النسخة المكتوبة
أيها السادة الأئمة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تقدم لنا في الحصة الماضية ذكر بعض تعاريف القاعدة من حيث هي؛ والقاعدة الفقهية، وسيرا على قول علمائنا: فائدة: العلم ثلاثة: المصطلح؛ والمنهج؛ والقاعدة” فإننا في حصة اليوم نتمم ما سبق ببيان بعض المصطلحات الواردة في تلكم التعاريف كما يلفيها الباحث في مشاهير مصادرها ومراجعها؛ لأن معرفة المصطلحات أساس لبناء المعارف وتحقيق الغايات.
فمما سبق من تعاريف القاعدة من حيث هي أنها:
“قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها”[1]
“قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها”.[2]
ومن حيث هي فقهية: “كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود، وجملة الضوابط الفقهية الخاصة”[3]
معنى القضية:
القضية من القضاء وهو الحكم، وهذا هو المراد ب “قضية” في قول ابن عاشر رحمه الله:
وحكمنا العقلي قضية … البيت.[4]
والمراد بها هنا أعلق بمنهج المناطقة من حيث التصور العام في الأصل وإن خالفه الفقهاء في الإعمال كما سياتي، والحكم معنى من نحو عشرة معان لكلمة “قضاء”، ونقل أبو منصور الأزهري أن مرجع تلك المعاني إلى التمام، وذلك في قوله:
“وقضى في اللغة على ضروب كلها ترجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه”[5]
ولتوضيح مصطلحات تطلق على ما تطلق عليه قضية باختلاف الاعتبارات نجلب هذا النص القائل:
“… المركب التام المحتمل للصدق والكذب يسمى من حيث اشتماله على الحكم “قضية”، ومن حيث احتماله الصدق والكذب “خبرا”، ومن حيث إفادته الحكم “إخبارا“، ومن حيث كونه جزءا من الدليل “مقدمة“، ومن حيث إنه يطلب بالدليل “مطلوبا”، ومن حيث يحصل من الدليل “نتيجة”، ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه “مسألة“، فالذات واحدة، واختلاف العبارات، باختلاف الاعتبارات، والمحكوم عليه في القضية يسمى موضوعا، والمحكوم به محمولا.”[6]
معنى كونها كلية:
أنها محكوم فيها على كل الأفراد، لا خصوص كون الموضوع كليا؛ لأنه قد يكون كليا لا يمنع الاشتراك في مفهومه ومع ذلك لا تكون قضيته قاعدة، ففرق بين الكلي المفهم للاشتراك في معناه المشار إليه بقول صاحب السلم:
فمفهم اشتراك الكلي ** كأسد وعكسه الجزئي[7]
وبين الكلي المراد هنا، فمما هو معلوم لديكم أن الفعل كلي دائما، ولا يخرجه عن ذلك تعيين الفاعل، والحرف ليس بكلي ولا جزئي؛ لأن معناه في غيره، والاسم منه الكلي والجزئي…الخ
والمراد بالجزئيات في سياقنا هذا الفروع الفقهية، قال العلامة العدوي مبينا معنى “الفرع”: هو لغة: ما بني على غيره، من حيث إنه بني على غيره، فخرج أدلة الفقه من حيث ينبني عليها الفقه؛ إذ هي بذلك أصول، وإن كانت من حيث تبنى على علم التوحيد فروعا لا أصولا.
واصطلاحا: ما اندرج تحت أصل كلي، فالفروع هي القضايا التي تحت القضية الكلية، وقد تطلق الفروع مجازا على افراد المفهوم الكلي، كذا في كبير الخرشي، وخلاصته أن الفروع هي المسائل التي بمعنى القضايا… ويطلق الفرع على الحكم، فيكون من عطف المرادف، ويكون مرادفا للمسألة بمعنى الحكم.[8]
أركان القاعدة الفقهية: [9]
بما أن القاعدة الفقهية حكم شرعي كلي تندرج فيه فروع فقهية فيمكن القول بأن للقاعدة الفقهية ركنين هما: المحكوم عليه، والمحكوم به.
وهما ما يسمى الموضوع والمحمول، والمحمول هو المحكوم به، فقد تضمن الحكمَ الذي جعله بعضهم ركنا ثالثا ولا حاجة إلى ذلك لظهوره.
من شروط الموضوع:
من شروط الموضوع وهو المحكوم عليه كونه كليا، أي أن يشمل كل فرد يندرج فيه بمعنى شمول الحكم الذي تضمنه المحمول لجميع أفراد الموضوع، وهذا من لوازم التجريد المشترط في صياغتها.
فلا تكون القاعدة قضية شخصية باعتبار الحكم ولا باعتبار المحكوم عليه، فمثلا “صيام شهر رمضان واجب” قضية ليست بكلية باعتبار تعلق الحكم بصوم شهر رمضان، فلا تسمى قاعدة على هذا المذاق.
والقضية الكلية هي المقدمة الكبرى لصغرى، فقولنا مثلا: وضوء متعلم لقرآن لمسّ اللوح مشقة، والمشقة تجلب التيسير، النتيجة: وضوء المتعلم يدعو إلى التيسير وهو عدم إيجاب الوضوء للمشقة كما علل به شراح المختصر عند قوله “ومنع حدث … إلى قوله ولوح لمعلم ومتعلم”.[10]
من شروط المحمول:
يشترط في المحمول وهو المحكوم به أن يكون حكما شرعيا، وأن يكون لا تردد فيه، ولذلك تعد القواعد المسبوقة بأداة الاستفهام في حكم قاعدتين متقابلتين على الخلاف.
من إطلاقات الفقهاء لمصطلح “قاعدة”
من الفقهاء من لم يلتزموا بضوابط التقعيد كما هي في خصوص إطلاق مصطلح ” قاعدة” فقد أطلقوها على أمور منها:
· أقسام الشيء؛
· أشياء محصورة في عدد؛
· أسباب الشيء؛
· شروط الشيء؛
· حكم شيء بعينه…
وكل ذلك من التوسع في الإطلاق، نعم منه ما يؤول بالتأويل إلى قاعدة كلية.
فمن أمثلة الإطلاقات التوسعية ما يلي:
· قاعدة: التكاليف على قسمين: أوامر ونواه…[11]
· قاعدة: المشاق قسمان: أحدهما لا تنفك عنه العبادة كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الأطول… [12]
· قاعدة: خمس اجتمعت الأمة المحمدية على حفظها ووافقها في ذلك جميع الملل التي شرعها الله تعالى…[13]
· “قاعدة: الموالاة شرط في الصلاة بالإجماع”[14]
· “قاعدة: أسباب الضمان ثلاثة…”[15]
· “قاعدة: السبب الرابع الخوف”[16] وذلك في بيان أسباب الجمع بين الصلاتين.
· “قاعدة: نصب الله تعالى الأوقات أسبابا للأحكام”[17]
وإلى حصة أخرى إن شاء الله تعالى.
فاللهم اجمع الجوامع وامنع الموانع.
آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] التعريفات للجرجاني
[2] شرح مختصر ابن الحاجب للعضد الإيجي مع حواشيه 1/69
[3] قواعد الفقه للإمام المقري ص: 77 تحقيق د. الدردابي ط: دار ابن حزم ودار الأمان.
[4] يراجع شرح الشيخ الطيب على توحيد المرشد المعين ص: 34
[5] تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري مادة: “ق ض ى”
[6] التلويح بمضمون التوضيح 1/133 ضمن الحواشي الخمسة المطبعة الخيرية بلا تاريخ.
[7] نظم السلم النورق في علم المنطق بشرح البناني ص: 60
[8] باختصار من حاشية العدوي، ينظر حاشية العدوي على شرح الخرشي لمختصر الشيخ خليل 1/ 55 عند قول المصنف رحمه الله: ” وأسأل بلسان التضرع والخشوع وخطاب التذلل والخضوع أن ينظر بعين الرضا والصواب فما كان من نقص كملوه ومن خطأ أصلحوه”
[9] قال الشيخ ميارة _ رحمه الله _ في تكميل المنهج:
الشرط عن ماهية قد خرجا = والركن جزؤها بها قد ولجا …. ثم قال بعد كلام: ” ويتلخص من ذلك أن الركن والجزء والفرض بمعنى واحد …” راجع الروض المبهج في شرح تكمبل المنهج 2/310 وما بعدها
[10] يراجع مختصر سيدي خليل بشرح الدردير وحاشية الدسوقي 1/126
[11] الذخيرة للقرافي 1/190
[12] الذخيرة للققرافي 1/340 باختصار
[13] الذخيرة 9/90
[14] نفسه 2/88
[15] الذخيرة 5/374.
[16] عين المصدر 2/375 باختصار. والنص في الأصل: ” السبب الرابع في الجواهر الخوف” يشير إلى كتاب الجواهر لابن شاس رحمه الله.
[17] المصدر قبله 2/490