيق هذا الهدف؟ وما علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموضوع تخليق الحياة العامة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الجزئية التي سيأتي الجواب عنها في هذا المقال، على أن نتوسل لتحقيق هذا الهدف بمنهجين أساسيين وهما: المنهج الوصفي، ثم المنهج الاستقرائي، قصد دراسة واستقراء أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة من خلال الوثائق المرجعية لهذا المشروع.
ومن أجل الجواب عن الإشكالية السابقة وكذا الأسئلة الفرعية عنها، سنبسط الكلام عن هذا الموضوع في مقدمة وثلاثة مطالب وخاتمة. المطلب الأول نخصصه لمجموعة من المفاهيم المركزية في المقال، أما المطلب الثاني فنخصصه لعرض أهم مسالك تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، وأما المطلب الثالث فنفصل الكلام فيه حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره طريقا لتخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، وأما الخاتمة فنوجز الكلام فيها عن أبرز النتائج التي تم التوصل إليها من خلال هذا المقال.
المطلب الأول: المدخل المفاهيمي للموضوع
إن القضية الكبرى التي نريد أن نقف عندها في هذا المقال هي مدى حضور مقصد تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، ومدى علاقة ذلك بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أصل لها القرآن الكريم، وفصلتها السنة النبوية الشريفة، ثم رصد أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة، وللوقوف على هذا كله لابد من إبراز المقصود بمجموعة من المصطلحات ذات الارتباط بموضوع المقال، مع بيان مفاهيمها، وهي: مفهوم مشروع تسديد التبليغ، ومفهوم تخليق الحياة العامة، وفيما يلي تفصيل لهذين المصطلحين المكونين لعنوان المقال.
أولا: مفهوم مشروع خطة تسديد التبليغ
المقصود بمشروع خطة تسديد التبليغ هو ذلك المشروع الإصلاحي الذي ابتكرته مؤسسة العلماء في المملكة المغربية الشريفة برعاية أمير المؤمنين حفظه الله تعالى، وذلك من أجل تقريب الشقة بين الدين والتدين؛ أو «تجسير الهوة بين الحياة المدنية والقيم الإسلامية» قصد تحقيق الحياة الطيبة للمؤمنين والمؤمنات كما وعدهم الله تعالى بذلك في القرآن الكريم، وقد انطلق هذا المشروع في يوم الجمعة 28 يونيو 2024م في مرحلة تجريبية، وكان لي شرف المشاركة في هذه المرحلة، على أمل نيل ذات الشرف في مرحلته الثانية إن شاء الله تعالى.
هذا عن مفهوم مشروع خطة تسديد التبليغ بصفة عامة، وأما إذا أردنا أن نتعمق في أهدافه الكبرى فسنجد أنه مشروع إصلاحي بامتياز، يروم إصلاح الحياة العامة من داخل المؤسسة العلمية التي هي مؤسسة العلماء، والتي يمثلها المجلس العلمي الأعلى، ومما يؤكد قصدية حضور هذا المعنى تلكم الندوة العلمية التي نظمها المجلس العلمي الأعلى في موضوع: [العلماء ورسالة الإصلاح في المغرب الحديث] وهذا يؤكد أن مؤسسة المجلس العلمي الأعلى تسعى من خلال مشروع خطة تسديد التبليغ أن تقود مشروعا إصلاحيا شاملا، فقد جاء في أرضية هذه الندوة: «اهتدت المؤسسة العلمية بعد نظر ومدارسة، وبتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى خطة إصلاحية أطلق عليها [خطة تسديد التبليغ]». كما أكد المجلس العلمي الأعلى في كتاب سبيل العلماء الذي يعبر عن منهج المؤسسة العلمية في التبليغ أن مشروعها التنزيلي «يقصد به مشروعها الإصلاحي» الذي تستهدف به المجتمع، وأن «أُفُقُهَا الارتقاء بالصلاح في المجتمع كل من زاويته».
ثانيا: مفهوم تخليق الحياة العامة
التخليق مشتق من فعل خَلَقَ، ويطلق في أصله على معنيين، قال ابن فارس: «الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملاسة الشيء» فالخَلْق إذا كان من الله تعالى فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وإذا كان من الإنسان فهو إخراج الشيء من الموجود، والخُلُق بسكون اللام وضمها: السجية، والأخلاق نوعان: مذمومة ومحمودة، وتطلق غالبا إما مقيدة بالحَسَن أو السَّيِّء، ومن ذلك قوله ﷺ: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق»، وقوله ﷺ: «خيركم إسلاما أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا».
هذا من حيث المدلول اللغوي، أما من حيث المدلول الاصطلاحي فيطلق مصطلح تخليق الحياة العامة في الفكر القانوني والإداري والحقوقي على محاربة الفساد والرشوة والوقاية منهما في الإدارة على وجه الخصوص، ومن ذلك ما جاء في الفصل 167 من دستور م2011: «تتولى الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، المحدثة بموجب الفصل 36 على الخصوص، مهام المبادرة والتنسيق والإشراف،
وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي نشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة». فمن خلال هذا الفصل يتضح بأن تخليق الحياة العامة يتحقق بمحاربة الفساد والرشوة والوقاية منهما في المجال الإداري على وجه الخصوص.
بيد أن مفهوم تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ أعم وأوسع؛ لكونه يشمل جميع قطاعات الحياة المشمولة بمفهوم التدين، وعليه فالمقصود بتخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ هو إفشاء التعامل بالأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة والإيثار والشكر والصبر وغيرها في حياة الناس جميعا، سواء في الإدارة أو في المسجد أو في السوق أو في الطريق أو في غيرها من المرافق العمومية التي يحدث فيها التعامل بين الناس، بل إن تخليق الحياة العامة يشمل كذلك الشروط الضرورية والظروف المساعدة على فعالية أكبر لوازع القرآن الذي يستخدمه العلماء لتوفير الحياة الكريمة للمواطن، ويتضح هذا المعنى جليا من خلال ربط العلماء بين الشروط الخارجية للتخليق والمتمثلة أساسا في تحسين الحاجة المادية والمعيشية للإنسان وبين تخليق الحياة العامة، لوجود العلاقة في التراث الإسلامي بين الفقر والحاجة وبين السلوك الإنساني، ولذلك نرى القائمين على مشروع خطة تسديد التبليغ يخصصون خطبا عديدة للزكاة وللإنفاق وللإحسان في سبيل الله، وبالمقابل يحذرون من الإسراف لأنه يحرم بعض الناس من حقهم في الحد الأدنى من العيش الكريم، كما أنهم يباركون كل سياسة تسعى للتنمية ولمحاربة الفقر والحاجة.
المطلب الثاني: مسالك تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ
إن المستقرئ للوثائق المرجعية لمشروع خطة تسديد التبليغ سيجد أن من أهدافه الكبرى تخليق حياة الإنسان بصفة عامة، وتخليق الحياة العامة بصفة خاصة، ويتضح ذلك جليا من خلال مجموعة من العناوين التي وردت فيها بهذه العبارة: «تخليق الدين للحياة»، «شمول العبادة لحياة الإنسان» وغيرهما من العناوين التي يجدها القارئ مفصحة عن هذا المقصد بعبارة جلية، بيد أن تخليق الحياة العامة ليس هدفا ومقصدا في حد ذاته، ولكنه وسيلة لهدف أسمى، وهو الذي جاء من أجله أساسا مشروع خطة تسديد التبليغ ألا وهو: «تحقيق السعادة باعتبارها هدفا للتبليغ، ومطلبا لكل إنسان». ولذا فإن القائمين على المشروع ارتأوا اختيار المصطلح القرآني: «الحياة الطيبة» بدل المصطلح الفلسفي: «السعادة» ولا يخفى ما في هذا الانتقاء من تحديد مرجعية الخطة منذ البداية، ولا شك أن هذا الانتقاء يومئ إلى المقاصد الحسنة لهذه الخطة، وإبعاد حظوظ النفس عنها، بل هي في النهاية عبارة عن ربط الناس بالقرآن الكريم، وبدينهم القويم.
وقد أخذ موضوع تخليق الحياة العامة مساحة كبيرة في الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ، ما يدل دلالة واضحة على أهميته ومركزيته في هذا المشروع، ولذلك نجد العلماء الذين قاموا بصياغة هذه الوثائق لم يكتفوا بالدعوة لهذا الموضوع فقط، وإنما وضعوا مجموعة من الوسائل التي من شأنها أن تحقق هذا الهدف الوَسَلِي النبيل، والذي من أجله جاءت الشرائع السماوية كلها.
هذا وإذا كان تخليق الحياة العامة هدفا من أهداف خطة تسديد التبليغ؛ إذ به تتحقق الحياة الطيبة، فلابد للوصول لهذه الغاية من وسائل ومسالك توصل لهذا الهدف، فمن المعلوم أن لكل مقصد وسيلة أو وسائل، ولما كان مشروع خطة تسديد التبليغ يقوم أساسا على البيان والبلاغ، ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء في وظيفة البلاغ، وهم في الآن نفسه ورثة الأنبياء في منهجية التبليغ كذلك، عملا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾ وعملا بقول الله تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ﴾ ووعيا بهذا الملحظ فقد اتخذ العلماء في مشروع خطة تسديد التبليغ مسالك متعددة لتحقيق الحياة الطيبة، ولتخليق الحياة العامة على وجه الخصوص، ويمكن أن نذكر من تلكم الوسائل والمسالك ما يلي:
أولا: مسلك تصحيح المفاهيم
إن من أهم الآليات التي توسل بها القائمون على مشروع تسديد التبليغ من أجل إيصال هذه الخطة إلى عموم الناس، ومن أجل تخليق الحياة العامة على وجه الخصوص، مسلك تصحيح المفاهيم، وذلك عن طريق «ضمان التعريف الصحيح بالدين أحكاما ومقاصد ومنهجا في التنزيل» ذلك أن من المعلوم أن أي خطأ في السلوك الإنساني فإنما يرجع أصله إلى خطأ في التصور وفي المفهوم الحاصل في الذهن، ولذا فقد ارتأى القائمون على هذه الخطة المباركة البدء بتصحيح المفاهيم، ومن أهمها: مفهوم الدين والتدين، ومفهوم الإيمان، ومفهوم العبادة، ومفهوم الحياة الطيبة، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من المفاهيم التي سيلاحظها أي مطلع على الوثائق المرجعية لهذه الخطة،وفيما يلي نظرة موجزة عن بعض المفاهيم المركزية التي لها علاقة بموضوع هذا المقال.
أ/ مفهوم الدين والتدين
لعل من المفاهيم المركزية في خطة تسديد التبليغ مفهوم الدين والتدين، حيث عمدت هذه الخطة إلى تقديم المفهوم الصحيح لهاذين المصطلحين المهمين، كما دعت إلى: «ضرورة التمييز بين الدين والتدين» حيث إن عدم التمييز بين هاذين المصطلحين يؤدي إلى نتائج سيئة، من قبيل ملاحظة حظ النفس، والاستكبار على الناس، والتبديع والتفسيق والتكفير، وبالمقابل فإن التمييز بين الدين والتدين، وخلع المفهوم الصحيح على كل واحد من المصطلحين ينتج ثمرات إيجابية، وتلك الثمرات لا تقتصر على حياة الفرد فقط، وإنما تتعداه إلى الحياة العامة، وذلك من خلال .«حفظ الأمن والنظام، وإقامة العدل، والوفاء بالحقوق، والتعاون على البر والتقوى». كما يساهم هذا التمييز في الالتزام الفردي والالتزام الجماعي كذلك بقيم الدين السمحة.
ب/ مفهوم العبادة وشمولها للحياة
يظن كثير من الناس أن العبادة مقتصرة على الشعائر الدينية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وقراءة القرآن والذكر... فقط، وهذا مفهوم قاصر، فالمفهوم الصحيح للعبادة أنها تشمل الحياة كلها، بل التصور الصحيح يقتضي أن نعتبر «العبادة برنامج تدبير حياة الإنسان»؛ ولهذا فقد حرصت خطة تسديد التبليغ على تصحيح هذا المفهوم لدى الناس، وأن العبادة ليست مقصودة في حد ذاتها، وإنما هي في الحقيقة وسيلة لتحقيق مجموعة من الثمرات، مصداقا لقول الله تعالى:﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَابْتَغُوٓاْ إِلَيْهِ اِ۬لْوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِے سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ﴾ والوسيلة هي القربة والعبادة كما قال جماعة من المفسرين، ومن هنا ندرك أن العبادة في الحقيقة ما هي إلا وسيلة لمقاصد وثمرات، وهذه الثمرات ينبغي أن تتجلى على مستوى المعاملات، ذلك أن صحة المعاملة هي التي تُصَدِّق العبادة، كما أن العبادة هي التي تصدق الإيمان، فصحة المعاملة من علامة قبول العبادة، «فالعبادة إذن شاملة لحياة الإنسان، وكل شؤونه الفردية والجماعية».
وأما علاقة تصحيح هذا المفهوم بموضوع مقالنا وهو تخليق الحياة العامة فواضح وجلي، ذلك أن اعتبار شمول العبادة لكل الحياة، من شأنه أن يسهم في تخليق الحياة العامة، وبالتالي فإن ذلك سيؤدي إلى سلامة المجتمع من الآفات، وإلى إخلاص الناس في المعاملات، كما أنه سيجلب التعاون والخير ويعين على أداء الأمانات.
ج/ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من المفاهيم التي حاولت خطة تسديد التبليغ أن تصححها للناس، مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أن الناس يدركون جيدا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التكاليف الشرعية الفردية والجماعية، انطلاقا من قول الله تعالى مخاطبا الأمة المحمدية: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ا۟خْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِۖ وَلَوَ اٰمَنَ أَهْلُ اُ۬لْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْراٗ لَّهُمۖ مِّنْهُمُ اُ۬لْمُومِنُونَۖ وَأَكْثَرُهُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ ﴾ فأفادت هذه الآية أن استحقاق الخيرية مرهون بشرطين: الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كثيرا من الناس لا يعرف أولا ما معنى المعروف وما معنى المنكر، ولا فقه أداء هذه المهمة ومنهجها، ولا مراتبها، كما أن كثيرا من الناس يغفلون عن معنى مهم، وهو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمات الإمام أو الدولة بأجهزتها متى تعلق الأمر بالتغيير باليد.
وانطلاقا من الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ نتلمس ملامح مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من شأن الجماعة وليس من شأن الأفراد، وخاصة الجانب المتعلق بالتغيير سواء باليد، وقد أصبح في ظل الدولة الحديثة مقتصرا على المؤسسات المؤتمرة بالقانون، أو باللسان وهذا منوط بالعلماء أصحاب الاختصاص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يتحقق في حياة المسلمين اليوم بإقامة القوانين التي هي تفصيل لمقاصد الشرع ومصالحه، كما أن مقتضيات القانون هي التي أصبحت تنظم جانبا كبيرا مما يدخل في مسمى المعروف والمنكر، وسيأتي مزيد من التفصيل لعلاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموضوع تخليق الحياة العامة في المطلب الثالث.
ونخلص من خلال الأمثلة الثلاثة السابقة إلى أن مشروع خطة تسديد التبليغ قد اهتم اهتماما كبيرا بموضوع تصحيح المفاهيم، بل إن ذلك يعد من الركائز الأساسية في هذه الخطة، ولا غرابة في ذلك وموضوع التبليغ يقوم أساسا على البيان الصحيح والسديد، وهم في ذلك إنما طبقوا وراثة العلماء لوظيفة النبي ﷺ، وهي وظيفة قد اهتمت بتصحيح المفاهيم كثيرا.
ثانيا: مسلك تسديد مناهج التبليغ
إن من الوظائف الكبرى للنبي ﷺ وظيفة التبليغ والبيان، اللذين بهما تكون هداية الإنسان، قال الله تعالى: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَٰتِهِۦۖ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَ۬لنَّاسِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْكٰ۪فِرِينَۖ ﴾ وجدير بالذكر أن الله تعالى لم يكتف بإيجاب التبليغ على النبي ﷺ فقط، وإنما أوجب عليه كذلك منهج التبليغ، فقال تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾، والعلماء ورثة الأنبياء في التبليغ وفي طريقة التبليغ كذلك، ذلك أن التأسي بالنبي ﷺ يقتضي: «أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل» فلا يكفي أن نفعل مثل ما فعل فقط.
ووعيا من العلماء بأهمية تجديد منهج التبليغ، فقد وضعوا خطة سموها: «خطة تسديد التبليغ» وتومئ كلمة التسديد التي تعني في اللغة الصواب من القول والعمل إلى أن العلماء قد قاموا بنقد ذاتي لمهمتهم المتمثلة في التبليغ، أو نقول على الأقل قد قاموا بدراسة «أبرز عوائق الاستجابة للإصلاح» الذي تقوده المؤسسة العلمية والدينية، فوجدوا أنها ترجع إلى أحد أمرين أو إليهما معا: إما للمبلِّغين من علماء وقيمين دينيين، أو لمنهج التبليغ نفسه، وهو ما جعلهم يطلقون خطة تسديد التبليغ، والتي تهدف إلى تجاوز العوائق السابقة، وفيما يلي تفصيل لهاتين الآليتين:
أ/ مسلك تكوين المُبَلِّغِين
يعتبر تكوين المبلغين من أهم مداخل الإصلاح في المجال الديني، بل التكوين من أهم مداخل تجويد العمل في كل المجالات، وليس المجال الديني فحسب، ووعيا من المؤسسة العلمية بهذه الأهمية فقد أصدرت بالتنسيق مع وزارة الوقاف والشؤون الإسلامية مجموعة من الدلائل المرجعية التي تشرح مشروع خطة تسديد التبليغ بتفصيل، كما أنها قامت بتقديم مجموعة من الدورات التكوينية لكافة الفاعلين في الحقل الديني، بدءا من رؤساء المجالس العلمية المحلية، ثم أعضاء المجالس العلمية، والمرشدين والمرشدات، والوعاظ والواعظات، وصولا إلى الأئمة والخطباء.
وعلى العموم فالمبلغ مطلوب منه أن يكون ملما بمجموعة من المؤهلات العلمية، وهي: المؤهل الشرعي، والمؤهل الواقعي، والمؤهل النفسي، ثم المؤهل المهاري التواصلي، ومن شأن المبلغ الذي توفر على هذه المؤهلات الأربعة أن ينتج خطابا دينيا سديدا، وتبقى بعد ذلك الاستجابة مرهونة بأمور أخرى، قد تكون خارجة عن قدرة الإنسان، كالهداية التوفيقية أو الرزق، فالاستجابة للنور المحمدي رزق من الأرزاق.
ب/ مسلك تسديد منهج التبليغ
لقد سبقت الإشارة إلى أن للتبليغ جانبين اثنين: الأول تبليغ ما بلغه النبي محمد ﷺ، والثاني: تبليغ ما بلغه النبي ﷺ بالطريقة التي بلغه بها، فلابد إذن من فهم مادة التبليغ فهما صحيحا، وهذا إنما يكون عن طريق دراسة العلوم الشرعية والعلوم الخادمة لها، وأما منهج التبليغ فإنما يدرك عن طريق الاستنباط والملاحظة لسير الأنبياء والعلماء، مع التمكن من العلوم الحديثة التي تعين على إدراك الواقع والسياق المحيط بواقع التبليغ.
وقد حاول المجلس العلمي الأعلى أن يبرز هذا المنهج المتبع في التبليغ من خلال كتاب: [سبيل العلماء] وتشير كلمة السبيل إلى الطريق والمنهج، أي منهج العلماء في تبليغ الدين، وإنما اختار المجلس العلمي الأعلى كلمة: [سبيل] اقتباسا من قول الله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾. وهو ما يمكن معه القول بأن علماء المملكة المغربية يتميزون بهذه السمة المميزة، وهي اختيار المصطلحات القرآنية بدقة وعناية فائقة.
ثالثا: مسلك خطبة الجمعة والموعظة الحسنة
تعتبر خطبة الجمعة من أهم الوسائل الإعلامية في الشريعة الإسلامية، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إنها أهم وأبلغ وسيلة إعلامية في الدول الإسلامية، وبالتالي فإن استثمار هذه الوسيلة سيساعد بلا شك في تخليق الحياة العامة، ونظرا لهذه الأهمية فقد بدأت المؤسسة العلمية نشر خطة تسديد التبليغ انطلاقا من خطبة الجمعة، مع ما يتبعها من الشرح والتفصيل من خلال الدروس الوعظية، وأما إذا استقرينا عناوين خطب الجمعة التي سبقت سواء في موضوع الإيمان أو في موضوع العمل الصالح فسنجد أغلبها يهدف إلى تخليق الحياة العامة، وذلك عن طريق نشر القيم الإسلامية وجعلها أساس التعامل في حياة الناس.
وعليه نخلص إلى أن العلماء قد وضعوا مجموعة من الوسائل والمسالك التي تهدف إلى تخليق الحياة العامة، بيد أن من أهم الوسائل التي تميزت بها الشريعة الإسلامية هي آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فيمكن اعتباره طريقا من طرق تخليق الحياة العامة، وهذا ما سنتعرف عليه في المطلب الموالي.
المطلب الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق لتخليق الحياة العامة
لقد سبق الحديث فيما قبل أن تخليق الحياة العامة من الموضوعات المركزية في مشروع خطة تسديد التبليغ، وذلك لما لهذا الموضوع من علاقة وطيدة بتحقيق الحياة الطيبة في حياة الناس، إذ لا يمكن أن تتحقق الحياة الطيبة للأفراد إذا لم يتم تخليق الحياة العامة، نظرا للعلاقة الجدلية بين الفرد والجماعة، فالجماعة تتأثر بالأفراد، كما الأفراد يتأثرون بالجماعة أو بالمجتمع باصطلاح علماء الاجتماع.
ثم إن تخليق الحياة العامة له مجموعة من الطرق والمسالك، ولعل من أهمها وأكثرها ميزة في التراث الإسلامي ما يسمى ب: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فقد اعتبر القرآن الكريم هذه الوظيفة من سمات «خير أمة أخرجت للناس» بتعبير القرآن الكريم، أو «الأمة النموذجية» بتعبير المجلس العلمي الأعلى، أو «المدينة الفاضلة» بتعبير الفلاسفة، ونظرا لأن مشروع خطة تسديد التبليغ مشروع إصلاحي بامتياز كما سبق بيان ذلك، فقد نَظَّم القائمون على الخطة هذه الآلية تنظيما محكما، بدءا من إعادة بناء مفهومه الصحيح، وبيان مراجعه وصوره ومراتبه، «مما يعطي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دلالات مختلفة تؤول إلى معنى الحرص على تحقيق كمال التدين إيمانا وعملا صالحا في خاصة النفس، وتواصيا لتحقيقه في الغير».
بل إن المجلس العلمي الأعلى يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الصحيح هو المقياس الذي يجب على العلماء أن ينبهوا الناس عليه، وأن يعلموهم كيفية قياس جودة عباداتهم به، وأن يستعملوه مؤشرا للتقويم الذاتي، ومحاسبة النفس؛ لمعرفة مدى انتمائهم للأمة، ومدى تقصيرهم في حقوقها عليهم، وبهذا يكون الإسلام هو النموذج الأمثل الذي يدعو إلى العمل الصالح والحياة الطيبة.
هذا وتجدر الإشارة إلى أمرين مهمين قد نبهت عليهما الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ وهما:
الأمر الأول: علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوانين الحديثة المنظمة لشؤون حياة الأفراد والجماعات، فقد قرر العلماء بأن كل ما يدخل في القانون أمرا ونهيا ينسحب عليه وصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ما أمر به القانون فهو من المعروف ويجب العمل بمقتضاه، وما كان مشكلا منه يرجع الحسم فيه إلى الإمامة العظمى، باعتبار أن قرار الإمام يحسم الخلاف كما هو مقرر في التشريع الإسلامي، وبالمقابل فما نهى عنه القانون يجب تركه شرعا لأنه منكر، ويجد هذا القول سنده في قول النبي ﷺ: «من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف».
وهذا الحديث يفيد أن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريقة تطبيقه وتنزيله خاضع بدوره للعرف وللمعروف في كل زمان ومكان، وإن كان «المرجع فيما هو معروف وما هو منكر هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».
ويمكن القول بحق أن هذا الاجتهاد الذي قام به المجلس العلمي الأعلى لتحرير مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان صوره ومراتبه يعد اجتهادا منقطع النظير في هذه الأزمنة، على اعتبار أن كثيرا من العلماء المعاصرين يدعون للتجديد، لكن ذلك يبقى حبيس التنظير فقط، أما المجلس العلمي الأعلى فيمارس التجديد بالفعل وليس بالتنظير له فقط، كما أنه يمارس التجديد من داخل المؤسسات الرسمية، ما يعني أن ذلك سيجد طريقه للتطبيق والتفعيل.
الأمر الثاني: مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن المجلس العلمي الأعلى قرر بداية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «من أمر الأمة وليس من شأن الأفراد». بدليل التعبير عنه بالأمر، وبناء على هذا فهم سائرون على ما درج عليه العلماء من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفروض الكفائية، يقول الإمام الشاطبي: «وجامعها (أي جامع أنواع فروض الكفايات) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به». ولذلك فقد قرر المجلس العلمي الأعلى أن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمات الإمام (الدولة الحديثة بأجهزتها)» وهذا من صميم فقه النص وفقه الواقع؛ ذلك أن الدولة الحديثة التي نعيش في ظلها قائمة على المؤسسات، ومعلوم أن المؤسسات لا ينتظم أمرها إلا بالقانون، وقد أصبح الناس لا يقبلون الائتمار إلا للمؤسسات وللقانون، وهذا معروف بالحس والمشاهدة.
وبناء على هذا الفهم الدقيق فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاث مراتب، أخذا من قول النبي ﷺ: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وتختلف كل مرتبة عن أخرى من هذه المراتب الثلاثة، من حيث جهة الاختصاص، وطريقة التطبيق، ومقاصد التنزيل.
المرتبة الأولى: النهي عن المنكر بوازع السلطان
وهذه المرتبة من اختصاص الإمام، وعليه فلا يجوز الافتيات عليه فيها، وأما كيفية تطبيق هذه المرتبة فتتم عن طريق المؤسسات المختلفة، والتي تضطلع بمهمة إنفاذ القانون بتعبير العصر، كمؤسسة القضاء، ومؤسسة الأمن والشرطة، ومؤسسة الجيش، ومؤسسة الحكومة المكلفة بالتدبير وتنفيذ القانون، وغيرها من المؤسسات، كل واحدة في حدود اختصاصاتها.
المرتبة الثانية: النهي عن المنكر بوازع اللسان
وهذه المرتبة «للعلماء والمبلغين ومن تحقق لديه أمر المنكر» ولكن لابد من مراعاة الشروط التي ذكرها العلماء، وهي ثلاثة شروط بِعَدِّ الإمام القرافي (ت684هـ):
- الشرط الأول: أن يعلم ما يأمر به وينهى عنه، فالجاهل بالحكم لا يحل له النهي عما يراه، ولا الأمر به.
- الشرط الثاني: أن يأمن من أن يكون يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه عنه إلى قتل النفس أو نحوه.
- الشرط الثالث: أن يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر في تحصيله، فعدم أحد الشرطين الأولين يوجب التحريم، وعدم الشرط الثالث يسقط الوجوب، ويبقي الجواز والندب.
وعلاوة على ما سبق فلابد أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالموعظة الحسنة وبالحكمة، وأن يكون في حدود الاختصاص، وطبقا لما هو مسموح به في القانون، لما علم سابقا من أن أمر القانون ونهيه يدخل في مسمى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المرتبة الثالثة: النهي عن المنكر بوازع الإيمان
وهذه المرتبة لعامة الناس، فلا يعذر به مؤمن، ومن لم يستطع أن ينكر بقلبه فلم يترسخ في قلبه حب الله ورسوله، إذ الإنكار بالقلب يقتضي بغض المعصية وطرقها وأشكالها والمصرين عليها.
وبعد أن بينا مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه وشروطه في مشروع خطة تسديد التبليغ، يجدر بنا أن نوضح الآن علاقة هذه الآلية بتخليق الحياة العامة، حيث إننا ذكرنا سابقا أن هذه الآلية من أهم الطرق التي يستعان بها للوصول لهذا الهدف، وبيان تلك العلاقة لأن حياة المسلمين اليوم إنما تستقر بتطبيق القوانين، وقد سبقت الإشارة أن أمر القانون ونهيه يدخل في مسمى المعروف والمنكر، ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسهم في إرساء النظام العام في المجتمع، وهو في الآن نفسه يحقق مقصد تخليق الحياة العامة، ثم إن المعارضة السياسية المشروعة والمنضبطة بالقانون تسهم كذلك بشكل كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تسهم في إرساء التوازن المجتمعي، والتدافع المشروع الذي به يرتفع الفساد.
خاتمة
في الختام نخلص إلى أن مشروع خطة تسديد التبليغ قد اهتم بموضوع تخليق الحياة العامة اهتماما بالغا، حيث إن هذا الموضوع أخذ حيزا كبيرا من الوثائق المرجعية لهذه الخطة، مما يدل على أهمية هذا الموضوع، فهو هدف وفي الآن نفسه وسيلة لتحقيق الحياة الطيبة التي هي المقصد الأسمى من خطة تسديد التبليغ، بل هي المقصد الأسمى من الدين كله، لما ثبت من أن الدين إنما جاء لمصلحة الإنسان.
كما نخلص إلى أن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم مميزات التشريع الإسلامي، وهي في الآن نفسه من أهم الوسائل لتخليق الحياة العامة، ثم إن تخليق الحياة العامة يؤدي إلى مجتمع آمن ومستقر، يتسم بالصدق واحترام الآخر، وهو ما سيؤدي بلا شك إلى تحقيق الحياة الطيبة الموعود بها في القرآن الكريم.
هذا وإن اهتمام الشريعة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبرز فلسفة التشريع الإسلامي ونظرته نحو الفرد والجماعة، وهو بذلك سبق علماء الاجتماع إلى بيان العلاقة بين الفرد والجماعة أو المجتمع، كما أنه سبق بذلك النظم القانونية الحديثة التي أقرت المعارضة السياسية من مؤشرات وجود الديموقراطية في الدولة، بل إن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر تقدما لكونه يكون بعلم، ويمارسه المجتمع كله كل واحد من زاوية اختصاصه.
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع بالخط العثماني.
- أمانة التبليغ، للدكتور مصطفى بن حمزة، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2024م.
- أنوار البروق في أنواء الفروق، لأبي العباس شهاب الدين القرافي (ت684هـ)، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثالثة 2009م.
- خطة تسديد التبليغ: دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتنزيل، منشورات المجلس العلمي الأعلى.
- دليل المجالس العلمية المحلية، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2021م.
- الدين للحياة، منشورات المجلس العلمي الأعلى.
- مختار الصحاح، لأبي عبد الله زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي (ت666هـ)، تحقيق يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة الخامسة 1999م.
- المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري (ت436هـ)، تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1403هـ.
- مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس (ت395هـ)، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، طبعة 1979م.
- مسند الإمام أحمد، لأحمد بن محمد بن حنبل (ت241هـ)، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2001م.
- موطأ الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى الليثي، محمد مصطفى الأعظمي (ت1339هـ)، مؤسسة زايد ابن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي، الطبعة الأولى م2004.
- الموافقات لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي (ت790هـ)، تحقيق الحسين أيت سعيد، منشورات البشير بنعطية، الطبعة الأولى 2017م.
- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل الجوهري (ت393هـ)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة 1987م.
- صحيح مسلم (الجامع الصحيح)، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج (ت261هـ)، تحقيق أحمد بن رفعت وآخرين، دار الطباعة العامرة تركيا، طبعة 1334هـ.
- العلماء ورسالة الإصلاح في المغرب الحديث، وهي ندوة نظمت بمقر المجلس العلمي الأعلى يوم الأحد 28 جمادى الأولى 1446هـ/ 1 دجنبر 2024م.
- علم الاجتماع، لأنتوني غدينز، ترجمة وتقديم فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الرابعة.
- سبيل العلماء، للدكتور أحمد آيت إعزة، والدكتور سعيد شبار وآخرين، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2016م.
- شعب الإيمان، لأبي بكر أحمد البيهقي (ت458هـ)، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 2000م.
- يوميات الإرشاد، منشورات معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، طبعة 2023م.
إن من الأهداف الكبيرة التي جاء من أجلها مشروع خطة تسديد التبليغ الذي يقوده العلماء تحت القيادة الرشيدة لمولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، هو تخليق الحياة العامة، بمعنى أن تكون حياة الناس ومعاملاتهم اليومية كلها مبنية على أخلاق الدين السمحة، ولا يكون ذلك إلا من خلال تقريب الشقة الكبيرة التي حدثت بين الدين والتدين، أو بين المدنية والقيم الإسلامية الأصيلة، والناظر في مراجع خطة تسديد التبليغ سيجد هذا المقصد حاضرا وبقوة، وإن كان ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هو هدف وفي الآن نفسه وسيلة لتحقيق الحياة الطيبة التي هي مبتغى كل إنسان، بله كل مؤمن، بيد أن تخليق الحياة العامة لا يكون بأية وسيلة كانت، وإنما يكون بالطرائق المنهجية الصحيحة التي استنبطها العلماء من سير الأنبياء والصالحين.
وأما أهمية موضوع تخليق الحياة العامة فلا تخفى على أي باحث بله العلماء، ويكفي إيماء لتلك الأهمية أن نشير إلى أن أربعة دروس حسنية على الأقل في عهد مولانا أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله قد خصصت لهذا الموضوع وحده، وهي: أولا: «القدوة الحسنة وأثرها في تخليق الحياة العامة» من إلقاء الدكتور محمد جميل مبارك، ثانيا: «خطبة الجمعة ودورها في تخليق الحياة العامة» من إلقاء الدكتور محمد المصلح، ثالثا: «استثمار قيم الدين في نموذج التنمية» من إلقاء معالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق، رابعا: «المجتمع المدني في خدمة القيم الدينية» من إلقاء الدكتور محمد يسف الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى. وعليه فليس من المستغرب أن نجد العلماء قد اعتنوا بهذا الموضوع في مشروع خطة تسديد التبليغ اعتناء بالغا.
وانطلاقا من أهمية هذا الموضوع وما يثيره من إشكالات علمية وعملية نفصح عن جوهر الإشكالية التي سيعالجها هذا المقال في الصيغة التالية: إلى أي حد اهتم مشروع خطة تسديد التبليغ بموضوع تخليق الحياة العامة؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية أسئلة فرعية عديدة من قبيل: ما مفهوم تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ؟ وما هي المسالك التي توسل بها القائمون على هذا المشروع الرائد لتحقيق هذا الهدف؟ وما علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموضوع تخليق الحياة العامة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الجزئية التي سيأتي الجواب عنها في هذا المقال، على أن نتوسل لتحقيق هذا الهدف بمنهجين أساسيين وهما: المنهج الوصفي، ثم المنهج الاستقرائي، قصد دراسة واستقراء أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة من خلال الوثائق المرجعية لهذا المشروع.
ومن أجل الجواب عن الإشكالية السابقة وكذا الأسئلة الفرعية عنها، سنبسط الكلام عن هذا الموضوع في مقدمة وثلاثة مطالب وخاتمة. المطلب الأول نخصصه لمجموعة من المفاهيم المركزية في المقال، أما المطلب الثاني فنخصصه لعرض أهم مسالك تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، وأما المطلب الثالث فنفصل الكلام فيه حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره طريقا لتخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، وأما الخاتمة فنوجز الكلام فيها عن أبرز النتائج التي تم التوصل إليها من خلال هذا المقال.
المطلب الأول: المدخل المفاهيمي للموضوع
إن القضية الكبرى التي نريد أن نقف عندها في هذا المقال هي مدى حضور مقصد تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ، ومدى علاقة ذلك بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أصل لها القرآن الكريم، وفصلتها السنة النبوية الشريفة، ثم رصد أثر مشروع خطة تسديد التبليغ في تخليق الحياة العامة، وللوقوف على هذا كله لابد من إبراز المقصود بمجموعة من المصطلحات ذات الارتباط بموضوع المقال، مع بيان مفاهيمها، وهي: مفهوم مشروع تسديد التبليغ، ومفهوم تخليق الحياة العامة، وفيما يلي تفصيل لهذين المصطلحين المكونين لعنوان المقال.
أولا: مفهوم مشروع خطة تسديد التبليغ
المقصود بمشروع خطة تسديد التبليغ هو ذلك المشروع الإصلاحي الذي ابتكرته مؤسسة العلماء في المملكة المغربية الشريفة برعاية أمير المؤمنين حفظه الله تعالى، وذلك من أجل تقريب الشقة بين الدين والتدين؛ أو «تجسير الهوة بين الحياة المدنية والقيم الإسلامية» قصد تحقيق الحياة الطيبة للمؤمنين والمؤمنات كما وعدهم الله تعالى بذلك في القرآن الكريم، وقد انطلق هذا المشروع في يوم الجمعة 28 يونيو 2024م في مرحلة تجريبية، وكان لي شرف المشاركة في هذه المرحلة، على أمل نيل ذات الشرف في مرحلته الثانية إن شاء الله تعالى.
هذا عن مفهوم مشروع خطة تسديد التبليغ بصفة عامة، وأما إذا أردنا أن نتعمق في أهدافه الكبرى فسنجد أنه مشروع إصلاحي بامتياز، يروم إصلاح الحياة العامة من داخل المؤسسة العلمية التي هي مؤسسة العلماء، والتي يمثلها المجلس العلمي الأعلى، ومما يؤكد قصدية حضور هذا المعنى تلكم الندوة العلمية التي نظمها المجلس العلمي الأعلى في موضوع: [العلماء ورسالة الإصلاح في المغرب الحديث] وهذا يؤكد أن مؤسسة المجلس العلمي الأعلى تسعى من خلال مشروع خطة تسديد التبليغ أن تقود مشروعا إصلاحيا شاملا، فقد جاء في أرضية هذه الندوة: «اهتدت المؤسسة العلمية بعد نظر ومدارسة، وبتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى خطة إصلاحية أطلق عليها [خطة تسديد التبليغ]». كما أكد المجلس العلمي الأعلى في كتاب سبيل العلماء الذي يعبر عن منهج المؤسسة العلمية في التبليغ أن مشروعها التنزيلي «يقصد به مشروعها الإصلاحي» الذي تستهدف به المجتمع، وأن «أُفُقُهَا الارتقاء بالصلاح في المجتمع كل من زاويته».
ثانيا: مفهوم تخليق الحياة العامة
التخليق مشتق من فعل خَلَقَ، ويطلق في أصله على معنيين، قال ابن فارس: «الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملاسة الشيء» فالخَلْق إذا كان من الله تعالى فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وإذا كان من الإنسان فهو إخراج الشيء من الموجود، والخُلُق بسكون اللام وضمها: السجية، والأخلاق نوعان: مذمومة ومحمودة، وتطلق غالبا إما مقيدة بالحَسَن أو السَّيِّء، ومن ذلك قوله ﷺ: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق»، وقوله ﷺ: «خيركم إسلاما أحاسنكم أخلاقا إذا فقهوا».
هذا من حيث المدلول اللغوي، أما من حيث المدلول الاصطلاحي فيطلق مصطلح تخليق الحياة العامة في الفكر القانوني والإداري والحقوقي على محاربة الفساد والرشوة والوقاية منهما في الإدارة على وجه الخصوص، ومن ذلك ما جاء في الفصل 167 من دستور م2011: «تتولى الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، المحدثة بموجب الفصل 36 على الخصوص، مهام المبادرة والتنسيق والإشراف،
وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وتلقي نشر المعلومات في هذا المجال، والمساهمة في تخليق الحياة العامة». فمن خلال هذا الفصل يتضح بأن تخليق الحياة العامة يتحقق بمحاربة الفساد والرشوة والوقاية منهما في المجال الإداري على وجه الخصوص.
بيد أن مفهوم تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ أعم وأوسع؛ لكونه يشمل جميع قطاعات الحياة المشمولة بمفهوم التدين، وعليه فالمقصود بتخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ هو إفشاء التعامل بالأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة والإيثار والشكر والصبر وغيرها في حياة الناس جميعا، سواء في الإدارة أو في المسجد أو في السوق أو في الطريق أو في غيرها من المرافق العمومية التي يحدث فيها التعامل بين الناس، بل إن تخليق الحياة العامة يشمل كذلك الشروط الضرورية والظروف المساعدة على فعالية أكبر لوازع القرآن الذي يستخدمه العلماء لتوفير الحياة الكريمة للمواطن، ويتضح هذا المعنى جليا من خلال ربط العلماء بين الشروط الخارجية للتخليق والمتمثلة أساسا في تحسين الحاجة المادية والمعيشية للإنسان وبين تخليق الحياة العامة، لوجود العلاقة في التراث الإسلامي بين الفقر والحاجة وبين السلوك الإنساني، ولذلك نرى القائمين على مشروع خطة تسديد التبليغ يخصصون خطبا عديدة للزكاة وللإنفاق وللإحسان في سبيل الله، وبالمقابل يحذرون من الإسراف لأنه يحرم بعض الناس من حقهم في الحد الأدنى من العيش الكريم، كما أنهم يباركون كل سياسة تسعى للتنمية ولمحاربة الفقر والحاجة.
المطلب الثاني: مسالك تخليق الحياة العامة في مشروع خطة تسديد التبليغ
إن المستقرئ للوثائق المرجعية لمشروع خطة تسديد التبليغ سيجد أن من أهدافه الكبرى تخليق حياة الإنسان بصفة عامة، وتخليق الحياة العامة بصفة خاصة، ويتضح ذلك جليا من خلال مجموعة من العناوين التي وردت فيها بهذه العبارة: «تخليق الدين للحياة»، «شمول العبادة لحياة الإنسان» وغيرهما من العناوين التي يجدها القارئ مفصحة عن هذا المقصد بعبارة جلية، بيد أن تخليق الحياة العامة ليس هدفا ومقصدا في حد ذاته، ولكنه وسيلة لهدف أسمى، وهو الذي جاء من أجله أساسا مشروع خطة تسديد التبليغ ألا وهو: «تحقيق السعادة باعتبارها هدفا للتبليغ، ومطلبا لكل إنسان». ولذا فإن القائمين على المشروع ارتأوا اختيار المصطلح القرآني: «الحياة الطيبة» بدل المصطلح الفلسفي: «السعادة» ولا يخفى ما في هذا الانتقاء من تحديد مرجعية الخطة منذ البداية، ولا شك أن هذا الانتقاء يومئ إلى المقاصد الحسنة لهذه الخطة، وإبعاد حظوظ النفس عنها، بل هي في النهاية عبارة عن ربط الناس بالقرآن الكريم، وبدينهم القويم.
وقد أخذ موضوع تخليق الحياة العامة مساحة كبيرة في الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ، ما يدل دلالة واضحة على أهميته ومركزيته في هذا المشروع، ولذلك نجد العلماء الذين قاموا بصياغة هذه الوثائق لم يكتفوا بالدعوة لهذا الموضوع فقط، وإنما وضعوا مجموعة من الوسائل التي من شأنها أن تحقق هذا الهدف الوَسَلِي النبيل، والذي من أجله جاءت الشرائع السماوية كلها.
هذا وإذا كان تخليق الحياة العامة هدفا من أهداف خطة تسديد التبليغ؛ إذ به تتحقق الحياة الطيبة، فلابد للوصول لهذه الغاية من وسائل ومسالك توصل لهذا الهدف، فمن المعلوم أن لكل مقصد وسيلة أو وسائل، ولما كان مشروع خطة تسديد التبليغ يقوم أساسا على البيان والبلاغ، ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء في وظيفة البلاغ، وهم في الآن نفسه ورثة الأنبياء في منهجية التبليغ كذلك، عملا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾ وعملا بقول الله تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ﴾ ووعيا بهذا الملحظ فقد اتخذ العلماء في مشروع خطة تسديد التبليغ مسالك متعددة لتحقيق الحياة الطيبة، ولتخليق الحياة العامة على وجه الخصوص، ويمكن أن نذكر من تلكم الوسائل والمسالك ما يلي:
أولا: مسلك تصحيح المفاهيم
إن من أهم الآليات التي توسل بها القائمون على مشروع تسديد التبليغ من أجل إيصال هذه الخطة إلى عموم الناس، ومن أجل تخليق الحياة العامة على وجه الخصوص، مسلك تصحيح المفاهيم، وذلك عن طريق «ضمان التعريف الصحيح بالدين أحكاما ومقاصد ومنهجا في التنزيل» ذلك أن من المعلوم أن أي خطأ في السلوك الإنساني فإنما يرجع أصله إلى خطأ في التصور وفي المفهوم الحاصل في الذهن، ولذا فقد ارتأى القائمون على هذه الخطة المباركة البدء بتصحيح المفاهيم، ومن أهمها: مفهوم الدين والتدين، ومفهوم الإيمان، ومفهوم العبادة، ومفهوم الحياة الطيبة، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك من المفاهيم التي سيلاحظها أي مطلع على الوثائق المرجعية لهذه الخطة،وفيما يلي نظرة موجزة عن بعض المفاهيم المركزية التي لها علاقة بموضوع هذا المقال.
أ/ مفهوم الدين والتدين
لعل من المفاهيم المركزية في خطة تسديد التبليغ مفهوم الدين والتدين، حيث عمدت هذه الخطة إلى تقديم المفهوم الصحيح لهاذين المصطلحين المهمين، كما دعت إلى: «ضرورة التمييز بين الدين والتدين» حيث إن عدم التمييز بين هاذين المصطلحين يؤدي إلى نتائج سيئة، من قبيل ملاحظة حظ النفس، والاستكبار على الناس، والتبديع والتفسيق والتكفير، وبالمقابل فإن التمييز بين الدين والتدين، وخلع المفهوم الصحيح على كل واحد من المصطلحين ينتج ثمرات إيجابية، وتلك الثمرات لا تقتصر على حياة الفرد فقط، وإنما تتعداه إلى الحياة العامة، وذلك من خلال .«حفظ الأمن والنظام، وإقامة العدل، والوفاء بالحقوق، والتعاون على البر والتقوى». كما يساهم هذا التمييز في الالتزام الفردي والالتزام الجماعي كذلك بقيم الدين السمحة.
ب/ مفهوم العبادة وشمولها للحياة
يظن كثير من الناس أن العبادة مقتصرة على الشعائر الدينية كالصلاة والزكاة والصيام والحج وقراءة القرآن والذكر... فقط، وهذا مفهوم قاصر، فالمفهوم الصحيح للعبادة أنها تشمل الحياة كلها، بل التصور الصحيح يقتضي أن نعتبر «العبادة برنامج تدبير حياة الإنسان»؛ ولهذا فقد حرصت خطة تسديد التبليغ على تصحيح هذا المفهوم لدى الناس، وأن العبادة ليست مقصودة في حد ذاتها، وإنما هي في الحقيقة وسيلة لتحقيق مجموعة من الثمرات، مصداقا لقول الله تعالى:﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَابْتَغُوٓاْ إِلَيْهِ اِ۬لْوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِے سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَۖ﴾ والوسيلة هي القربة والعبادة كما قال جماعة من المفسرين، ومن هنا ندرك أن العبادة في الحقيقة ما هي إلا وسيلة لمقاصد وثمرات، وهذه الثمرات ينبغي أن تتجلى على مستوى المعاملات، ذلك أن صحة المعاملة هي التي تُصَدِّق العبادة، كما أن العبادة هي التي تصدق الإيمان، فصحة المعاملة من علامة قبول العبادة، «فالعبادة إذن شاملة لحياة الإنسان، وكل شؤونه الفردية والجماعية».
وأما علاقة تصحيح هذا المفهوم بموضوع مقالنا وهو تخليق الحياة العامة فواضح وجلي، ذلك أن اعتبار شمول العبادة لكل الحياة، من شأنه أن يسهم في تخليق الحياة العامة، وبالتالي فإن ذلك سيؤدي إلى سلامة المجتمع من الآفات، وإلى إخلاص الناس في المعاملات، كما أنه سيجلب التعاون والخير ويعين على أداء الأمانات.
ج/ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من المفاهيم التي حاولت خطة تسديد التبليغ أن تصححها للناس، مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أن الناس يدركون جيدا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التكاليف الشرعية الفردية والجماعية، انطلاقا من قول الله تعالى مخاطبا الأمة المحمدية: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ا۟خْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِۖ وَلَوَ اٰمَنَ أَهْلُ اُ۬لْكِتَٰبِ لَكَانَ خَيْراٗ لَّهُمۖ مِّنْهُمُ اُ۬لْمُومِنُونَۖ وَأَكْثَرُهُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ ﴾ فأفادت هذه الآية أن استحقاق الخيرية مرهون بشرطين: الإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كثيرا من الناس لا يعرف أولا ما معنى المعروف وما معنى المنكر، ولا فقه أداء هذه المهمة ومنهجها، ولا مراتبها، كما أن كثيرا من الناس يغفلون عن معنى مهم، وهو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمات الإمام أو الدولة بأجهزتها متى تعلق الأمر بالتغيير باليد.
وانطلاقا من الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ نتلمس ملامح مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه من شأن الجماعة وليس من شأن الأفراد، وخاصة الجانب المتعلق بالتغيير سواء باليد، وقد أصبح في ظل الدولة الحديثة مقتصرا على المؤسسات المؤتمرة بالقانون، أو باللسان وهذا منوط بالعلماء أصحاب الاختصاص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يتحقق في حياة المسلمين اليوم بإقامة القوانين التي هي تفصيل لمقاصد الشرع ومصالحه، كما أن مقتضيات القانون هي التي أصبحت تنظم جانبا كبيرا مما يدخل في مسمى المعروف والمنكر، وسيأتي مزيد من التفصيل لعلاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموضوع تخليق الحياة العامة في المطلب الثالث.
ونخلص من خلال الأمثلة الثلاثة السابقة إلى أن مشروع خطة تسديد التبليغ قد اهتم اهتماما كبيرا بموضوع تصحيح المفاهيم، بل إن ذلك يعد من الركائز الأساسية في هذه الخطة، ولا غرابة في ذلك وموضوع التبليغ يقوم أساسا على البيان الصحيح والسديد، وهم في ذلك إنما طبقوا وراثة العلماء لوظيفة النبي ﷺ، وهي وظيفة قد اهتمت بتصحيح المفاهيم كثيرا.
ثانيا: مسلك تسديد مناهج التبليغ
إن من الوظائف الكبرى للنبي ﷺ وظيفة التبليغ والبيان، اللذين بهما تكون هداية الإنسان، قال الله تعالى: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَٰتِهِۦۖ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَ۬لنَّاسِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يَهْدِے اِ۬لْقَوْمَ اَ۬لْكٰ۪فِرِينَۖ ﴾ وجدير بالذكر أن الله تعالى لم يكتف بإيجاب التبليغ على النبي ﷺ فقط، وإنما أوجب عليه كذلك منهج التبليغ، فقال تعالى: ﴿اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۖۦ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَۖ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾، والعلماء ورثة الأنبياء في التبليغ وفي طريقة التبليغ كذلك، ذلك أن التأسي بالنبي ﷺ يقتضي: «أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل» فلا يكفي أن نفعل مثل ما فعل فقط.
ووعيا من العلماء بأهمية تجديد منهج التبليغ، فقد وضعوا خطة سموها: «خطة تسديد التبليغ» وتومئ كلمة التسديد التي تعني في اللغة الصواب من القول والعمل إلى أن العلماء قد قاموا بنقد ذاتي لمهمتهم المتمثلة في التبليغ، أو نقول على الأقل قد قاموا بدراسة «أبرز عوائق الاستجابة للإصلاح» الذي تقوده المؤسسة العلمية والدينية، فوجدوا أنها ترجع إلى أحد أمرين أو إليهما معا: إما للمبلِّغين من علماء وقيمين دينيين، أو لمنهج التبليغ نفسه، وهو ما جعلهم يطلقون خطة تسديد التبليغ، والتي تهدف إلى تجاوز العوائق السابقة، وفيما يلي تفصيل لهاتين الآليتين:
أ/ مسلك تكوين المُبَلِّغِين
يعتبر تكوين المبلغين من أهم مداخل الإصلاح في المجال الديني، بل التكوين من أهم مداخل تجويد العمل في كل المجالات، وليس المجال الديني فحسب، ووعيا من المؤسسة العلمية بهذه الأهمية فقد أصدرت بالتنسيق مع وزارة الوقاف والشؤون الإسلامية مجموعة من الدلائل المرجعية التي تشرح مشروع خطة تسديد التبليغ بتفصيل، كما أنها قامت بتقديم مجموعة من الدورات التكوينية لكافة الفاعلين في الحقل الديني، بدءا من رؤساء المجالس العلمية المحلية، ثم أعضاء المجالس العلمية، والمرشدين والمرشدات، والوعاظ والواعظات، وصولا إلى الأئمة والخطباء.
وعلى العموم فالمبلغ مطلوب منه أن يكون ملما بمجموعة من المؤهلات العلمية، وهي: المؤهل الشرعي، والمؤهل الواقعي، والمؤهل النفسي، ثم المؤهل المهاري التواصلي، ومن شأن المبلغ الذي توفر على هذه المؤهلات الأربعة أن ينتج خطابا دينيا سديدا، وتبقى بعد ذلك الاستجابة مرهونة بأمور أخرى، قد تكون خارجة عن قدرة الإنسان، كالهداية التوفيقية أو الرزق، فالاستجابة للنور المحمدي رزق من الأرزاق.
ب/ مسلك تسديد منهج التبليغ
لقد سبقت الإشارة إلى أن للتبليغ جانبين اثنين: الأول تبليغ ما بلغه النبي محمد ﷺ، والثاني: تبليغ ما بلغه النبي ﷺ بالطريقة التي بلغه بها، فلابد إذن من فهم مادة التبليغ فهما صحيحا، وهذا إنما يكون عن طريق دراسة العلوم الشرعية والعلوم الخادمة لها، وأما منهج التبليغ فإنما يدرك عن طريق الاستنباط والملاحظة لسير الأنبياء والعلماء، مع التمكن من العلوم الحديثة التي تعين على إدراك الواقع والسياق المحيط بواقع التبليغ.
وقد حاول المجلس العلمي الأعلى أن يبرز هذا المنهج المتبع في التبليغ من خلال كتاب: [سبيل العلماء] وتشير كلمة السبيل إلى الطريق والمنهج، أي منهج العلماء في تبليغ الدين، وإنما اختار المجلس العلمي الأعلى كلمة: [سبيل] اقتباسا من قول الله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيَ أَدْعُوٓاْ إِلَي اَ۬للَّهِۖ عَلَيٰ بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اِ۪تَّبَعَنِےۖ وَسُبْحَٰنَ اَ۬للَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾. وهو ما يمكن معه القول بأن علماء المملكة المغربية يتميزون بهذه السمة المميزة، وهي اختيار المصطلحات القرآنية بدقة وعناية فائقة.
ثالثا: مسلك خطبة الجمعة والموعظة الحسنة
تعتبر خطبة الجمعة من أهم الوسائل الإعلامية في الشريعة الإسلامية، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إنها أهم وأبلغ وسيلة إعلامية في الدول الإسلامية، وبالتالي فإن استثمار هذه الوسيلة سيساعد بلا شك في تخليق الحياة العامة، ونظرا لهذه الأهمية فقد بدأت المؤسسة العلمية نشر خطة تسديد التبليغ انطلاقا من خطبة الجمعة، مع ما يتبعها من الشرح والتفصيل من خلال الدروس الوعظية، وأما إذا استقرينا عناوين خطب الجمعة التي سبقت سواء في موضوع الإيمان أو في موضوع العمل الصالح فسنجد أغلبها يهدف إلى تخليق الحياة العامة، وذلك عن طريق نشر القيم الإسلامية وجعلها أساس التعامل في حياة الناس.
وعليه نخلص إلى أن العلماء قد وضعوا مجموعة من الوسائل والمسالك التي تهدف إلى تخليق الحياة العامة، بيد أن من أهم الوسائل التي تميزت بها الشريعة الإسلامية هي آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي فيمكن اعتباره طريقا من طرق تخليق الحياة العامة، وهذا ما سنتعرف عليه في المطلب الموالي.
المطلب الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريق لتخليق الحياة العامة
لقد سبق الحديث فيما قبل أن تخليق الحياة العامة من الموضوعات المركزية في مشروع خطة تسديد التبليغ، وذلك لما لهذا الموضوع من علاقة وطيدة بتحقيق الحياة الطيبة في حياة الناس، إذ لا يمكن أن تتحقق الحياة الطيبة للأفراد إذا لم يتم تخليق الحياة العامة، نظرا للعلاقة الجدلية بين الفرد والجماعة، فالجماعة تتأثر بالأفراد، كما الأفراد يتأثرون بالجماعة أو بالمجتمع باصطلاح علماء الاجتماع.
ثم إن تخليق الحياة العامة له مجموعة من الطرق والمسالك، ولعل من أهمها وأكثرها ميزة في التراث الإسلامي ما يسمى ب: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فقد اعتبر القرآن الكريم هذه الوظيفة من سمات «خير أمة أخرجت للناس» بتعبير القرآن الكريم، أو «الأمة النموذجية» بتعبير المجلس العلمي الأعلى، أو «المدينة الفاضلة» بتعبير الفلاسفة، ونظرا لأن مشروع خطة تسديد التبليغ مشروع إصلاحي بامتياز كما سبق بيان ذلك، فقد نَظَّم القائمون على الخطة هذه الآلية تنظيما محكما، بدءا من إعادة بناء مفهومه الصحيح، وبيان مراجعه وصوره ومراتبه، «مما يعطي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دلالات مختلفة تؤول إلى معنى الحرص على تحقيق كمال التدين إيمانا وعملا صالحا في خاصة النفس، وتواصيا لتحقيقه في الغير».
بل إن المجلس العلمي الأعلى يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الصحيح هو المقياس الذي يجب على العلماء أن ينبهوا الناس عليه، وأن يعلموهم كيفية قياس جودة عباداتهم به، وأن يستعملوه مؤشرا للتقويم الذاتي، ومحاسبة النفس؛ لمعرفة مدى انتمائهم للأمة، ومدى تقصيرهم في حقوقها عليهم، وبهذا يكون الإسلام هو النموذج الأمثل الذي يدعو إلى العمل الصالح والحياة الطيبة.
هذا وتجدر الإشارة إلى أمرين مهمين قد نبهت عليهما الوثائق المرجعية لخطة تسديد التبليغ وهما:
الأمر الأول: علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوانين الحديثة المنظمة لشؤون حياة الأفراد والجماعات، فقد قرر العلماء بأن كل ما يدخل في القانون أمرا ونهيا ينسحب عليه وصف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل ما أمر به القانون فهو من المعروف ويجب العمل بمقتضاه، وما كان مشكلا منه يرجع الحسم فيه إلى الإمامة العظمى، باعتبار أن قرار الإمام يحسم الخلاف كما هو مقرر في التشريع الإسلامي، وبالمقابل فما نهى عنه القانون يجب تركه شرعا لأنه منكر، ويجد هذا القول سنده في قول النبي ﷺ: «من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف».
وهذا الحديث يفيد أن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريقة تطبيقه وتنزيله خاضع بدوره للعرف وللمعروف في كل زمان ومكان، وإن كان «المرجع فيما هو معروف وما هو منكر هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم».
ويمكن القول بحق أن هذا الاجتهاد الذي قام به المجلس العلمي الأعلى لتحرير مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان صوره ومراتبه يعد اجتهادا منقطع النظير في هذه الأزمنة، على اعتبار أن كثيرا من العلماء المعاصرين يدعون للتجديد، لكن ذلك يبقى حبيس التنظير فقط، أما المجلس العلمي الأعلى فيمارس التجديد بالفعل وليس بالتنظير له فقط، كما أنه يمارس التجديد من داخل المؤسسات الرسمية، ما يعني أن ذلك سيجد طريقه للتطبيق والتفعيل.
الأمر الثاني: مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن المجلس العلمي الأعلى قرر بداية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «من أمر الأمة وليس من شأن الأفراد». بدليل التعبير عنه بالأمر، وبناء على هذا فهم سائرون على ما درج عليه العلماء من أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفروض الكفائية، يقول الإمام الشاطبي: «وجامعها (أي جامع أنواع فروض الكفايات) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به». ولذلك فقد قرر المجلس العلمي الأعلى أن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمات الإمام (الدولة الحديثة بأجهزتها)» وهذا من صميم فقه النص وفقه الواقع؛ ذلك أن الدولة الحديثة التي نعيش في ظلها قائمة على المؤسسات، ومعلوم أن المؤسسات لا ينتظم أمرها إلا بالقانون، وقد أصبح الناس لا يقبلون الائتمار إلا للمؤسسات وللقانون، وهذا معروف بالحس والمشاهدة.
وبناء على هذا الفهم الدقيق فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ثلاث مراتب، أخذا من قول النبي ﷺ: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
وتختلف كل مرتبة عن أخرى من هذه المراتب الثلاثة، من حيث جهة الاختصاص، وطريقة التطبيق، ومقاصد التنزيل.
المرتبة الأولى: النهي عن المنكر بوازع السلطان
وهذه المرتبة من اختصاص الإمام، وعليه فلا يجوز الافتيات عليه فيها، وأما كيفية تطبيق هذه المرتبة فتتم عن طريق المؤسسات المختلفة، والتي تضطلع بمهمة إنفاذ القانون بتعبير العصر، كمؤسسة القضاء، ومؤسسة الأمن والشرطة، ومؤسسة الجيش، ومؤسسة الحكومة المكلفة بالتدبير وتنفيذ القانون، وغيرها من المؤسسات، كل واحدة في حدود اختصاصاتها.
المرتبة الثانية: النهي عن المنكر بوازع اللسان
وهذه المرتبة «للعلماء والمبلغين ومن تحقق لديه أمر المنكر» ولكن لابد من مراعاة الشروط التي ذكرها العلماء، وهي ثلاثة شروط بِعَدِّ الإمام القرافي (ت684هـ):
- الشرط الأول: أن يعلم ما يأمر به وينهى عنه، فالجاهل بالحكم لا يحل له النهي عما يراه، ولا الأمر به.
- الشرط الثاني: أن يأمن من أن يكون يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه، مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه عنه إلى قتل النفس أو نحوه.
- الشرط الثالث: أن يغلب على ظنه أن إنكاره المنكر مزيل له، وأن أمره بالمعروف مؤثر في تحصيله، فعدم أحد الشرطين الأولين يوجب التحريم، وعدم الشرط الثالث يسقط الوجوب، ويبقي الجواز والندب.
وعلاوة على ما سبق فلابد أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالموعظة الحسنة وبالحكمة، وأن يكون في حدود الاختصاص، وطبقا لما هو مسموح به في القانون، لما علم سابقا من أن أمر القانون ونهيه يدخل في مسمى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المرتبة الثالثة: النهي عن المنكر بوازع الإيمان
وهذه المرتبة لعامة الناس، فلا يعذر به مؤمن، ومن لم يستطع أن ينكر بقلبه فلم يترسخ في قلبه حب الله ورسوله، إذ الإنكار بالقلب يقتضي بغض المعصية وطرقها وأشكالها والمصرين عليها.
وبعد أن بينا مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراتبه وشروطه في مشروع خطة تسديد التبليغ، يجدر بنا أن نوضح الآن علاقة هذه الآلية بتخليق الحياة العامة، حيث إننا ذكرنا سابقا أن هذه الآلية من أهم الطرق التي يستعان بها للوصول لهذا الهدف، وبيان تلك العلاقة لأن حياة المسلمين اليوم إنما تستقر بتطبيق القوانين، وقد سبقت الإشارة أن أمر القانون ونهيه يدخل في مسمى المعروف والمنكر، ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسهم في إرساء النظام العام في المجتمع، وهو في الآن نفسه يحقق مقصد تخليق الحياة العامة، ثم إن المعارضة السياسية المشروعة والمنضبطة بالقانون تسهم كذلك بشكل كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تسهم في إرساء التوازن المجتمعي، والتدافع المشروع الذي به يرتفع الفساد.
خاتمة
في الختام نخلص إلى أن مشروع خطة تسديد التبليغ قد اهتم بموضوع تخليق الحياة العامة اهتماما بالغا، حيث إن هذا الموضوع أخذ حيزا كبيرا من الوثائق المرجعية لهذه الخطة، مما يدل على أهمية هذا الموضوع، فهو هدف وفي الآن نفسه وسيلة لتحقيق الحياة الطيبة التي هي المقصد الأسمى من خطة تسديد التبليغ، بل هي المقصد الأسمى من الدين كله، لما ثبت من أن الدين إنما جاء لمصلحة الإنسان.
كما نخلص إلى أن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم مميزات التشريع الإسلامي، وهي في الآن نفسه من أهم الوسائل لتخليق الحياة العامة، ثم إن تخليق الحياة العامة يؤدي إلى مجتمع آمن ومستقر، يتسم بالصدق واحترام الآخر، وهو ما سيؤدي بلا شك إلى تحقيق الحياة الطيبة الموعود بها في القرآن الكريم.
هذا وإن اهتمام الشريعة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبرز فلسفة التشريع الإسلامي ونظرته نحو الفرد والجماعة، وهو بذلك سبق علماء الاجتماع إلى بيان العلاقة بين الفرد والجماعة أو المجتمع، كما أنه سبق بذلك النظم القانونية الحديثة التي أقرت المعارضة السياسية من مؤشرات وجود الديموقراطية في الدولة، بل إن آلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر تقدما لكونه يكون بعلم، ويمارسه المجتمع كله كل واحد من زاوية اختصاصه.
فهرس المصادر والمراجع
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع بالخط العثماني.
- أمانة التبليغ، للدكتور مصطفى بن حمزة، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2024م.
- أنوار البروق في أنواء الفروق، لأبي العباس شهاب الدين القرافي (ت684هـ)، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثالثة 2009م.
- خطة تسديد التبليغ: دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتنزيل، منشورات المجلس العلمي الأعلى.
- دليل المجالس العلمية المحلية، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2021م.
- الدين للحياة، منشورات المجلس العلمي الأعلى.
- مختار الصحاح، لأبي عبد الله زين الدين محمد بن أبي بكر الرازي (ت666هـ)، تحقيق يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية بيروت، الطبعة الخامسة 1999م.
- المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري (ت436هـ)، تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1403هـ.
- مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس (ت395هـ)، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، طبعة 1979م.
- مسند الإمام أحمد، لأحمد بن محمد بن حنبل (ت241هـ)، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرين، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 2001م.
- موطأ الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى الليثي، محمد مصطفى الأعظمي (ت1339هـ)، مؤسسة زايد ابن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي، الطبعة الأولى م2004.
- الموافقات لأبي إسحاق إبراهيم الشاطبي (ت790هـ)، تحقيق الحسين أيت سعيد، منشورات البشير بنعطية، الطبعة الأولى 2017م.
- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل الجوهري (ت393هـ)، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة 1987م.
- صحيح مسلم (الجامع الصحيح)، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج (ت261هـ)، تحقيق أحمد بن رفعت وآخرين، دار الطباعة العامرة تركيا، طبعة 1334هـ.
- العلماء ورسالة الإصلاح في المغرب الحديث، وهي ندوة نظمت بمقر المجلس العلمي الأعلى يوم الأحد 28 جمادى الأولى 1446هـ/ 1 دجنبر 2024م.
- علم الاجتماع، لأنتوني غدينز، ترجمة وتقديم فايز الصياغ، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الرابعة.
- سبيل العلماء، للدكتور أحمد آيت إعزة، والدكتور سعيد شبار وآخرين، منشورات المجلس العلمي الأعلى، الطبعة الأولى 2016م.
- شعب الإيمان، لأبي بكر أحمد البيهقي (ت458هـ)، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 2000م.
- يوميات الإرشاد، منشورات معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، طبعة 2023م.




