بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة ليوم 28 جمادى الآخرة 1447هـ الموافق لـ 19/12/2025م
“الحرص على أخذ العلم من أهله”
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، نحمده تعالى على ملة الإسلام والإيمان والإحسان ونشكره على هدي القرآن، وبيان سنة سيد ولد عدنان، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة صدق ويقين وبرهان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله الصادق الأمين سيد ولد عدنان، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين عليهم من الله الرضا والرضوان، ومن تبعهم وسلك نهجهم علما وعملا إلى يوم الدين.
أما بعد؛ معاشر المؤمنين والمؤمنات، فإن مما تجدر الإشارة إليه والتنبيه عليه، وهو من جملة أهداف “خطة تسديد التبليغ” ومراميها، التزامَ السنة في الحرص على أخذ العلم عن أهله، صيانة للدين من التحريف والتبديل، وحماية للأمة من التشويش والتضليل، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
“يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”[1].
في هذا الحديث النبوي الشريف يبين الرسول صلى الله عليه وسلم، أن حملة العلم عدول، ويحتمل أن يكون حضا على التزام العدالة أي يجب أن يكونوا عدولا، والمعنى المناسب لعصرنا ألا يكون علماء الأمة يدينون بالولاء والاتباع لهذا الفريق أو ذاك داخل المجتمع لأن أمرهم يتناول المبادئ المشتركة بين جميع الناس بمرجع الفهم السليم للدين، أي ليحمل هذا العلم العدول من الأمة؛ حتى يدافعوا عن المنهج السليم في أخذ العلم البعيد عن تحريف الغلاة لمعاني الشريعة ومقاصدها، وانتحال المبطلين من أهل الأهواء الذين يلوون أعناق النصوص لخدمة أهوائهم، وتأويل الجاهلين الذين ليسوا في العير ولا في النفير، وإنما تسلقوا سُلَّمَ الكلام عن الله وعن رسوله بغير علم، فيضلون ويضلون، ويفتنون الناس في دينهم، خصوصا في زمن شبكات التواصل الاجتماعي؛ فيتسورون البيوت بلا استئذان.
لذا حرص الصحابة الكرام والتابعون ومن بعدهم، على أن العلم لا يؤخذ إلا عن أهله، وأجمعت الأمة على ذلك، كما قال الإمام ابن سيرين، رحمه الله: “إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”[2].
يقصد رحمه الله أن السنة لا تؤخذ إلا من العلماء المتصفين بالعدالة والنزاهة والورع والصدق والضبط وغيرها من الصفات الحاملة على ملازمة التقوى والصدق في الظاهر والباطن.
وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ ينهى عن تتبع الغرائب التي ليس عليها العمل، ويحث الناس على التزام ما كان سنة ماضية، عمل بها الناس وانتشرت.
وقال الإمام مالك رحمه الله: “شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس”[3].
وقال رحمه الله: “لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه، وإن كان من أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث “[4].
ففي هذه الآثار، وغيرها كثير، ما يدل على أن المسلم يجب عليه التحري فيمن يأخذ عنه العلم، ويجب عليه النظر في أخلاق وسلوك من يعلمه العلم قبل فصاحته ولَسَنِه، والمسئولية هنا قبل كل شيء على من يحتاج ويأخذ لا على من يعرض بضاعته يبغي بها الشهرة.
فالعلم بالدين كما قال الإمام مالك رحمه الله هو ما كان ظاهرا ورواه الناس، أي كان معمولا به واشتهر اشتهارا واسعا، فما يُورَد عليه حينئذ هو الغريب الذي هو شر؛ لما يترتب عليه من افتتان الناس به، ويكرهه لانحرافه عن الجادة.
كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور؛ فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال”[5].
وهكذا اعتبر الإمام الشاطبي رحمه الله المعهود الذي عليه الناس هو ما ينبغي الإفتاء به وهو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، وكل ما سواه من إفراط أو تفريط أو غلو فهو مذموم شرعا.
نفعني الله وإياكم بقرآنه المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كما أمر، والصلاة والسلام على خير البشر، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في كل وقت وحين.
عباد الله؛ يستفاد مما تقدم ذكره أن المسلم عليه أن يتحرى من يأخذ عنه علمه وفقهه الذي يلاقي به ربه، كما يجب عليه التمسك بما عليه الناس في بلده الذي هو فيه، ولا يفتح على نفسه ولا على غيره باب الخلاف الذي قد يسبب فتنة وشرا بين الناس، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “الخلاف شر”[6].
يقصد الخلاف الذي يجعل الناس متنافرين فيما بينهم، ومتعادين بسبب خلاف في المستحبات وربما العادات، مما يوقع الناس في الفتنة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”[7].
وقال علي رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله”[8].
وعليه، فيجب الالتزام بالثوابت الدينية المجمع عليها، والتزام العلماء الربانيين الذين ينطلقون منها لحفظ دين الأمة وأمنهم الروحي، وللمحافظة على ما درج عليه الناس وعهدوه، وكان ظاهرا فيهم، ولا يجوز إيراد أي اجتهاد فردي عليهم؛ إذ لا ينقض اختيار باختيار آخر، ما دام العمل به جاريا.
وهذه هي الحكمة والغاية من التزام مذهب معين في العقيدة والعبادة والسلوك.
وقد أكرمنا الله تعالى بعقيدة جماهير الأمة؛ العقيدة الأشعرية الوسطية، ومذهب عالم مدينة رسول الله على ساكنها أفصل الصلاة والسلام: المذهب المالكي، وتصوف الإمام الجنيد المستند إلى الكتاب والسنة، وإمارة المؤمنين المؤسسة على البيعة الشرعية، والحامية للملة والدين.
وعلى هذا الأساس تشتغل مؤسسة العلماء في المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الجهوية والمحلية، الساهرة على الأمانة العلمية، المنوطة بها من قبل أمير المؤمنين وشعبه.
يقول الله تعالى:
﴿ وَإِذَا جَآءَهُمُۥٓ أَمْرٞ مِّنَ اَ۬لَامْنِ أَوِ اِ۬لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي اَ۬لرَّسُولِ وَإِلَيٰٓ أُوْلِے اِ۬لَامْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اُ۬لذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْۖ﴾ [9].
صدق العظيم.
هذا؛ فاتقوا الله، عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي المصطفى الأمين. فاللهم صل وسلم على سيدنا محمد صلاة وسلاما تامين إلى يوم الدين.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم في حسن القول وحسن الاقتداء.
وانصر اللهم بنصرك المبين، وتأييدك المتين، مولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمدا السادس، نصرا تعز به الدين، اللهم احفظه بحفظ كتابك، وبارك له في الصحة والعافية، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولانا الحسن، وشد أزره بشقيقه السعيد، الأمير الجليل مولانا رشيد وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشريفة.
وارحم اللهم بواسع رحمتك وكريم جودك، مولانا محمدا الخامس، ومولانا الحسن الثاني، اللهم طيب ثراهما، واجزهما خير ما جزيت محسنا عن إحسانه.
اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وعاف مبتلانا ومبتلى المسلمين، وارفع مقتك وغضبك عنا،
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
[1] . مسند الدارمي، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/210.
[2] . مقدمة صحيح مسلم، باب في أن الإسناد من الدين 1/14.
[3] . ترتيب المدارك 2/60.
[4] . المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي 1/403.
[5] . الموافقات للشاطبي 5/276.
[6] . سنن أبي داود، باب الصلاة بمنى 2/145.
[7] . مقدمة صحيح مسلم 1/11.
[8] . صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون آخرين 1/37.
[9] . النساء 82.




