بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
خطبة في موضوع:
«محاسبة النَّفس سبيلٌ إلى الحياة الطَّيبة»
الحمد لله الذي خلق الإنسان من طينة الأرض ونفخة السَّماء، وأودع في ما انطوى عليه من الأكوان سر النَّماء، نحمده تعالى على ما ألهم وأودع، ونشكره على ما فطر النَّاس عليه فأبدع، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة يقين توقظ الضَّمير من سُبات غفلته، وتحاسب النَّفس بمشاهدة المنعِم في نعمته، ونشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه من خلقه وخليله، أرسله الله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كله، وكفى بالله شهيداً، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله الأبرار الخيرة، وصحابته الكرام البررة، وعلى التابعين لهم بإحسان، صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فيا معاشر المؤمنين والمؤمنات، يقول الله تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪تَّقُواْ اُ۬للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٞ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ[1].
عباد الله، هذه الآية الكريمة أساسٌ في محاسبة النَّفس وإيقاظ الضَّمير، والمحاسبة المفهومة من قوله سبحانه:
وَلْتَنظُرْ نَفْسٞ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٖۖ
محاطةٌ بتقوى الله تعالى، المأمور بها مرتين قبل المحاسبة وبعدها. وختمت الآية بتأكيد مراقبة الله تعالى للعبد في كلِّ أعماله.
إِنَّ اَ۬للَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ.
واستحضارُ مراقبة الله تعالى وذكرِه؛ هو أكبر مساعدٍ على محاسبة النَّفس، يقول الحقُّ سبحانه:
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِے نَفْسِكَ تَضَرُّعاٗ وَخِيفَةٗ وَدُونَ اَ۬لْجَهْرِ مِنَ اَ۬لْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالَاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ اَ۬لْغَٰفِلِينَۖ[2] .
والضَّمير، إخوة الإيمان؛ هو الفطرة التي فطر الله عليها النَّاس، كما قال جلَّ شأنه:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاٗ فِطْرَتَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِے فَطَرَ اَ۬لنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ اَ۬لدِّينُ اُ۬لْقَيِّمُ[3].
ومجمل ما قال المفسرون في معنى الفطرة أنَّها الدِّين والجِبِلَّةُ التي جُبِل عليها الإنسان طاعةً لله وعبوديةً له، بما يركن الإنسان للفضيلة دون الرَّذيلة، وللحَسن دون القَبيح، ويشعر بالرِّضا عند موافقة أمر الله، وبعدم الارتياح عند مخالفة أمره.
فإن طغَتِ النَّفس الأمَّارة على الفطرة بأهوائها، وشهواتها، وشبهاتها، أضحت خافتة وليس لها تأثير، فتكون فاقدة لشعورها وإحساسها؛ ولذلك كان القرآن الكريم يركزُ على الشُّعور في الإنسان، ومدى أهميته في حياة الضَّمير ويقظته، ومحاسبة النَّفس وتربيتها على الخير، وصيانة الأعمال من الضَّياع.
وحبط الأعمال كنايةٌ عن عدم الانتفاع بها، كما قال البارئُ جلَّ وعلا:
اَن تَحْبَطَ أَعْمَٰلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَۖ[4]
وغياب الشُّعور بحبطها كنايةٌ عن الغفلة المؤدية إلى استرسال النَّفس في غلوائها والتَّمادي على الباطل.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء ناس من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنَّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به، قال:
«وقد وجدتموه؟»
قالوا: نعم، قال:
«ذاك صريحُ الإيمان»[5].
فعندما تستعظم النَّفسُ الإثمَ وتخاف عواقبه، فذلك صريحُ الإيمان المؤدِّي بها بعد اللَّوم والمحاسبة إلى الطُّمأنينة والسَّعادة الحقَّة.
ولذا كان الصَّحابة الكرام، يحرصون على محاسبة النَّفس في جميع الأحوال، امتثالاً لأمر رسول الله ﷺ، كما قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه:
“حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتَزَيَّنُوا للعَرض الأكبر، وإنَّما يَخِفُّ الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسَه في الدُّنيا” [6].
وكان الحسن البصري رحمه الله، يقول:
“إنَّ العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همَّته.[7] “
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن المبين، وبحديث سيِّد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابه المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذَّنب وقابل التَّوب على من تاب إليه، والصَّلاة والسَّلام على خير الخلق سيِّدنا ونبيِّنا محمد ما توالت الصَّلوات والتَّسليمات عليه، وعلى آله الطَّيبين الطَّاهرين، وصحابته المهديين المهتدين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فيا عباد الله، إذا أدركنا أنَّ محاسبة النَّفس وتزكيتها بالسُّلوك الحسن من أولى أولويات المسلم، وأنَّها السَّبيل الأمثل إلى الحياة الطَّيبة، الموعودة في القرآن الكريم، فإنَّ أسهل الطُّرق إلى ذلك وأبينَها؛ هو الاستمساك بحبل الله المتين، من خلال أمور أهمها:
أولا: ملازمة الذِّكر الباعث على اليقظة والمراقبة الدَّائمة
“لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله”[8]
والأخذُ بورد من القرآن للاستماع إلى وازع القرآن والإصغاء إليه:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ اَ۬لْقُرْءَانَ أَمْ عَلَيٰ قُلُوبٍ اَقْفَالُهَآۖ[9]
والتَّأملُ في قوله تعالى:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُۖ[10]
حيثُ يقرُّ العبد مرات كثيرة في يوم واحد بعبوديته لله تعالى وافتقاره إلى معونته، سائلاً إيَّاه الهداية في كلِّ أموره.
ثانيا: المحافظة على العبادات وأداؤها في الجماعات، ففيها من أسرار تزكية النُّفوس وتحليتها بالفضائل ما نطقت به الآيات القرآنية، ودلَّت عليه الأحاديث النَّبوية، ولذا شرعها الله تعالى متواليةً ومتتابعةً على العباد، يتقلَّبون فيها؛ فَمِن صلاةٍ إلى صيامٍ إلى زكاةٍ وحجٍّ وغيرها من سائر الطَّاعات.
ثالثا: اتِّقاء ظُلم العباد، في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، إذ من أمراض النُّفوس الأنانية، والكبر، وحبُّ الذَّات، والبُخل، والشُّح، وكلُّها أمراضٌ تعمي القلب وتوقع صاحبه في الظُّلم،
و”الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة”[11]
كما قال النَّبي ﷺ.
رابعا: ملازمة الصَّالحين ومجالس الخير، فبمجالسة الأخيار تَعتبر النَّفسُ وتتَّعظُ، وتسمو إلى الفضائل، وتتنكَّر للرَّذائل.
هذا، وأكثروا من الصَّلاة والسَّلام على سيِّد الخلق وحبيب الحقِّ، سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه، فاللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد بما هو أهله، وصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد بما أنت أهله، وارض اللهم عن الخلفاء الرَّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي صحابته الكرام، من المهاجرين والأنصار، والتَّابعين لهم بإحسان، وعنَّا معهم برحمتك وجودك وكرمك يا ربَّ العالمين.
وانصر اللهم من ولَّيته أمر عبادك، وبسطت يده في أرضك وبلادك، مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمداً السَّادس نصراً تعزُّ به الدِّين وتحمي به ملَّة الإسلام والمسلمين، اللهم احفظه بحفظ كتابك، وألبسه أردية الصِّحة والعافية، واجعل مفاتيح الخير على يديه، وأقر عين جلالته بولي عهده المحبوب الأمير الجليل مولانا الحسن، وشدَّ أزر جلالته بصنوه السَّعيد، الأمير الجليل مولانا رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة، إنَّك سميع مجيب.
وتغمد اللهم بواسع رحمتك، وعظيم جودك الملكين الجليلين مولانا محمداً الخامس، ومولانا الحسن الثَّاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وارحم والدينا، وارحم موتانا وموتى المسلمين، وارحم بفضلك جميع المسلمين والمسلمات، المومنين والمومنات، الأحياء منهم والأموات، إنَّك قريب سميع مجيب الدَّعوات، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الرَّاشدين فضلاً منك ونعمة.
اللهم تقبل منَّا صلاتنا وصيامنا وقيامنا، وركوعنا وسجودنا، وسائر أعمالنا ياذا الجلال والإكرام.
ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربَّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنَّا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النَّار. سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] – سورة الحشر، الآية: 18.
[2] – سورة الأعراف، الآية: 205.
[3] – سورة الروم، الآية: 29.
[4] – سورة الحجرات، الآية 2.
[5] – صحيح مسلم كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقول من وجدها، رقم: 132. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث الشريف: 164
[6] – سنن الترمذي أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم: 2459.
[7] – محاسبة النفس لابن أبي الدنيا باب ذم النفس، رقم: 6.
[8] – سنن الترمذي أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في فضل الذكر، رقم: 3375. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث الشريف : 9931
[9] – سورة محمد، الآية: 25.
[10] – سورة الفاتحة، الآية: 4.
[11] – صحيح البخاري كتاب المظالم باب الظلم ظلمات يوم القيامة، رقم: 2447.