جارٍ تحميل التاريخ...

السيرة النبوية – مشهد غزوة بدر (1) – ذ. المصطفى زمهنى

السيرة النبوية – مشهد غزوة بدر (1) – ذ. المصطفى زمهنى

بسم الله الرحمن الرحيم

لما انتقل الرسول الكريم إلى المدينة المنورة، شرع في تثبيت أسس الدولة الإسلامية وبناء الحضارة الإنسانية، غير أن أعداء المشروع الجديد لم يهدأ لهم بال، وهم يلمحون منجزاته في التزكية والعمران، لذلك كان لزاما عليه أن يواجه كل اعتداء بما يلزم من الحزم والقوة.

وفي هذا السياق، خاض الرسول ﷺ مواجهات عسكرية دفاعا عن الدين والنفس والوطن.

ومن أهم الغزوات، وأُولاها غزوة بدر الكبرى، التي وصفها القرآن الكريم بيوم الفرقان. قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَےْءٖ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِے اِ۬لْقُرْب۪ىٰ وَالْيَتَٰم۪ىٰ وَالْمَسَٰكِينِ وَابْنِ اِ۬لسَّبِيلِ إِن كُنتُمُۥٓ ءَامَنتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ اَ۬لْفُرْقَانِ يَوْمَ اَ۪لْتَقَى اَ۬لْجَمْعَٰنِۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٌۖ﴾ [الأنفال: 41].

والمتأمل في أحداث هذه الغزوة ووقائعها، يجد أنها غنية بالدلالات والإشارات، نسوق منها في هذه الحصة مستفادين اثنين، وهما، التدافع سنة الله في خلقه، والنصر مشروط بالأخذ بالسنن الشرعية والسنن الكونية معا.

المستفاد الأول: التدافع سنة الله في خلقه.

إن من السنن الإلهية التي أجراها الحق عز وجل في خلقه سنة التدافع، التي بها تحفظ الأرض من إفساد المفسدين، وعبث العابثين، وبطش الباطشين. ذلك أن هذا القانون قائم على ثنائية الحق والباطل، وأن الباري سبحانه وتعالى قيض من الناس مصلحين صادقين ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك.

والتدافع أو الدفع مصطلح قرآني أصيل، لم تؤد معناه تلك المفاهيم التي استعملتها المنظومات الفلسفية من قبيل مفهوم الصراع.

قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دِفَٰعُ اُ۬للَّهِ اِ۬لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لَّفَسَدَتِ اِ۬لَارْضُۖ وَلَٰكِنَّ اَ۬للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَ۬لْعَٰلَمِينَۖ ﴾[البقرة: 249]. وقال أيضا: ﴿وَلَوْلَا دِفَٰعُ اُ۬للَّهِ اِ۬لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ لَّهُدِمَتْ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اَ۪سْمُ اُ۬للَّهِ كَثِيراٗۖ وَلَيَنصُرَنَّ اَ۬للَّهُ مَنْ يَّنصُرُهُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌۖ﴾ [الحج: 38].

إن التدافع حمال لمعان عديدة منها الإنالة والحماية. يقول الراغب الأصفهاني: “الدفع إذا عدي بإلى اقتضى معنى الإنالة، نحو قوله تعالى: ﴿فَادْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمُۥٓ أَمْوَٰلَهُمْ ﴾[النساء: 6]، وإذا عدي بعن اقتضى معنى الحماية، نحو: ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ اِ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْۖ ﴾[الحج: 36]، وقال: ﴿وَلَوْلَا دِفَٰعُ اُ۬للَّهِ اِ۬لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ﴾[البقرة: 249]، وقوله: ﴿لَيْسَ لَهُۥ دَافِعٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ ذِے اِ۬لْمَعَارِجِۖ﴾ [المعارج: 2-3]، أي: حام، والمدفع: الذي يدفعه كل أحد، والدفعة من المطر، والدفاع من السيل”([1]).

وهذا يعني أن الحق والباطل أزليان ثابتان لا يرتفعان، وأن الظاهر منهما هو الذي تصطبغ به الحياة، غير أنه مهما كان الحال، فإن للحق قدرة ذاتية في دمغ الباطل وزهقه شريطة أن يكون أهل الحق محققين لوصف الحق في أنفسهم لينالوا وعد الله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى
اَ۬لْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۖ﴾ [الأنبياء: 18]، وهذه هي رسالة الأنبياء والمرسلين والمصلحين من العلماء والسلاطين عبر التاريخ، الذين تدفع بهم فتن الدين والدنيا.

وقد حرر الإمام الرازي في الموضوع كلاما نفيسا جاء من ضمن ما جاء فيه قوله: “المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله: ﴿وَلَوْلَا دِفَٰعُ اُ۬للَّهِ اِ۬لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٖ﴾، إشارة إلى المدفوع، وقوله: ﴿بِبَعْضٖ﴾، إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما.

أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات.

الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى، فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات. قال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ اَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَ۬لنَّاسَ مِنَ اَ۬لظُّلُمَٰتِ إِلَى اَ۬لنُّورِ﴾ [إبراهيم: 1].

والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير، فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ على ما قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ا۟خْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ ﴾[آل عمران: 110]، ويدخل في هذا الباب، الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى، لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام، ونظيره قوله تعالى: ﴿اُ۪دْفَعْ بِالتِے هِيَ أَحْسَنُ اُ۬لسَّيِّئَةَۖ﴾[المؤمنون: 97]، وفي موضع آخر: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ اِ۬لسَّيِّئَةَۖ ﴾ [الرعد: 24] و[ القصص: 54].

الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض، واعلم أن الدافعين على هذا التقدير، هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك، ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع، هم الذين دفع الله بسببهم، وبسبب شريعتهم، الآفات عن الخلق، فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع، لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع،كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة، فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام. واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة، فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك…([2])

المستفاد الثاني: النصر مشروط بالأخذ بالسنن الشرعية والسنن الكونية معا.

يقصد بالسنن الشرعية ما أمر الله تعالى به عباده مما أوجبه عليهم من صنوف العبادات: كالدعاء، والصلاة، والزكاة، والحج، والمعاملات، والأخلاق كالصدق، والوفاء …

أما السنن الكونية فهي تلك القوانين الكبرى والنواميس العظمى التي أقام الله تعالى عليها الكون، ولا علاقة لها بالجنس أو المعتقد…، لأنها ثابتة ولا تحابي أحدا.

ويعد مشهد غزوة بدر مشهدا دالا في أن النصر الحقيقي لا يتأتى إلا في الأخذ بالنوعين من هذه السنن: السنن الشرعية، والسنن الكونية، وهو المعبر عنه في ديننا بالتوكل، الذي يقتضي الاعتماد على الله أولا، والأخذ بالأسباب.

فقد كان النبي الكريم مستغرقا في الدعاء، والتضرع إليه سبحانه وتعالى، ملحا على ربه تعالى أن ينصره على عدوه، إذ نظر ﷺ يوم بدر إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد فى الأرض. فمازال يهتف بربه مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه. وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمُۥٓ أَنِّے مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ اَ۬لْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدَفِينَۖ ﴾ [الأنفال: 9]؛ فأمده الله بالملائكة([3])

وفي مقابل هذا، أعد النبي ﷺ الخطة المناسبة للغزوة، ونهج الأسلوب الملائم للمكان، واتخذ ما يلزم من تدابير وإجراءات واحتياطات مما يقتضيه النصر من حسن الإعداد وسديد التخطيط.

ومن معالم التخطيط:

  • توحيد الجبهة الداخلية للصف الإسلامي بإشراك الأنصار والمهاجرين في اتخاذ قرار الخروج لبدر؛
  • بناء حوض الماء ليشرب المسلمون ويُحرَمَ العدو؛
  • بناء العريش مقرا لقيادة الجيش؛
  • اعتماد أسلوب الصفوف المرصوصة في القتال، وهو أسلوب جديد لم تعهده العرب.

 مفردات ألفاظ القرآن 1/348، دار القلم، دمشق. ([1])

 مفاتيح الغيب 6/518، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثالثة 1420 هـ. ([2])

 صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم. ([3])


At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)