You may also like
Page 5 of 9
جارٍ تحميل التاريخ...
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، السادة الأئمة الكرام؛ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بعدما تحدثنا عن بعض أحداث معركة بدر الكبرى وما يستفاد منها، نتحدث الآن عن بعض ما نتج عنها فأقول: بعدما انتهت أحداث بدر لصالح النبي ﷺ دخل الناس في فرحة نصر لم يتوقعوه وكاد يفتنهم من حيث الفخر كما تقدم، ومن حيث إرادة الانتقام الذي قد لا يخلو منه بعض من أتيحت لهم الفرصة ولاسيما من كانوا مضطهدين وكانوا من المستضعفين ومن جعل الله طبعهم الشدة في الحق كعمر رضي الله عنه، ومن حيث إرادة المال الذي حبب إلى الإنسان وتحبون المال حبا جما، ولا سيما من هم في حاجة إليه ممن نهبت أموالهم وهذا دأب الإنسان، وهذا دأب النعم إذا لم يحسن الانسان استغلالها، فقد تصير فتنة ونربأ بالصحابة رضي الله عنهم من أن ينساقوا وراء ما يلوث صحائفهم فإنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، ولهذا سأتحدث عن حدثين مهمين مبينا وناقلا لبعض أقوال العلماء فيهما لتتضح الصورة وتتضح الرؤية أكثر؛ أولهما الشورى وترجيح الرحمة، وثانيهما ما جاء مما ظاهره العتاب وأقوال العلماء في توجيهه مبتدئا بسرد بعض ما ورد في السيرة من ذلك.
جاء في السنن الكبرى للبيهقي رحمه الله لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم فيه، قال فسكت رسول الله ﷺ فلم يرد عليهم شيئا، ثم قام فدخل فقال ناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِے فَإِنَّهُۥ مِنِّے وَمَنْ عَص۪انِے فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ} [إبراهيم: 38]، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: {اِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُۖ} [المائدة: 120]، وإن مثلك يا عمر مثل موسى قال: {رَبَّنَا اَ۪طْمِسْ عَلَىٰٓ أَمْوَٰلِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُومِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ اُ۬لْعَذَابَ اَ۬لَالِيمَۖ} [يونس: 88]، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى اَ۬لَارْضِ مِنَ اَ۬لْكٰ۪فِرِينَ دَيَّاراًۖ} [نوح: 28]، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق.
فاختار ﷺ إذن الفداء بعد الشورى فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِےٓءٍ اَنْ يَّكُونَ لَهُۥٓ أَسْر۪ىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِے اِ۬لَارْضِۖ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَ۬لدُّنْي۪اۖ وَاللَّهُ يُرِيدُ اُ۬لَاخِرَةَۖ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ لَّوْلَا كِتَٰبٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذتُّمْ عَذَابٌ عَظِيمٞۖ} [الأنفال: 68-69]، وفي صحيح مسلم: “فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدان يبكيان. قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله ﷺ: ” أبكي للذي عرض علي، أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ” – شجرة قريبة من نبي الله ﷺ-.
أقول إنما استشارهم الرسول ﷺ لما روى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي قال: “جاء جبريل إلى النبي ﷺ يوم بدر فقال: خيِّر أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء” الحديث، أو أنه استشارهم لأنه لم ينزل شيء بعد في أمرهم، وكان من سنته ﷺ الشورى كما تقدم في كل مراحل الغزوة، وبعد سمعه الرأيين حمدهما معا إذ أصل لهما بسير الأنبياء من قبله وهما يرميان معا إلى إعزاز الدين؛
الأول: اختار استبقاءهم رجاء إسلامهم أو أن يخرج الله من أصلابهم ذرية صالحة توحد الله وقد وقع.
والثاني: رأى أنهم عقبة في وجه الدعوة ينبغي توطئتها لينتشر الدين واختار ﷺ ما فيه الرحمة على عادته؛ وكيف لا يختاره والله تبارك وتعالى قال في شأنه: {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةٗ لِّلْعَٰلَمِينَۖ} [الأنبياء: 106]؛ وكيف لا يختاره وهو الذي يقول إذا أوذي: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
-السادة الأئمة الكرام- هذا سرد لبعض نتائج بدر ولبعض أحداثها مع بعض من التعليق ونركز على حدثين كما تقدم
الحدث الأول وما يستفاد منه:
يستفاد من الحدث الأول مشروعية الشورى واستخراج الآراء المختلفة والنظر فيها وبيان مستند كل رأي وأوجه تأييده بالنقل أو بالعقل أو بالعادة، وإرجاع الحسم إلى القائد الأعلى، ويندب تعليل الرأي المرجح لتتضح الحكمة التي قد تخفى ليطمئن من ترك رأيه، على أنه لا بد من السمع والطاعة على كل حال وتصدير الرسول ﷺ بأبي بكر يشير إلى سبق الكتاب بالرحمة؛ رحمة الأسرى بإعطائهم فرصة التوبة، وقد وعد الله الذين يعلم في قلوبهم خيرا منهم بأن يؤتيهم خيرا مما أخذ منهم وأن يغفر لهم، فقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّبِےٓءُ قُل لِّمَن فِےٓ أَيْدِيكُم مِّنَ اَ۬لَاسْر۪ىٰٓ إِنْ يَّعْلَمِ اِ۬للَّهُ فِے قُلُوبِكُمْ خَيْراٗ يُوتِكُمْ خَيْراٗ مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ} [الأنفال: 71]، ورحمة من اختاروا فداء الأسرى لما في قلوبهم من الرحمة، وفي الحديث: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء“[1].ولذا لم يقع عليهم العذاب حتى على فرض تخطئتهم.
وأما أفضل الرأيين فقد اختلف فيه؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأي أبى بكر لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر، ولما استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه، وإما بذريته التي ولدت له بعد الواقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له الرحمة[2]“
أقول: يكفي أنه هو الذي مال إليه رسول الله ﷺ، وقول ابن حجر وقد اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب بصيغة اسم التفضيل يدل على تصويبهما معا وعلى أنهما في حدود المشروعية لأن اسم التفضيل يدل على المشاركة وزيادة أحد المتفاضلين على الأخر وهذا مقتضى التخيير، واقتصر على توجيه هذا الرأي لأنه يحتاج إلى التوجيه، لأن ظاهر ذم الدنيا قد يظن منه أنه مرجوح، بل ذهب بعض العلماء إلى المعاتبة عليه وهذا ما سنوجهه في الحدث الثاني.
الحدث الثاني:
توجيه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِےٓءٍ اَنْ يَّكُونَ لَهُۥٓ أَسْر۪ىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِے اِ۬لَارْضِۖ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَ۬لدُّنْي۪اۖ وَاللَّهُ يُرِيدُ اُ۬لَاخِرَةَۖ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞۖ لَّوْلَا كِتَٰبٞ مِّنَ اَ۬للَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذتُّمْ عَذَابٌ عَظِيمٞۖ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلاٗ طَيِّباٗۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّبِےٓءُ قُل لِّمَن فِےٓ أَيْدِيكُم مِّنَ اَ۬لَاسْر۪ىٰٓ إِنْ يَّعْلَمِ اِ۬للَّهُ فِے قُلُوبِكُمْ خَيْراٗ يُوتِكُمْ خَيْراٗ مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ} [الأنفال: 68-71]، كثيرا ما تشرح الآية على أنها عتاب للنبي ﷺ ولمن رجحوا الفداء وهذا قد يفهم منه بعض الناس أن الفداء معصية أو أنه كان خطأ، والعصمة وقواعد الشرع لا تتوافق مع هذا.
ولهذا قال القاضي عياض رحمه الله في إكمال المعلم: “هذا الفصل كله من مشكلات القرآن والحديث، وبيانه إن شاء الله تعالى: أنه لا يعتقد أن النبي ﷺ ومن معه عصوا فيما فعلوه من ذلك حتى استحقوا العذاب؛ إذ لا يعذب إلا على مخالفة أمر، ولم يتقدم في ذلك نهي فتقع فخالفته فيه”[3].
أقول لو كان الفداء معصية أو كان خطأ ما أقر الله عليه رسول الله ﷺ، لأنه لا يقره على معصية ولا على الخطأ في التشريع، ولما تأخر بيان الحكم عن زمان الحاجة، لكن إذا رجعنا إلى تخريج النبي ﷺ لقول من اختاروا الفداء بلين قلوبهم وجعله أسوتهم في الأنبياء السابقين إبراهيم وعيسى عليهما السلام، وتخريجه لقول من رجحوا القتل وقسوة قلوبهم في الحق وجعله أسوتهم في الأنبياء السابقين نوح وموسى عليهما السلام، فإنه يدل قطعا على استبعاد المعصية علما أن الرسول لا يقر عليها أصلا كما تقدم، لهذا؛ فالرأيان يتفاضلان داخل المشروعية لأنه لا معصية بدون انتهاك النهي، فيمكن القول بأنه من باب حسنة الأبرار سيئات المقربين.
وأما بكاء النبىي ﷺ، فإنما كان شفقة لنزول العذاب، بمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد بذلك رسول الله ﷺ ولا أبو بكر، وغيره من عليَّة أصحابه. والله أعلم
وقد انساق من رجح العتاب وراء ظاهر ما جاء في صحيح مسلم المتقدم، لكن الحكم لا يؤخذ من حديث واحد دون الرجوع إلى غيره مما جاء في الموضوع ودون الرجوع إلى قواعد الشرع العامة، والله أعلم.
وقد سلك القاضي عياض رحمه الله في كتابه إكمال العلم وكتابه الشفا مسلكا في توجيه الآية الكريمة يراجع في محله قال في كتابه الشفا: وأما قوله في أسارى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِےٓءٍ اَنْ يَّكُونَ لَهُۥٓ أَسْر۪ىٰ} الآيتين، فليس فيه إلزام ذنب للنبي ﷺ، بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء، فكأنه قال: ما كان هذا لنبي غيرك كما قال ﷺ: “أحلت لي الغنائم“، فإن قيل فما معنى قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ اَ۬لدُّنْي۪اۖ} الآية، قيل معنى: الخطاب لمن أراد ذلك منهم وتجرد غرضه لغرض الدنيا وحده والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي ﷺ ولا علية أصحابه، بل قد روي عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو.
أقول: والتحذير من إرادة متاع الحياة الدنيا تنبيه على خطورته، ولاسيما في مثل هذه المواطن إذ حبها هو الذي سيكون سبب معاناتهم في أحد، إذ كان سبب عصيان الرماة لأمر رسول الله لهم بالثبات فنزلوا لما رأوا الناس يجمعون الغنائم، والاتكال على القوة والكثرة وهو الذي سيكون سببا في معاناتهم يوم حنين، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ اِذَ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئْاٗ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اُ۬لَارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَۖ} [التوبة: 25]، والظفر كل الظفر في السمع والطاعة لأن الأمير يدرك ما لا يدركه غيره، وكل ما يوهم المعصية يحمل على غيره من النصوص المبينة والقواعد العامة للشرع،
والله الموفق، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] سنن الترمدي 4/323.
[2] فتح الباري 7/325.
[3] إكمال المعلم بفوئد مسلم 6/97.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.