You may also like
Page 2 of 6
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
معلوم أن أمور المساجد من جملة المصالح العظمى، وأن تدبيرها يدخل ضمن التدبير العام لشؤون الدين، الذي يرجع إلى أمير المؤمنين جملة وتفصيلا. ذلكم أن المسجد ليس مكاناً لأداء الصلوات فقط، ولكنه فضاءٌ لتنمية إيمان المجتمع وترشيدِ تدينه ليحيا حياة طيبة.
وبناء عليه، لا يُتصور أن تُستخدم المساجدُ في غير ما أذن الله فيه من توحيده وإخلاص العبادة له وتربيةِ الأفراد، وإصلاحِ المجتمع وضمانِ وحدته. وترشيدِ التدين بحمايته من الجهل، والانتحال والغلو والتطرف.
وتحقيقا لهذا صار حيادُ المساجد من أعظم أبواب دفع الفتنة في الدين، فبمقتضاه تعززت حرمة بيوت الله، وتم التصدي لكل الأهواء والبدع والإيديولوجيات والانتماءات السياسية، وكل المحاولات التي تريد أن تحول المساجد إلى بؤر لنشر ما يشوش على ثوابت الأمة واستقرارِها. لتكون المساجد خالصة لله تعالى القائل في محكم كتابه: ﴿وَأَنَّ اَ۬لْمَسَٰجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ اَ۬للَّهِ أَحَداٗۖ﴾ [الجن: 18].
أيها السادة الأفاضل: إن تحقيق مقصد حياد المسجد مرهون بحياد الأئمة إزاءَ الأهواء، فليس من الإيمان ولا من الوفاء بالعهد ولا من المروءة أن يتبنى الإمام فكرا أو إيديولوجية أو انتماء سياسيا يخون به العهد، ويخالف به ثوابت الأمة، ويعزل به نفسه عن جماعة المسجد، وهو المعول عليه في حفظ وحدة الجماعة، وتأليفِ قلوبهم، واستبعادِ أسباب العداوة والشحناء والانقسام بينهم، فإمام المسجد إمام الجماعة بمختلِف أطيافها الفكرية ومشاربها السياسية وشرائحها الاجتماعية. وهو بذلك في سمو ينأى به عن التنافس والتدافع، سموٍ أَهَّلَهُ ليؤمهم في محراب لا يسع إلا شخصا واحدا مؤهلا بالقرآن وبالعلم وبالأخلاق لتجتمع عليه وحدَهُ محبة جماعته.
روى ابن ماجه عن ابن عباس ﭭ أن رسول الله ﷺ قال: «ثَلَاثَةٌ لَا تَرْتَفِعُ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ». رواه ابن ماجه في سننه.
إذا تقرر ما ذكرناه، لزم تفصيله وبيان مجمله من خلال ما يأتي:
أولا: معرفة الإمام بجماعته شرط موضوعي في التزام الحياد.
يفترض في الإمام أن يعرف تمامَ المعرفةِ جميعَ أحوالِ جماعةِ المسجدِ لاسيما تلك التي تجمعه بالإمام علاقة الشرط، وهذا شائع في البوادي والقرى.
فمن ذلك أن يعرف أصولَ الناسِ وأنسابَهم، ويتجنبَ ما يثير العنصرية والضغائن والأحقاد بينهم، وهذا يدركه الأئمة في البوادي والقرى…
ومن ذلك أن يراعي منزلةَ وقدرَ أعيانِ جماعتِه، فلا يستثيرهم بإهمال، ولا يفضل بعضهم على بعض بإيغال؛ فيؤلبَ عليه غيرهم.
ومن ذلك أن يعرف النسيج الجمعوي والانتماءات السياسية والإيديولوجية في جماعته، ليحذر في حديثه وتصرفاته.
ويميزَ في هذه المعرفة بين أفراد الجماعة، فمنهم من يليق بصحبته ومجلسه ومنهم دون ذلك، ويعرفَ من يعضده في أداء وظيفته ومسؤولياته، وينزهَ المسجد عمن يلوثه بسلوكه وأفكاره، وكل ذلك برفق وحكمة وتبصر.
وأما في المدن والحواضر والمداشر التي في حكمها؛ فإن جماعة المسجد يُقصد بها كلُ من يقصد المسجد للصلاة إذا كان له اهتمام بشؤون جماعته، وكان له استعداد لخدمة بيت الله دون خلفياتِ مغايرة؛ أو مناهضةِ لثوابت الأمة، وتعول خطة تسديد التبليغ على إحياء هذه الجماعة وإناطتِها بأدوارها المفيدة للمسجد، وهذا لا يستقيم نهجُه ولا تُؤتى ثماره إلا بحياد هذه الجماعة، وللإمام دور مركزي في تفعيل دور هذه الجماعة وضمانِ حيادها حمايةً للمسجد وللإمامِ ولتدينِ الناس.
ثانيا: الحياد من مقتضيات القدوة الحسنة.
معلوم أن الأمةَ تبعٌ لأئمتها، إذ هم نواب عنها في صيانة الدين وحفظ الثوابت، وإقامة الشعائر، فإنما جعل الإمام ليؤتم به. فلذلك لزم فيه أن يكونَ حسنَ الأسوة في المجتمع؛ لأن في صلاحه صلاحُ المجتمع، وبزللـه يزِل الناس.
وقد كان من وصايا النبي ﷺ لوفود الصحابة: «إنكم قادمون على إخوانكم؛ فأحسنوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس، إن الله لا يحب الفحش والتفحش». رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فمن تخلى من الأئمة عن حياده سقطت قدوته، كيف لا وقد انحرف عن جادة الطريق، وتحلى بحلية المتنافسين في الأهواء، واختار ترجيح طائفةِ على أخرى، وقبِل أن يكون عامل تشرذم وتفرقة، فإذا أحبته طائفة كرهته أخرى، فطعَن في مروءته، ونكث عهده، وأخلف وعده.
ثالثا: حياد الإمام قوة وحرية
أيها الأئمة الفضلاء؛
إن حياد الإمام في جماعته يتطلب منه شخصية قوية ذات رزانة وحكمة، وهذه القوة يُصَرِّفها الإمام من خلال القدوة التي يجسدها بعلمه وسمته وخلقه، ولن تتعزز هذه القوة المعنوية إلا بالحرية إزاء الأغيار البشرية، ففي أي جماعة نجد نزوع بعضِ الناسِ إلى إرادة التحكم في غيرهم، والتوقِ إلى استعبادهم، وهذا الاستعبادُ يكون إما بالقهر أي: الخوف، وإما بالطمَع؛ وحريةُ الإنسان مقرونة بعزته، فلا يخضع لقهر يتوهمه، أو لطمع يهلكه. وضعف الإمام ناشئ عن أحد هذين الوجهين أو عن كليهما، وأما القوي فهو بالضرورة متحرر منهما.
إن حفظ حرمة المسجد وحياده لا يحققه إلا مؤمن موحد لا يتأثر بضغوط الخوف والحاجة، ولا يعترف لأحد بقدرته على أن يملك ناصيته تحت التهديد أو الطمع والإغراء.
عن أبي أيوبَ ﭬ قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال يا رسول الله علمني، وأوجز، قال: «إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تُكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس». رواه ابن ماجه في سننه، والحاكم في مستدركه وصححه.
وقد كان أهل العلم والصلاح يوصون الأئمة بالحذر من الميل مع رغبات العوام ومسايرة أهوائهم، ويحثونهم على الاستقامة والعدل، وإن خالف هواهم؛ وهذا ما يعزز الاستغناء عن الناس بالله؛ فلا يناسبُ أن يخطبَ فيهم الدنيا وهم يطلبون فيه الآخرة؛ فمن المستحب ألا يطمع في أموال المصلين، لأن الطمع في مالهم يكون سببا لفساد الدين والمداهنة والمحاباة ومراعاةِ جانبهم، وهذا قد يتولد عنه السكوتُ عن فساد بعض أحوالهم، أو قبولُ ما يصدر عنهم مما يخالف الشريعة؛ وهذا كله فساد في الدين.
رابعا: رفع درجة الحياد في بعض المواقف والمناسبات
الإمام بطبعه وتكوينه لا ينبغي أن يكون خبا مخادعا أو غرا ساذجا، فقد يواجه الإمام بعضَ المواقف تتطلب منه حنكة لئلا يُستغل منصبُه وقدوتُه من طرف من يسعون إلى الترويج لأعمالهم التجارية أو حملاتهم الانتخابية أو لتحقيق أغراضَ شخصية، فإذا كان الإمام غرا عديم التجربة في مخالطة الناس استغل أصحاب النوايا السيئة سذاجته فمرروا عبره رسائل للمستهدفين حققوا بها مآربهم الشخصية والتجارية والجمعوية والانتخابية.
وفي هذا الصدد قد تقوم بعض الجمعيات من المجتمع المدني ببعض وظائف جماعة المسجد، ولكنَّ حضورَ الإمام بشخصيته وحكمته وتبصره يمنع استغلالها خدمةَ المسجد في أغراض الدعاية لأفكارها وتوجهاتها ورموزها وانتماءاتها السياسية، فليس الإمام غمرا يخدع بالمظاهر والحيل، وفي هذا الإطار ينبغي أن تفهم الإجراءات التي اتخذتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لضمان حياد المساجد.
وكلكم تتذكرون المذكرة الصادرة في شأن حياد المساجد، والقائمين عليها في الانتخابات التشريعية، حيث أكدت فيها الوزارة أنه “حرصا على الحفاظ على حياد بيوت الله والقائمين عليها وتجنيبهم كل انحياز محتمل قبل وأثناء الاستحقاقات التشريعية يتعين على جميع القيمين الدينيين وجوب تفادي كل ما يفهم منه صراحة أو ضمنيا قيامهم بدعاية لفائدة أو ضد أي مترشح أو هيئة سياسية أو نقابية”. ولمن يرغب في الترشح أو القيام بحملة انتخابية لفائدة أو ضد بعض المترشحين، يتعين عليه التقدم بطلب إعفائه من مهامه الدينية شهرا على الأقل قبل فتح باب الترشيح، وكل مخالفة لهذه التعليمات تؤدي بعد التأكد من ثبوت وقائعها إلى إعفاء مرتكبها”.
أيها الأئمة الأفاضل؛
إن الله تعالى شرفكم بأن تكونوا مؤتمنين على تسيير المساجد، وإن الأئمة حراس ثغور هذا الدين، وحماة بيضة الأمة، والواجب ألا تؤتى الأمة من قبلهم، فإنهم ملح البلد والصفوة المقتدى بها في المجتمع.
إن حياد المساجد وأداءها للوظائف التي أنشئت من أجلها رهين بحياد القيمين الدينيين، وتساميهم عن الأهواء، ووفائهم بتعاقداتهم بالتزامهم بالثوابت الدينية والوطنية، وإن نجاح خطة تسديد التبليغ في بلدنا تحتاج إلى العلماء، والأئمة المتقين لحماية البلد ممن يتربصون به من الجاهلين والمبطلين والمتطرفين، وجميع الأصناف من أعداء الوطن والدين.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الدين والعصمة من الأهواء والفتن.
وصل اللهم وسلم على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.