You may also like
Page 2 of 5
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه.
أيها السادة الأئمة الفضلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سعيد بالتواصل معكم مرة أخرى في رحاب آي الذكر الحكيم، لنقتبس من أنوار ما تهدي إليه السور: الإخلاص والفلق والناس، تتميما للدروس السابقة في قصار السور. فأقول وبالله التوفيق:
الهداية الأولى: فضل السور الثلاث:
مما تهدي إليه هذه السور الثلاث ما ورد في شأنها من أحاديث عن النبي ﷺ بما لها من فضل عظيم وبركة ينالها المحافظ على تلاوتها والمحب لقراءتها، والمتعوذ بها من كل مكروه.
فقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن خبيب أنه قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة، نطلب رسول الله ﷺ ليصلى لنا؛ فأدركناه، فقال: «أصليتم»؟ فلم أقل شيئا. فقال: «قل»، فلم أقل شيئا. ثم قال: «قل»، فلم أقل شيئا، ثم قال: «قل». فقلت يا رسول الله؛ ما أقول؟ قال: ﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖۖ﴾ [الإخلاص: 1]؛ والمعوذتين حين تمسى وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء»[1].
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها “أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات“[2].
وعن عائشة، رضي الله عنها: أن النبي ﷺ بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بــ﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖۖ﴾ [الإخلاص: 1]؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ، فقال: «سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟»، فسألوه، فقال: “لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها”، فقال النبي ﷺ: «أخبروه أن الله يحبه»[3].
وعن عقبة بن عامر قال: تهبطت مع النبي ﷺ من ثنية، فقال لي: قل يا عقبة، فقلت: ما أقول يا رسول الله؟ وتفرقنا، فقلت اللهم ردها عليّ من نبيك. ثم التقينا، فقال لي: قل يا عقبة، فقلت: ما أقول يا رسول الله؟ ثم تفرقنا، فقلت اللهم ردها عليّ من نبيك. ثم التقينا، فقال لي: قل يا عقبة، فقلت: ما أقول يا رسول الله؟ فقال: “﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖۖ﴾ [الإخلاص: 1]، و﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، و﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لنَّاسِ﴾ [الناس: 1]، ما تعوذ متعوذ ولا استعاذ مستعيذ بمثلهن قط“[4].
هذه مجموعة من الأحاديث تدل على فضل هذه السور الخواتيم لكتاب الله تعالى، وفيها نصوص كثيرة في هذه المعاني، ينبغي التواصي بها وتعليم الناس إياها، كما فعل النبي ﷺ مع عقبة بن عامر وغيره، تعليما لهم ما ينفعهم ويتحصنون به في يومهم وليلتهم.
الهداية الثانية: مضامين الإخلاص
سبق في بعض الأحاديث السابقة أن سورة الإخلاص صفة الرحمن، وهذا يوافق ما جاء في سبب نزولها حيث ورد أن قوما من المشركين قالوا للنبي ﷺ: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖ اِ۬للَّهُ اُ۬لصَّمَدُۖ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْۖ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُؤاً اَحَدٞۖ﴾ [الإخلاص: 1-3][5].
وذلك لما اشتملت عليه من الصفات الخاصة بالله تعالى من الوحدانية والصمدية التي تعني الاستغناء عن كل ما سواه، وافتقار كل شيء إليه، وعدم صدوره عن شيء، وعدم صدور شيء عنه، ونفي الشبيه والنظير والكفء.
وهذه صفات لا يمكن لأحد أن يدعيها لنفسه أو غيره من خلق الله. فكانت بحق صفة للرحمن الغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
وفي ﴿هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖ﴾ كلام كثير في معناه وإعرابه، ومختصره أن ﴿هُوَ﴾ ضمير عائد على الشأن، أي الشأن والأمر الله أحد، وقيل عائد على الرب في كلام القائلين للنبي ﷺ، انسب لنا ربك. فقال الله تعالى ملقنا لنبيه ﷺ الجواب: ﴿قُلْ هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖ﴾، وقيل غير ذلك.
والصمد من الصمود وهو الذي لا يقبل الاختراق والنفوذ إلى داخله، فالله تعالى لا ينفذ إليه، وله النفوذ في كل شيء، وقيل: الصمد هو الذي يصمد إليه، أي يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى أي شيء، والمعنيان متقاربان.
وفي السورة رد على المشركين الذين يعبدون آلهة متعددة، وقالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمُۥٓ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اَ۬للَّهِ زُلْف۪ىٰٓۖۖۖ﴾ [الزمر: 3]، وعلى اليهود الذين قالوا: ﴿عُزَيْرُ اُ۪بْنُ اُ۬للَّهِۖ﴾ [التوبة: 30]، وعلى المشركين الذين قالوا: ﴿اُ۪تَّخَذَ اَ۬للَّهُ وَلَداٗۖۖ﴾ [البقرة: 115][6]، وقالوا: الملائكة بنات الله. وعلى النصارى الذين يدعون ألوهية المسيح مع كونه مولودا من البشر، وقالوا: ﴿اَ۬لْمَسِيحُ اُ۪بْنُ اُ۬للَّهِۖۖ﴾ [التوبة: 30].
فكانت هذه السورة حجة قاطعة عليهم وسميت بسورة الإخلاص، لهذه المعاني.
وورد في فضلها أنها تعدل ثلث القرآن؛ لأنها تمثل التوحيد الممثل لثلث القرآن، إلى جانب الثلثين الآخرين: القصص والأحكام.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلا سمع رجلا يقرأ: ﴿هُوَ اَ۬للَّهُ أَحَدٌۖ﴾ يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله ﷺ، فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»[7]. أي ثوابها يعدل ثلث ثواب القرآن.
الهداية الثالثة: مضامين سورة الفلق
تهدي سورة الفلق إلى التعوذ والتحصن من شر المخلوقات كلها واللجوء إلى الله تعالى من شرها كلها، وهي بهذا المعنى حصن حصين ومعتصم منيع، يقول الله تعالى: ﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ اِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ اِ۬لنَّفَّٰثَٰتِ فِے اِ۬لْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ اِذَا حَسَدَۖ﴾ [الفلق: 1-5].
فالسورة كلها دعاء وتعوذ، فقوله تعالى: ﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لْفَلَقِ﴾ أي: أتحصن وأحتمي برب الفلق، والفلق فلق الفجر إذا فلق الظلمة بنوره، ومنه قوله تعالى: ﴿فَالِقُ اُ۬لِاصْبَاحِ﴾ [الأنعام: 97]. وقيل الفلق فلق كل حبة ونواها ليخرج النبات منها، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَ۬للَّهَ فَٰلِقُ اُ۬لْحَبِّ وَالنَّو۪ىٰۖ﴾ [الأنعام: 96].
وهذه الصفة خاصة بالله تعالى، فهو الواحد الأحد الذي يفلق الحبة فتنبت، والنواة فتخرج فسيلتها، وهو وحده المالك لسر النماء، وهو ﴿اَ۬لذِےٓ أَعْط۪ىٰ كُلَّ شَےْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَد۪ىٰۖ﴾ [طه: 49].
فيكون المعنى: أعوذ بالرب الذي يفلق الحب وكل كائن نام لينمو، والقادر على ذلك قادر على تحصين العبد من شر كل الكائنات المفلوقة والمنشطرة عند نشوئها.
وشر كل ذي شر إذايته للغير. و﴿مَا خَلَقَ﴾ شامل لكل المخلوقات، فهو تعوذ عام من كل مخلوق. وإذا أيقن العبد ذلك اطمأنت نفسه، وسعد في حياته وضمن لنفسه السكينة والراحة النفسية، فيعيش حياة طيبة في نفسه ومحيطه؛ إذ يؤمن جازما أن الله تعالى هو الحافظ من كل مكروه، ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حِفْظاٗۖ وَهُوَ أَرْحَمُ اُ۬لرَّٰحِمِينَۖ﴾ [يوسف: 64].
ومعنى ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ اِذَا وَقَبَ﴾؛ الغاسق هو: الليل إذا أظلم، وقيل غير ذلك من المعاني، والجامع لها أنه تقلب الليل والنهار، فيتعوذ المؤمن من تقلبات الليل والنهار وما تأتي به من الشرور والفتن. ووقب بمعنى كسف أو غرب أو أظلم، حسب المعنى المختار للغاسق.
﴿وَمِن شَرِّ اِ۬لنَّفَّٰثَٰتِ فِے اِ۬لْعُقَدِ﴾؛ والنفاثات هن الساحرات، التي تنفث في العقد جمع عقدة، وهي ما تعقد فيه سحرها.
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ اِذَا حَسَدَۖ﴾؛ فيه تحذير من الحسد وخطورته وأن له أثرا في الناس وإلحاق الضرر بهم، والحسد هو تمني زوال نعمة الغير حصلت للحاسد أو لم تحصل، وهو صفة مقيتة مذمومة، لا تكون إلا فيمن لا يرضى بحكم الله في خلقه، ويحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله. وفيه إساءة الأدب مع الله تعالى الرزاق لعباده، كما قال الشاعر:
أيا حاسداً لي على نعمتي أتدري على من أسأتَ الأدبْ
أسأتَ على الله في حكمه لأنك لم ترضَ لي ما وهبْ
أما الحسد بمعنى الغبطة، وهو أن يتمنى مثل نعمة الغير ليعمل بها خيرا كما عمل ذلك الغير، فهذا أمر مطلوب؛ من أجل التنافس في الخير، كما قال النبي ﷺ: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها “[8].
وخص الله تعالى السحر والحسد بالذكر بعد العموم تنبيها على خطورتهما وتشنيعا بمن يفعل ذلك وقبح صنيعه، فأول معصية في التاريخ معصية إبليس وسببها الحسد، وأول دم سفك في الأرض قتل قابيل لهابيل وسببها الحسد، وهو داء الأمم قبلنا الذي حذرنا منه رسول الله ﷺ في قوله: “دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم“[9].
الهداية الرابعة: مضامين سورة الناس
مما تهدي إليه سورة الناس المزيد من التعوذ والتحصن من شر مخلوقين خاصين؛ وهما الإنس والجان، فقال جل في علاه: ﴿قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ اِ۬لنَّاسِ مَلِكِ اِ۬لنَّاسِ إِلَٰهِ اِ۬لنَّاسِ مِن شَرِّ اِ۬لْوَسْوَاسِ اِ۬لْخَنَّاسِ اِ۬لذِے يُوَسْوِسُ فِے صُدُورِ اِ۬لنَّاسِ مِنَ اَ۬لْجِنَّةِ وَالنَّاسِۖ﴾ [الفلق: 1-6].
وفيه فوائد منها تكرار كلمة الناس مع اختلاف الصفات الإلهية التي أضيفت إليه، فالرب خالق ورازق ومرب أحوج ما يكون العبد إليه، والملك حاكم تخضع لعظمته الرقاب، والإله معبود تصرف إليه عبادات الناس المخلصين من عباده، فاقتضى ذلك المعنى تكرار كلمة الناس لتغير المراد منها حسب ما أضيفت إليه.
والوسواس الخناس صفتان من صفات الشيطان، فهو يوسوس العبد حين الغفلة، فإذا استيقظ وذكر الله خنس، أي انكمش وانقبض، كما في حديث ابن عباس لما سئل عن تفسير ﴿اِ۬لْوَسْوَاسِ اِ۬لْخَنَّاسِ﴾، فقال: “الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا سها وغفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس”[10].
ومعنى ﴿مِنَ اَ۬لْجِنَّةِ وَالنَّاسِۖ﴾؛ جار ومجرور متعلق بحال محذوفة من فاعل يوسوس، أي حال كون الموسوس من الجن والإنس، وهذا يدل على أن من الإنس شياطين كما كانوا من الجن، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِےٓءٍ عَدُوّاٗ شَيَٰطِينَ اَ۬لِانسِ وَالْجِنِّ يُوحِے بَعْضُهُمُۥٓ إِلَىٰ بَعْضٖ زُخْرُفَ اَ۬لْقَوْلِ غُرُوراٗۖ﴾ [الأنعام: 113].
وهاتان السورتان تدافعان عن النبي ﷺ وكانتا شفاء له من سحر سحره به أحد اليهود، وهو لبيد بن الأعصم، وأخذ من النبي ﷺ بعض الجانب البشري منه، ولم ينل من أمور رسالته، ولا شعر بذلك أصحابه الكرام، حتى شفاه الله بقراءة المعوذتين؛ وذلك تعليما لأمته كيف يتحصنون من شر الحسر والتخلص منه. ولم يكن ذلك نقصا في عصمة النبي ﷺ، بل من الأمور الجائزة في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ليكونوا أسوة للناس في التعامل مع تلك الأحوال؛ كما قال الشيخ ابن عاشر رحمه الله:
يجوز في حقهِمُ كلّ عرضْ ليس مؤدّيا لنقص كالمرضْ
وقال:
جواز الأعراض عليهم حُجتهْ وقوعها بهم تسل حِكمتُهْ
والكلام في هدايات هذه السور وأسرارها طويل الذيل، اكتفينا فيها بما تيسر وحضر، قصد الانتفاع بها خصوصا أنها كثيرة الدور في المحاريب، وعند تعليم الصغار، وفي الأختام القرآنية، وغير ذلك من المناسبات، فرأيت أن نتناول بعض مضامينها لترسخ في الذهن وتساعد على الانتفاع بها في سائر الأحوال.
وهي حصن للمسلم وعون له على النفس الأمارة بالسوء وعلى الشيطان الموسوس في صدور الناس. والموفق من وفقه الله تعالى.
وإلى لقاء آخر بحول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] – سنن أبي داود باب ما يقول إذا أصبح وإذا أمسى، 4/482.
[2] – صحيح البخاري باب فضل المعوذات 6/190.
[3] – صحيح البخاري باب ما جاء في دعاء النبي ﷺ 9/115.
[4] – مسند الحميدي تحقيق الأعظمي 2/376.
[5] – سنن الترمذي باب ومن سورة الإخلاص، 5/451.
[6] – ويونس: 68، والكهف: 4.
[7] – صحيح البخاري فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد، 6/189.
[8] – صحيح البخاري كتاب العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة، 1/25.
[9] – سنن الترمذي 4/245.
[10] – مصنف ابن أبي شيبة، 7/135.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.