النسخة المكتوبة
انطلاقا من قوله تعالى:
{يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪ىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ} [سورة الحجرات: 13]
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المصطفى الأمين، وعلى آله وصحابته والتابعين.
أما بعد فيا أيها السادة الأئمة الفضلاء.
سيكون مدار حديثنا اليوم عن التقوى باعتباره أساسَ التفاضل بين الناس، وذلك انطلاقا من قول ربنا سبحانه وتعالى في سورة الحجرات:
{يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪ىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ} [سورة الحجرات: 13].
وسنتناول هذه الآية الكريمة من خلال أربع وقفات:
1- الوقفة الأولى: تتعلق بسب نزول الآية:
قال الإمام الواحدي في (أسباب النزول):
“قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَقَوْلُهُ فِي الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يُفْسِحْ لَهُ ابْنُ فُلَانَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – ﷺ-: “مَنِ الذَّاكِرُ فُلَانَةَ؟” فَقَامَ ثَابِتٌ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: “انْظُرْ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ”، فَنَظَرَ فَقَالَ: “مَا رَأَيْتَ يَا ثَابِتُ؟” فَقَالَ: رَأَيْتُ أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، قَالَ: “فَإِنَّكَ لَا تَفْضُلُهُمْ إِلَّا فِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى”، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَة.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ – ﷺ- بِلَالًا حَتَّى أَذَّنَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَبَضَ أَبِي حَتَّى لَمْ يَرَ هَذَا الْيَوْمَ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هَذَا الْغُرَابِ الْأَسْوَدِ مُؤَذِّنًا؟، وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ شَيْئًا يُغَيِّرْهُ ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَا أَقُولُ شَيْئًا أَخَافُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ رَبُّ السَّمَاءِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ – ﷺ- وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَدَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَأَقَرُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَزَجَرَهُمْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّكَاثُرِ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِزْرَاءِ بِالْفُقَرَاء”[1].
فلنُشع بين المؤمنين والمؤمنات أيها الأئمة الكرام أنه لا تفاخر إلا بالدين والتقوى لا بالنسب والحسب والمال.
2– الوقفة الثانية: تتعلق بقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاس}
تكررت هذه العبارة في القرآن الكريم عشرين مرة، أولها في سورة البقرة التي تكررت فيها مرتين:
في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 20[.
وفي قوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ البقرة:167[.
والعشرون هذه: اثنان في سورة البقرة، وأربعة في النساء، وواحد في الأعراف، وأربعة في يونس، وأربعة في الحج، وواحد في لقمان، وثلاثة في فاطر، وواحد وهو الأخير في سورتنا هذه سورة الحجرات.
والمتأمل في هذه الآيات جميعا يجد أنها تخاطب جميع الناس، مؤمنَهم وكافرَهم، تدعوهم وتذكرهم بالله وبعبادته وحده لا شريك له، وإخلاصِ الدين له.
ولما كان المقصود من هذا الخطاب جميع الناس، ولم يكن محصورا بفئة المؤمنين، ناسب أن يكون بصيغة (يا أيها الناس)، دون النداء بـ (يا أيها الذين آمنوا).
وقد ذكر بعض العلماء من الفروق بين السور المكية والسور المدنية، أن الخطاب بـ (ياأيها الناس) يكون في السور المكية، والخطاب بـ (ياأيها الذين آمنوا) يكون في السور المدنية، وهو الغالب وليس القاعدة، فقد ورد في بعض السور المدنية كالبقرة والنساء الخطاب بـ (يا أيها الناس)، وورد في بعض السور المكية كالحج الخطابُ بـ (يا أيها الذين آمنوا)، ومعلوم عندكم أيها السادة الأئمة الكرام أن الراجح هو أن المكيَ ما نزل قبل الهجرة والمدنـــيَ ما نزل بعدها.
3- الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنث۪ىٰ}
فخاطب الله تعالى الناس مخبرا لهم أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء.
ولله در من قال:
الناسُ مِن جِهَةِ التِّمثالِ أَكفاءُ /// أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُّ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ /// وَأَعظُم خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ /// مُستَودعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ /// يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ /// عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
4– الوقفة الرابعة: مع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوباٗ وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۖ}
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “وجعلهم شعوبا، وهي أعم من القبائل، وبعدَ القبائل مراتب أُخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.
وقيل :المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل، وقد لخصت هذا (المتحدث ابن كثير) في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب :”الإنباه” لأبي عمَرِ بن عبد البر، ومن كتاب “القصد والأمم، في معرفة أنساب العرب والعجم” لابن عبد البر، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله – ﷺ- ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغِـــيبة واحتقار بعض الناس بعضا، منبها على تساويهم في البشرية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)[2].
5– الوقفة الخامسة: قولُه تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَ۬للَّهِ أَتْق۪يٰكُمُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ}.
ورد في الحديث المتفق عليه:
“قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ من أَكرَمُ النَّاسِ؟ قال أتقاهُم للَّهِ، قالوا: ليسَ عن ذلِكَ نسألُك؟ قال: يوسُفُ نبيُّ اللَّهِ ابنُ نبيِّ اللَّهِ ابنِ خليلِ اللَّهِ، قالوا ليسَ عَن هذا نسألُك؟ قال فعَن معادِنِ العربِ تسألونِي؟ فإنَّ خيارَهم في الجاهليَّةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقُهوا“[3].
قال ابن كثير رحمه الله: {إِنَّ اَ۬للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞۖ}: أي: عليم بكم، خبير بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله[4].
فاللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية، واجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا.
آمين، والحمد لله رب العالمين.
[1] أسباب نزول القرآن، الواحدي، تحقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، ط، دار الإصلاح، الدمام، ص:394.
[2] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، 7/385.
[3] صحيح الإمام مسلم، ت، محمد فؤاد عبد الباقي، ط، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 4/1846، باب من فضائل يوسف عليه السلام، رقم الحديث 2378.
[4] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السعودية، 7/388.


