You may also like
Page 3 of 5
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أيها الأئمة الفضلاء، إن مما تقصد إليه خطة تسديد التبليغ: إصلاح ذات البين بين أبناء المجتمع، ونبذ الفرقة والعداوات والخصومات.
فعن أبي الدرداء – رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله – ﷺ -: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ»[1].
وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، وقال أيضاً: ويُرْوَى عن النبي – ﷺ – أنه قال: «هي الحالِقة، لا أقول: هي تحلِقُ الشَّعْرِ، ولكن تَحْلِقُ الدِّين».
1ـ تخريج الحديث:
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، في كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، والترمذي في صفة القيامة، باب سوء ذات البين هي الحالقة، من حديث أمِّ الدَّرداء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
2ـ شرح مفردات الحديث:
3ـ المعنى الإجمالي للحديث:
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة الجليلة؛ لأن فيه حثّاً وترغيباً في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها؛ لأن الإصلاح من مكارم الأخلاق العظيمة، وشعبة إيمانية وشرعة إسلامية، وسبب للاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق بين المسلمين، وفساد ذات البين ثلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجة فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه، فعلى هذا ينبغي أن يحمل الصلاة والصيام على الإطلاق، والحالقة على ما يحتاج إليه أمر الدين[7].
لهذا اعتبر النووي رحمه الله أن إزالة الخصام دليل سمو النفس التي تعمل على إشاعة المودة بين الآخرين، ليحل الوفاق محل الشقاق، والصلة مكان القطيعة، لذا كانت درجة من يصلح بين الناس أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة التطوع لا الواجبة[8]. يعني المراد بهذه المذكورات النوافل منها دون الفرائض، فإذا خيرت بين أن تصلي النافلة أو تصلح بين الناس، فإن الحديث يخبرك أنك إذا أصلحت بين الناس فهو أعظم من صلاة النافلة التي تصليها.
وذهب الباجي إلى القول[9]: “بأنه يريد والله أعلم صلاح الحال الذي بين الناس، فذكر أنها خير من كثير من الصلاة والصدقة، يحتمل أن يريد به النوافل فيكون معناه أنها خير من كثير من جنس الصلاة والصدقة، ويحتمل أن يريد بها أنها خير من إكثار الصلاة والصدقة وهو أيضا راجع إلى النافلة، ويحتمل أن يريد بها أنها خير وأكثر ثوابا بما يسديه بعضهم إلى بعض مع ما في إصلاح ذات البين من حسن المعاشرة والمناصحة والتعاون، ويحتمل أن يريد أن كثرة الثواب تكون باحتساب الأذى”.
والحالقة تعني: أنها لا تبقي شيئا من الحسنات حتى تذهب بها كما يذهب الحلق بالشعر من الرأس ويتركه عاريا[10].
فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه ورضا الخصمين؛ فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل؛ فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم[11].
والإصلاح حث عليه الكتاب والسنة بما هو معروف وسماه صدقة لأنه إيصال نفع إلى الغير، وله فوائد كثيرة ك: ترسيخ خلق المودة والمحبة بدل القطيعة والكراهية، وغرس قيم العفو والتسامح في النفوس، وإدخال السرور والسعادة على القلوب وتنقيتها من الحقد والغل والشحناء، وبذلك يكتسب الفرد الحسنات ويرتقي في الدرجات. فيؤدي ذلك إلى بناء مجتمع خيّر فاضل متماسك بروابط أخوية تمنع من خلالها عوامل الفساد والانحلال، ثم تذهب بعد ذلك روح الأنانية والبغضاء والتشاحن. لتحقيق هدف واحد هو مرضاة الله سبحانه وتعالى والتقرب إليه بالقول والعمل؛ مما يعود بالنفع على الفرد دنيا وأخرى.
وما أحسن قول القائل:
إنّ الفضائلَ كلّها لو جُمعتْ رَجَعتْ بأجمعها إلى ثِنتينِ
تعظيم أمرِ اللهِ جلّ جلالُه والسّعي في إصلاحِ ذاتِ البينِ[12]
وأما الإفساد بين الآخرين فيؤدي إلى القطيعة التي حرمها الشرع كما جاء في الحديث الشريف: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[13].
وفي الباب أحاديث كثيرة، منها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ»[14].
ومعنى تعدل بين الاثنين؛ أي تصلح بينهم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما عمل شيء أفضل من الصلاة وإصلاح ذات البين» “[15].
وقال الأوزاعي: “ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار”[16].
ولأهمية الصلح في الإسلام ومنزلته، فقد أجيز الكذب أحيانا من أجله، حيث في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه[17]: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرا وينمي خيرا» قال ابن شهاب الزهري: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس من كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
قال المنذري رحمه الله: “يقال نَمَيْتُ الحديثَ بتخفيف الميم إذا بلغته على وجه الإصلاح، وبتشديدها إذا كان على وجه إفساد ذات البين”[18].
ولعظيم أمر الإصلاح بين الناس أيضا أبيح للمصلحين ما حُرِّم على غيرهم؛ فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا إذا كان غرض المناجي لأحدهما الإصلاح بينهما، وقد ذم الله تعالى كثيرا من التناجي إلا ما كان للإصلاح ﴿لَّا خَيْرَ فِے كَثِيرٖ مِّن نَّجْو۪يٰهُمُۥٓ إِلَّا مَنَ اَمَرَ بِصَدَقَةٍ اَوْ مَعْرُوفٍ اَوِ اِصْلَٰحِۢ بَيْنَ اَ۬لنَّاسِۖ﴾ [النساء: 113]، وفي الآية الأخرى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ اِ۬لرَّسُولِۖ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْو۪ىٰۖ﴾ [المجادلة: 9]، ومن أعظم التناجي بالبر والتقوى ما كان للإصلاح بين مسلمين قد فسد ما بينهما.
4ـ ما يستفاد من الحديث:
هذا وصلى الله وسلم على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1]– رواه أبو داود في سننه، في كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين، رقم: (4919)، والترمذي في صفة القيامة، باب سوء ذات البين هي الحالقة، رقم: (2509)، ورواه أيضاً أحمد في المسند 6/444-445، وابن حبان في “صحيحه” :(5/149)، رقم: (4169)، وفي الباب، عند الطبراني والبزار من حديث عبد الله بن عمرو.
[2]– التوقيف على مهمات التعاريف، لزين الدين المناوي، ص:218.
[3]– معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، لمحمود عبد الرحمن عبد المنعم:2/389.
[4]– مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري:8/3154.
[5]– فيض القدير:3/106.
[6]– النهاية في غريب الحديث والأثر1/428.
[7]– شرح المشكاة للطيبي:10/3214.
[8] ـ شرح مسلم للنووي:16/117.
[9] ـ المنتقى للباجي:7/213.
[10] ـ المنتقى: 7/213.
[11] ـ إعلام الموقعين، لابن القيم: 1/85.
[12]– الازدهار في ما عقده الشعراء من الأحاديث و الآثار، للسيوطي، ص:9.
[13]– أخرجه مالك في الموطأ، باب ما جاء في المهاجرة، رقم: 13، والبخاري في صحيحه، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، رقم:6237، ومسلم في صحيحه، باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي، رقم: 2560.
[14]– أخرجه البخاري، باب فضل الإصلاح بين الناس، والعدل بينهم، رقم: 2707.
[15]– ذكره المنذري في الترغيب والترهيب (3/189) وعزاه للأصبهاني.
[16]– ذكره القرطبي في تفسيره: 5/385.
[17]– صحيح مسلم، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه قوله ﷺ، رقم: 2605.
[18]– الترغيب والترهيب للمنذري:3/488.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.