You may also like
Page 2 of 5
بسم الله، والحمد لله؛ والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد؛ فهذه هي حلقة من سلسلة دروس “التبليغ“؛ وهي حلقة “التبليغ والتأسيس للإيمان“، وهي تتشوف إلى بيان أهمية اضطلاع التبليغ بالتأسيس للإيمان في القلوب، وحيوية ترسيخه في النفوس، وسر ذلك أن الإيمان هو أساس مكونات الدين وجَذْرُها الذي يُثْمِر سائر أنواع البر والخير؛ فهو مِثْلُ الشَّجَرَةِ المُثْمِرة ليانع الثمار؛ قال تعالى: ﴿اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَ۬للَّهُ مَثَلاٗ كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ اَصْلُهَا ثَابِتٞ وَفَرْعُهَا فِے اِ۬لسَّمَآءِ تُوتِےٓ أُكْلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذْنِ رَبِّهَاۖ وَيَضْرِبُ اُ۬للَّهُ اُ۬لَامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَۖ﴾ [إبراهيم: 26-27].
وهذا التمثيل للإيمان بالشجرة يصلح لبيان مركزية قضية الإيمان في بناء الدين؛ لأنه يفيدنا في معرفة أن له أصولا راسخة، وفروعا باسقة، وثمارا يانعة؛ غير أن ثمار الإيمان زائدة على ثمار الشجرة بحيث تعظم فوائدها وتعم في الدنيا والآخرة، ولنتأمل قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام عن التوحيد الذي هو أصل أصول الإيمان في كتابه “شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال”: «اعلم أن معرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالا عَلِيَّةً، وأقوالا سَنِيَّةً، وأفعالا رَضِيَّةً، ومراتِبَ دُنْيَوِيَّةً، ودرجاتٍ أُخْرَوِيَّةً.
فمثل معرفة الذات والصفات كشجرة طيبة أصلها – وهو معرفة الذات – ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها – وهو معرفة الصفات – في السماء مَجْداً وشَرفاً ﴿تُوتِےٓ أُكْلَهَا كُلَّ حِينِۢ﴾ مِن الأحوال والأقوال والأعمال ﴿بِإِذْنِ رَبِّهَاۖ﴾ [إبراهيم: 27]، وهو خالقها إذ لا يحصل شيء من ثمارها إلا بإذنه وتوفيقه. مَنْبِتُ هذه الشجرة القلبُ الذي إِنْ صَلَح بالمعرفة والأحوال صَلَح الجَسَدُ كُلُّه. أما في الحال فبالأقوال والأفعال، وأما في المآل فبنعيم الجِنان ورِضوان ذي الجلال…»[1].
وسِرُّ إِثْمارِ شجرةِ الإيمان لفروعها وثمراتها؛ أن الإيمان يستلزم مراعاةَ مقتضيات التَّعَرُّفِ والتَّعْريف، والالتزامَ بعزائم الطَّلَب والتَّكْليف؛ قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ [المائدة: 1]؛ يقول العلامة الألوسي في بيان ما أشارت إليه الآية: «﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ﴾ بِالإيمانِ العِلْمِي ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ أيْ: بِعَزائِمِ التَّكْلِيفِ.
وقالَ أبُو الحَسَنِ الفارِسِيُّ: أمَرَ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ بِحِفْظِ النِّيّاتِ في المُعامَلات، والرِّياضاتِ في المُحاسبات، والحِراسَةِ في الخَطَرات، والرِّعايَةِ في المُشاهَدات.
وقالَ بَعْضُهُمْ: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ عَقْدِ القَلْبِ بِالمَعْرِفَةِ، وعَقْدِ اللِّسانِ بِالثَّناءِ، وعَقْدِ الجَوارِحِ بِالخُضُوعِ.
وقِيلَ: أوَّلُ عَقْدٍ عُقِدَ عَلى المَرْءِ عَقْدُ الإجابَةِ لَهُ سُبْحانَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وعَدَمِ المُخالَفَةِ بِالرُّجُوعِ إلى ما سِواهُ، والعَقْدُ الثّانِي عَقْدُ تَحَمُّلِ الأمانَةِ وتَرْكِ الخِيانَة»[2].
لقد احتفى منهج القرآن بقضية الإيمان فجعلها أَوَّلَ قواعدِهِ الكُلِّيَّةِ المَوْضُوعَة، وأولاها بأن تُبَلَّغَ فتكون مَسْموعَة؛ بحيث أبدى وأعاد في تقريرها في مراحل التبليغ كلها خاصة في المرحلة المكية؛ لتكون الأساسَ الوثيقَ الذي ينبني عليه امتثال الأحكام النازلة فيما بعد؛ يقول العلامة الشاطبي: « اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، وهي التي نَزَل بها القرآنُ على النبي ﷺ بمكة، ثم تَبِعَها أشياءُ بالمدينة كَمُلَت بها تلك القواعد التي وُضِع أَصْلُها بمكة، وكان أولَها: الإيمانُ بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم تَبِعَهُ ما هو من الأصول العامة؛ كالصلاة، وإنفاقِ المال وغيرِ ذلك، ونَهَى عن كل ما هو كُفْرٌ أو تابع للكفر (…) مما كان سائِراً في دين الجاهلية، وإنما كانت الجُزْئياتُ المَشْروعاتُ بمكة قليلة، والأصولُ الكليةُ كانت في النـزول والتشريع أكثر.
ثم لما خرج رسول الله ﷺ إلى المدينة، واتسعت خطة الإسلام؛ كملت هنالك الأصول الكلية على تَدْريجٍ؛ كإصلاح ذات البين، والوفاءِ بالعقود، وتحريمِ المسكرات، وتحديدِ الحدود التي تَحْفَظُ الأمورَ الضرورية، وما يُكَمِّلُها ويُحَسِّنُها، ورَفْعِ الحرج بالتخفيفات والرخص، وما أشبه ذلك، وإنما ذلك كُلُّه تَكْميلٌ للأصول الكلية»[3].
إن سر تلك العناية بالإيمان لأجل كونه الأساسَ للالتزام بالدين المُخَلِّص، والشَّرْطَ لصحة التَّدَيُّنِ المُنْجي؛ ولأجل ذلك عَظُم موقعه، كيف لا وقد جعله الله سبحانه أَوْكَدَ سبيلٍ للنجاة من الخسران فقال: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِۖ ﴾ [العصر: 1-3]، يقول العلامة ابن عاشور: «والظرفية في قوله: ﴿لَفِے خُسْرٍ﴾ مجازية شَبَّهَت مُلازمةَ الخُسْرِ بإحاطة الظَّرْف بالمَظْروف، فكانت أَبْلَغَ مِن أن يُقال: إن الإنسان لخاسر.
ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقسم وحرف التوكيد في جوابه؛ يُفيد التَّهْويلَ والإنذارَ بالحالة المحيطة بمعظم الناس.
وأعقب بالاستثناء بقوله: ﴿اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ﴾ الآية. فيتقرر الحكمُ تامّاً في نفس السامع مُبَيِّناً أن الناس فريقان: فريق يلحقه الخُسران، وفريق لا يلحقه شيءٌ مِنه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحالٍ إذا لم يتركوا شيئا من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات.
ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبةُ مِن الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها؛ فقد تحقق له ضد الخسران وهو الرِّبْحُ المَجازي، أي: حُسْنُ عاقبةِ أَمْرِه، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب مِن سيئاته؛ فقد تَحَقَّقَ فيه حُكْمُ المُسْتَثْنَى منه وهو الخُسْران.
وهذا الخُسْرُ مُتَفاوِتٌ، فأعظمه وخَالِدُهُ الخُسْرُ المُنْجَرُّ عن انْتِفاءِ الإيمانِ بوحدانية الله وصدق الرسول ﷺ، ودون ذلك تكون مراتبُ الخُسْرِ مُتفاوِتَةً بحسب كثرة الأعمال السيئةِ ظاهرِها وباطِنِها. وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا تَرَك صاحِبُه الكبائِرَ والفواحِشَ، وهو ما فُسِّر به قَوْلُه تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬لْحَسَنَٰتِ يُذْهِبْنَ اَ۬لسَّيِّـَٔاتِۖ﴾ [هود: 114]…»[4].
غير أن الإيمان المطلوب للنجاة ليس مطلق الإيمان، وإنما هو الصادق مِن حَيْثُ هو داعٍ للعمل وباعِثٌ عليه؛ وهو ما يكون للإيمان به روحٌ لا يُتصور تَدَيُّنٌ حَـيُّ ومُؤَثِّرٌ بدونه؛ بحيث يَحْمِلُ المُكَلَّفَ – الساعي إلى رُشْدِ التَّدَيُّنِ – على تكييف قلبه بحالٍ من التحقق الفعلي المقوي له على بعث الجوارح إلى العمل بسهولة؛ يقول صاحب المنار في تفسير قوله تعالى: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِے وَلْيُومِنُواْ بِيَ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَۖ﴾ [البقرة: 185]، «وقال المفسرون في الأمر بالإيمان هنا أنه أمر بالمداومة عليه لأن الخطاب للمؤمنين، وذهب الأستاذ الإمام إلى أن الخطاب عام وأَنَّ حَظَّ من استجاب لله وللرسول منه أن يُحاسِبَ نَفْسَه ويُطالِبَها بأن تكون أعماله الظاهرة التي عُدَّ بها مُسلما صادرةً عن الإيمانِ اليقيني والاحتسابِ والإخلاصِ لله تعالى؛ ففي ذِكْرِ الإيمان بعد الاستجابة إشارةٌ إلى أن من الناس من يستجيب إلى الأعمال ويقوم بها وهو خِلْوٌ مِن رُوحِ الإيمان ﴿قالت الاعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم﴾ [الحجرات: 14].
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَۖ﴾ أي: بالجمع بين الإيمان والإذعان للأمر والنهي. والرشد والرشاد ضد الغي والفساد؛ فعلمنا أن الأعمال إذا لم تكن صادرة بروح الإيمان لا يُرجى أن يكون صاحبها راشدا مهديا، فمن يصوم اتباعا للعادة وموافقة للمُعاشَرين فإن الصيام لا يُعِدُّه للتقوى ولا للرشاد، وربما زاده فسادا في الأخلاق وضَراوَةً بالشهوات؛ لذلك يُذَكِّرُنا تعالى في أثناء سرد الأحكام بأن الإيمان هو المقصود الأول في إصلاح النفوس، وإنما الأعمالُ في صدورِها عنه وتَمْكينِها إياه»[5].
إنه إيمان يحرك الجوارح ويبعثها على سهولة الامتثال، وعظيم الإقبال على الصالح من الأعمال، بحيث يخرج العمل وعليه كسوة القلب لارتباطه بمدد تلك الروح الإيمانية؛ قال تعالى: ﴿لَنْ يَّنَالَ اَ۬للَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِنْ يَّنَالُهُ اُ۬لتَّقْو۪ىٰ مِنكُمْۖ﴾ [الحج: 35]؛ يقول العلامة البقاعي: « ﴿وَلَٰكِنْ يَّنَالُهُ اُ۬لتَّقْو۪ىٰ﴾ أيْ عَمَلُ القَلْبِ وهي الصِّفَةُ المَقْصُودُ بِها أنْ تَقِيَ صاحِبَها سَخَطَ اللَّهِ، وهي الَّتِي اسْتَوْلَتْ عَلى قَلْبِهِ حَتّى حَمَلَتْهُ عَلى امْتِثالِ الأوامِرِ الَّتِي هي نِهاياتٌ لِذَلِكَ، الكائِنَةُ ﴿مِنكُمْۖ﴾الحامِلَةُ عَلى التَّقَرُّبِ الَّتِي بِها يَكُونُ لَهُ رُوحُ القَبُولِ، المُحَصِّلَةُ لِلْمَأْمُولِ؛ قالَ الرّازِي في اللَّوامِعِ: وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ النِّيَّةَ الخالِصَةَ خَيْرٌ مِنَ الأعْمالِ المُوَظَّفَةِ – انْتَهى. فَإذا نالَتْهُ سُبْحانَهُ النِّيَّةُ قَبْلَ العَمَلِ فَتَلَقَّى اللُّقْمَةَ “فَرَبّاها كَما يُرَبِّي أحَدُكم فَلُوَّهُ حَتّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَل”[6]، ووَقَعَ الدَّمُ مِنهُ بِمَكانٍ[7]؛ فالنَّفْيُ لِصُورَةٍ لا رُوحَ لَها والإثْباتُ لِذاتِ الرُّوحِ، فَقَدْ تُفِيدُ النِّيَّةُ مِن غَيْرِ عَمَلٍ كَما قالَ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ ما مَعْناهُ “إنَّ بِالمَدِينَةِ رِجالاً ما نَزَلْنا مَنزِلاً ولا قَطَعْنا وادِياً إلّا كانُوا فِيهِ حَبَسَهُمُ العُذْرُ”[8]، ولا يُفِيدُ العَمَلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، والنِّيَّةُ هي الَّتِي تُفِيدُ الجَزاءَ سَرْمَداً، واللَّهُ المُوَفِّقُ»[9].
هذا والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.
[1]– شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، ص 64-65
[2]– روح المعاني 7/49.
[3]– الموافقات 3/335-336.
[4]– التحرير والتنوير 30/531-532.
[5]– تفسير المنار 2/172-173.
[6]– رواه البخاري، رقم 1410.
[7]– إشارة إلى حديث رواه الترمذي برقم 1493؛ قال فيه رسول الله ﷺ عن دم الأضحية: «وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا».
[8]– رواه بنحوه البخاري برقم 2839.
[9]– نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 13/53
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.