You may also like
Page 7 of 9
جارٍ تحميل التاريخ...
أحاديث في ضوء مشروع خطة تسديد التبليغ لتحقيق الحياة الطيبة
روى الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة، حدّثنا أبو بكر المقرِئُ عن سعيدِ بنِ أيوبَ، حدثني شُرَحْبِيلُ (وهو ابنُ شَرِيكٍ) عن أبي عبد الرحمن الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ».
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، (2/ 730)، برقم: (1054).
ترجمة الصحابي راوي الحديث:
هو: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي، وكان أصغر من أبيه باثنتي عشرة سنة، وكنيته: أبو محمد[1]. أسلم قبل أبيه، وهاجر إلى المدينة[2].
روى عبد الله بن عمرو سبعمائة حديث، اتفق له الشيخان على سبعة أحاديث، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وحمل عن النبي ﷺ علمًا جمًّا، وله مقام راسخ في العلم والعمل[3]. روى البخاري عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي ﷺ أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب؛ وقال مجاهد: رأيت عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة فسألت عنها، فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمِعتُ من رسول الله ﷺ ليس بيني وبينه فيها أحد، توفي عبد الله بن عمرو بن العاص سنة خمس وستين، وهو يومئذٍ ابن اثنتين وسبعين سنة؛ رضي الله عنه وأرضاه.
شرح ألفاظ الحديث:
(قد أفلح من أسلم): أفلح من الفلاح: وهو البقاء والفوز والظفر، وهو من أفلح كالنجاح من أنجح[4]؛ والفلاح هو اسم جامع لحصول كل مطلوب ومحبوب، والسلامة من كل مخوف مكروه، وذلك إذا أسلم العبد؛ أي دخل الإسلام الذي هو النهج القويم والصراط المستقيم.
(الكفاف): هو ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحق بأهل الترفهات[5]؛ أي أهل الترف، فهو أخذ ما يكفي، بحيث لا يجعله محتاجًا ولا مضطرًّا، وكذلك لا يجعله مترفًا.
(وقنعه بما آتاه): قنعه من القناعة: وهي الرضا بالقسم، وقال ابن الأثير: وهو من القُنُوع: الرضا باليسير من العطاء، ومما أثر قولهم: “القناعة كنز لا ينفد”، وقولهم: “عَزَّ مَنْ قَنِعَ، وذَلَّ مَنْ طَمِعَ)؛ لأن القانعَ لا يُذِله الطلب، فلا يزال عزيزا، والطامع يذله الطلب والطمع والحرص، فلا يزال ذليلا مُهانا[6].
شرح الحديث وفوائده:
الفائدة الأولى: الفلاح في الدنيا والآخرة، وذلك ما جمع ثلاثة أمور:
أولاها: الإسلام، فعليه مدار الفوز بالثواب والنجاة من العقاب؛
وثانيها: حصول الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق؛
وثالثها: أن يقنعه الله تعالى بهذا الكفاف، لئلا تنشغل نفسه بملذات الدنيا عن إقباله على ربه، فيقسو قلبه، ويظل كالذي يأكل ولا يشبع لفقْده القناعةَ بما آتاه الله، فالذي أعطاه الله تعالى الإسلام وسلك بقلبه طريق الهداية، ولئلا ينشغل هذا القلب عن المقصود الأصلي في الحياة، وهو تمام عبادة الله تعالى حق العبادة، رزقه ما يكفيه من الدنيا، وجعل في هذه الكفاية قناعة للنفس وغنى للقلب؛ ليكون أكثر إقبالًا على ربه جل وعلا، والأحاديث يفسر بعضها بعضا ويأخذ بعضها برقاب بعض؛ فمن الأحاديث التي تفسر هذا الحديث، حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ليس الغِنى عن كثرةِ العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس”.[7]
فحُبُّ المالِ وطَلَبُه والحِرصُ عليه: طَبيعةٌ في النُّفوسِ، والنَّفْسُ تَوَّاقةٌ لا تَشبَعُ مهْما جَمَعتْ مِن مالٍ، والإسلامُ دَعا إلى القَناعةِ وحَثَّ عليها، والقَناعةُ هي الرِّضا بما قَسَمَ اللهُ، وعَدَمُ التَّطلُّعِ لِمَا في أيدي الآخَرينَ، ولكن هذا لا ينافي السعي والعمل، فليس في الأمر تعارض، فالسعي لابد منه، غير أن الدنيا ينبغي أن تكون في الجيب لا في القلب كما يقول عوام الناس.
وفي هذا الحديثِ يُبَيِّنُ النَّبيُّ ﷺ المَعنى الحَقيقيَّ لِلغِنى الواجِبِ على الإنسانِ الاجتِهادُ في تَحصيلِه، والذي يَرفَعُ دَرَجاتِه في الدُّنيا والآخِرةِ، فيُخبِرُ ﷺ أنَّ الغِنَى ليس كما يَظُنُّ النَّاسُ في كَثْرةِ المالِ، ولا في كَثْرةِ العَرَضِ، وهو: كُلُّ ما يُنتَفَعُ به مِن مَتاعِ الدُّنيا مِن أيِّ شَيءٍ كان؛ لأنَّ كثيرًا ممَّن وُسِّع عليه في المالِ لا يَقنَعُ بما أُوتِيَ، فهو يَجتهَدُ في الازديادِ ولا يُبالي مِن أيْن يَأتيهِ، فكأنَّه فقيرٌ مِن شدَّةِ حِرصِه؛ ولكنَّ الغِنى الحقيقيَّ المعتبَرَ الممدوحَ غِنى النَّفْسِ بما أُوتِيَتْ وقنَاعتُها ورِضاها به، وعدَمُ حِرصِها على الازديادِ والإلحاحِ في الطَّلب؛ لأنَّها إذا استَغْنتْ كَفَّتْ عن المطامِع، فعزَّتْ وعظُمتْ وحصَل لها مِن الحُظوةِ والنَّزاهةِ والشَّرفِ والمدحِ، أكثَرُ مِن الغِنى الذي يَنالُه مَن يكونُ فَقيرَ النَّفْسِ بحِرْصِه، فإنَّه يُورِّطه في رَذائلِ الأمورِ وخَسائسِ الأفعالِ؛ لِدَناءةِ هِمَّتِه وبُخلِه، ويَكثُرُ ذامُّه مِن النَّاسِ، ويَصغُرُ قَدْرُه عندَهم، فيكون أحقَرَ مِن كلِّ حَقيرٍ، وأذَلَّ مِن كلِّ ذَليلٍ، وهو مع ذلك كأنَّه فقيرٌ مِن المال؛ لكونِه لم يَستغنِ بما أُعطِيَ فكأنَّه ليس بغَنِيٍّ، ولو لم يكُنْ في ذلك إلَّا عدمُ رِضاهُ بما قَضاهُ اللهُ، لكَفَاه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا”.[8]
قال الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم في تفسير هذا الحديث: “أي: ما يقوتهم، ويكفيهم، بحيث لا يشوشهم الجَهد، ولا ترهقهم الفاقة، ولا تُذلهم المسألةُ والحاجة، ولا يكون أيضا في ذلك فُضُولٌ يُخرج إلى الترف والتبسط في الدنيا، والركون إليها، وهذا يدل على زهد النبي ﷺ في الدنيا، وتقلله منها[9] . إذ الحياة الطيبة السعيدة الهنية لا تقاس بحطام الدنيا وكثرة الأموال والعقارات والعمارات…بل قد يكون هذا فتنة لبعض الناس يؤدي إلى الطغيان؛ كما قال تعالى: {كَلَّآ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪ىٰٓ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪ىٰٓۖ} [العلق: 6-7]، وقال سبحانه: {وَيْلٞ لِّكُلِّ هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ اِ۬لذِے جَمَعَ مَالاٗ وَعَدَّدَهُۥ يَحْسِبُ أَنَّ مَالَهُۥٓ أَخْلَدَهُۥ} [الهمزة: 1-3]، وقد يفضي إلى أن تكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه؛ فيكب على جمعها؛ مع ما يصاحب ذلك من الهم والغم والنصب والخوف والعيشة الضنك، والانشغال عن عبادة الله وعن حقوق الأهل والرحم والناس والنفس، وما يرافق ذلك من العلل والأمراض والحساب في الآخرة.
وفي حديث أنس بن مالك في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ”.[10]
فوائد هذا الحديث وما سبقه من الأحاديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على أن الإنسان مفطور على حب المال، وقلَّ من يقنع بالقليل حتى يدخل في قبره وأمانيه لا تنقطع، والأدلة على إثبات هذه الفطرة عند الإنسان كثيرة من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ اِ۬لْخَيْرِ لَشَدِيدٌۖ} [العاديات: 8]، ومن السنة الكثير.
الفائدة الثانية: الحديث فيه دلالة على ذم الحرص على جمع حطام الدنيا والشره في ذلك، فيعلم الإنسان أن هذا مما تهواه النفس وتتعلق به، والسعيد من خالف هواه وتاب عن ذلك.
الفائدة الثالثة: وفي هذه الأحاديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ تصحيحُ النَّبيِّ ﷺ للمفاهيمِ، وتوضيحُه للمَعاني الشَّرعيَّةِ التي تنفَعُ المُسلِمَ في دينِه ودُنياه وآخِرَتِه.
هذا، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم القناعة، وأن يرضينا بما أعطانا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أسد الغابة؛ لابن الأثير، جـ 3، صـ 244..[1]
[2]-صفة الصفوة لابن الجوزي1/65.
(سير أعلام النبلاء؛ للذهبي، جـ 3، صـ 80).-[3]
-[4] انظر:النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجزري، مادة:(فلح)، 2/390، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ-2001م.
[5] -المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس القرطبي، 3/99، دار ابن كثير، دمشق بيروت، ط2، 1420هـ 1999م.
انظر: النهاية2/494، مادة: (قنع).- [6]
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.