You may also like
Page 2 of 5
أتناول في هذا الدرس الثاني معنى الفقه اصطلاحا، والفرق بين علم الفقه وعلم الأصول ثم الغاية من وضع أصول الفقه وأتناول في الأخير نشأته وطريق الأصوليين في تقرير قواعده وأدلته.
1-تعريف الفقه اصطلاحا:
سبق أن ذكرت لدى تحليل تعريف أصول الفقه باعتباره مركبا إضافيا أن الفقه يطلق في الاصطلاح على: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
شرح التعريف: الأحكام جمع حكم، وهو لغة: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، فنقول في إثبات القيام لزيد مثلا: زيد قائم وفي نفيه عنه لم يقم زيد، وفي اصطلاح أهل الأصول هو: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا، وهو الحكم الشرعي وينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي وحكم وضعي.
ووصف الأحكام بالشرعية يخرج منها الأحكام غير الشرعية، مثل الأحكام الحسية، كقولنا: الشمس محرقة، والأحكام العقلية، كالجزء أقل من الكل، والواحد نصف اثنين، والنقيضان لا يجتمعان…
ووصفها بالعملية يعني أنها: متعلقة بأفعال المكلفين العملية كالصلاة والزكاة والحج والبيع والإجارة … وقيدها بالعملية يخرج الأحكام الشرعية الاعتقادية، مثل: وجود الله، ونفي الشريك عنه، والإيمان بالملائكة والجنة والنار… فهذه أحكام شرعية؛ لكنها غير عملية فلا تدخل في مسمى الفقه.
ثم إن وصف العلم بهذه الأحكام العملية بكونه مكتسبا من الأدلة التفصيلية معناه: أن هذه الأحكام تستفاد بواسطة النظر في الأدلة الجزئية التفصيلية؛ لا من خلال النظر في الأدلة الكلية الإجمالية، لأن الاشتغال بالأدلة الكلية الإجمالية من عمل الأصولي وليس من عمل الفقيه، الفقيه تنحصر وظيفته في أخذ الأدلة والقواعد التي استخرجها الأصولي من خلال استقرائه لنصوص الشرع، ويطبقها على الأدلة الجزئية ، فالأصولي استقرأ نصوص الشرع، وانتهى إلى أن الأمر المطلق يفيد الوجوب، وهذه قاعدة كلية يأخذها الفقيه ويطبقها على الأوامر الجزئية المرتبطة بأفعال معينة يطبقها مثلا على قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ﴾ [المائدة: 1]، فيستنتج أن الوفاء بالعقود واجب لأن الأمر المتعلق به وهو فعل﴿أَوْفُواْ﴾ جاء مطلقا أي: لم يقترن به ما يصرفه عن الوجوب إلى غيره، والأمر المطلق يفيد الوجوب، والنتيجة أن الوفاء بالعقود واجب. وكذلك الأمر في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَۖ﴾ [البقرة: 82]، ورد فيه الأمر مطلقا فدل على أن حكم الصلاة وحكم الزكاة هو الوجوب.
يتضح من هذا أن الأصولي هو الذي يحدد الأدلة والقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، وأن الفقيه هو الذي يدرك هذه القواعد ويستوعبها ويطبقها على الأدلة الجزئية لاستنباط الأحكام العملية منها، نستخلص من ذلك أن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة والقواعد الكلية من حيث الاستدلال بها، والأحكام الشرعية الكلية من حيث ثبوتها بتلك الأدلة والقواعد، وأن موضوع الفقه هو أفعال المكلفين من جهة ما يثبت لها من الأحكام الشرعية. وأفعال المكلفين يدخل فيها الفعل وترك الفعل والقول…
2 -غاية علم أصول الفقه:
أما الغاية التي يراد تحقيقها من علم أصول الفقه؛ فتتجلى أساسا في ضبط التعامل مع نصوص الشرع، وضبط عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، فوظيفته إذاً وغايته وثمرته تنحصر أساسا في الاستنباط الصحيح من النصوص، وحماية هذا الاستنباط من الانحراف، هذه هي الغاية والحاجة التي دفعت الأئمة إلى وضع هذا العلم، وضبط قواعده ومباحثه، وإذا كان المشتغل بهذا العلم ليس في وسعه أن يستنبط الأحكام من أدلتها؛ فإنه يفيده في معرفة طرق الأئمة في توظيف قواعد هذا العلم في الاستنباط، والوقوف على كيفية استدلالهم على الأحكام، حتى إذا ظهرت نوازل جديدة لم يسبق للأئمة قول فيها؛ عرف كيف يلحقها باجتهاداتهم فيما يشبهها، وعرف كيف يُخرِّجُها على تلك الاجتهادات.
3-نشأة علم أصول الفقه:
عندما نتحدث عن نشأة هذا العلم ينبغي أن نفرق بين قواعد هذا العلم في استنباط الأحكام، وبين جمعها وترتيبها وتخصيصها بالتأليف، فقواعد هذا العلم وجدت مع وجود الاجتهاد الفقهي الذي بدأ في عهد الصحبة الكرام، فقد كان فقهاء الصحابة يجتهدون فيما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة، وكذلك فعل من جاء بعدهم من فقهاء التابعين، وأتباع التابعين، وأئمة الفقه الأوائل: كان لكل واحد منهم منهج في استنباط الأحكام يتضمن جملة من القواعد: كان بعضهم يصرح بهذه القواعد وبعضهم لا يصرح، وحين اتسعت رقعة الإسلام واختلط العرب بالعجم، ومارس الاجتهاد الفقهي من ليس أهلا له، انتبه العلماء إلى ضرورة ضبط قواعد الاجتهاد وجمعها وترتيبها وتحديد الشروط والصفات المؤهلة للاجتهاد الفقهي، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن أول محاولة من هذا القبيل؛ أي: محاولة جمع قواعد أصول الفقه حدثت على يد الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفَّى سنة 204 هـ، وذلك في مؤلفه المشهور بــ“الرسالة” الذي يعد مقدمة لكتابه الشهير “الأم“، فالإمام الشافعي إذن له فضل السبق في وضع مؤلف يضم مباحث علم أصول الفقه، أو هو أشهر من بدأ التأليف فيه إذا أخذنا بالاعتبار قول من ذهب إلى أن هناك من ألف في هذا الفن قبل الشافعي، وقد توالى التأليف في علم أصول الفقه بعد الشافعي، وسلك الأصوليون فيه ثلاثة مسالك في تقرير الأدلة والقواعد الأصولية.
المسلك الأول: مسلك المتكلمين وهو يقوم على تقرير الأدلة والقواعد المعتبرة في استنباط الأحكام، والاستدلال عليها بحجج عقلية ونقلية، كما فعل الشافعي في الرسالة، ومن تبع منهجه من الأصوليين، وهذه الطريقة اتبعها معظم الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة. من المؤلفات التي كتبت على طريقة المتكلمين: كتاب المستصفى لأبي حامد الغزالي، وكتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني.
المسلك الثاني: هو تقرير أدلة وقواعد أصول الفقه انطلاقا من النظر واستقراء الآراء الاجتهادية لفقهاء سابقين، وهو مسلك الأصوليين الأحناف، فقد تتبعوا فتاوى وآراء واجتهادات أئمتهم الأوائل، ووقفوا على مداركهم في الاجتهاد، وطرقهم في الاستدلال على الأحكام، واكتشفوا من خلال ذلك القواعد التي كان يتوصل بها أئمتهم إلى استنباط الأحكام، ثم دونوا هذه القواعد في مدونات خاصة، ومن الكتب المؤلفة على طريقة الحنفية: تمهيد الفصول في الأصول للسرخسي، وكتاب تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي…
المسلك الثالث: جمع منتهجوه بين المسلكين السابقين.
ومن المؤلفات التي جمعت بين مسلك المتكلمين ومسلك الأحناف: جمع الجوامع لتاج الدين ابن السبكي، وكتاب التحرير للكمال بن الهمام، وكتاب مُسَلَّم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور.
هذه إطلالة على نشأة علم أصول الفقه نذيل بها الحديث الذي تناولنا فيه بإيجاز بعض الجوانب المرتبطة بماهية هذا العلم ومضامينه الأساسية ومباحثه الكبرى، ووظيفته الأساسية، هذه الجوانب أردنا أن تكون بمثابة مقدمة ممهدة للدروس التي ستأتي إن شاء الله في هذا العلم وفق ما تقتضيه حاجة السادة القيمين الدينيين المستهدفين بهذه الدروس.
وإلى أن نلتقي في درس آخر بإذن الله أستودعكم الله، والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.