You may also like
Page 4 of 9
جارٍ تحميل التاريخ...
يقول الحق سبحانه: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ صِدْقاٗ وَعَدْلاٗۖ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۖ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْعَلِيمُۖ﴾ [الأنعام: 116] من أكبر نعم الله علينا أن جعلنا ندين بدين كامل رضيه ربنا سبحانه وبعث به خير الخلق وأفضلهم.
لقد بلغ الدين بتمامه أحسن مبلغ وأوقره، وقوله سبحانه: (وتمت) قريب من قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ مُتِمّٞ نُّورَهُۥ﴾ [الصف: 8] أي محقق دينه، بل جعل الحق سبحانه هنا الإتمام مقابل الإطفاء، وهو ما يشير إلى نفي النقص والتحريف.
لقد بلغ الدين بكماله أقصى ما يمكن أن يكون عليه في وضوح أوامره وعدلها وصدقها، ووضوح نواهيه وصدقها وعدلها، فلا يوجد بينها ما يناقض الحياة ومصالح العباد.
فمن المفسرين من نسب الكمال إلى كمال الإيمان، ومنهم من نسبه إلى إكمال الفرائض والحلال والحرام، ومنهم من قال إن الإكمال هنا إكمال الشرائع والأحكام. ومن المفسرين من حصر مباحث القرآن كلها في قسمين؛ الأول في قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ صِدْقاٗ﴾ إن كان من باب الخبر، والثاني ﴿وَعَدْلاٗۖ﴾ إن كان من باب التكاليف، وهذا ضبط في غاية الحسن.
إن هذه الآية تبين أن دين الله مصون من التناقض والتعارض ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اِ۬للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اِ۪خْتِلَٰفاٗ كَثِيراٗۖ﴾ [النساء: 81]، ولا يَطَالُه التحريف والتغيير ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَ۬لذِّكْرَۖ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَۖ﴾ [الحجر: 9]، ولا يقبل الزوال والتبديل ﴿وَاتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۖ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلْتَحَداٗۖ ﴾ [الأنعام: 116]، والذي يجب أن يفهم في هذا المقام والحال هاته أن الدين إنما جاء لإصلاح أحوال الناس، ولا يكون ذلك إلا إذا تنزلت تعاليمه الهادية على حركات الناس وسكناتهم.
إن فهم الدين لا يكفي وحده لتنزيل تعاليمه، بل لابد من فهم الواقع وهو ما يحقق تدينا راشدا حين تقع معه الملاءمة بين تعاليم الدين ومقومات الحياة.
إن قيّومية الدين على سلوك المتدينين تكون وفق تبصير الناس عن عدم الخلط بين سلوكيات البعض حتى تصبح دِينا يُحاكم به الدين نفسه، أو يُحَاكم به البعضُ البعضَ الآخر تكفيرا وتفسيقا وتبديعا، فلا تظهر للناس قدسية الدين ولا معاني التدين، ثم إن التدين لم يكن يوما قولا باللسان بقدر ما هو قول وعمل وسلوك وصون للنفس وتزكية لها وإقامة الحقوق والتعاون على الفضل وبذل الإحسان، بل هو تعاون الأفراد والجماعات على البر والمعروف على أساس من معرفة الله تعالى، فلا يقبل من حياة المؤمن أن تُشَطَّر؛ جزء منها تحت نور الهدي، وآخر تغشاه الظلمات إذْ خرجت من سلطان الحق لتدخل تحت سلطان الهوى.
وبحكم وصف الضعف الذي وصف الله به الإنسان فقال: ﴿وَخُلِقَ اَ۬لِانسَٰنُ ضَعِيفاٗۖ ﴾ [النساء: 28] قد يعتري تديُّنه نقص أو إخلال، لكن لا يخرج عن الظالم لنفسه، والذي عدته الآية من المصطفين، وكما أن القرآن الكريم أقر هذا الضعف والنقص فقال: ﴿إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞۖ ﴾[إبراهيم: 36]، ﴿وَكَانَ اَ۬لِانسَٰنُ عَجُولاٗۖ﴾[الإسراء: 11]، ﴿وَكَانَ اَ۬لِانسَٰنُ قَتُوراٗۖ ﴾[الإسراء: 100]، ﴿وَكَانَ اَ۬لِانسَٰنُ أَكْثَرَ شَےْءٖ جَدَلاٗۖ﴾ [الكهف: 53]، ويتنوع بين ضعفِ الإدراك وضعفٍ آخر أمام الهوى والنفس والشهوات، ثم ضعفٍ في النية والعزيمة وضعفٍ عند الآفات والأمراض والأسقام.
إن استيعاب الانسان لضعفه يجعل تدينه أقلُّ تشددا وأكثرُ استقامة، استيعابُُ يجعله عارفا بقوة خالقه وأن ضعفه وزلته قد تكونُ مفتاح القبول، لأنه علم مكانه الصحيح بين المخلوقات، بهذه المعاني يشعر بلذة الوقوف بين يدي ربه سبحانه وتعالى يناجيه ليدفع عنه ضعف الإدراك ويشفيه من الأسقام ويفرج عنه الكربات، ينصره إن ظلم، ويعلمه إن جهل ويؤَمّنه إن خاف.
يقول الإمام الغزالي: “وهذا نوع من الطب وجب تعلمه على كل ذي لب، إذ لا يخلوا قلب من القلوب عن أسقام ولو أهملت وتراكمت، ترادفت العلل وتظاهرت[1]“، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد، يقول الله تعالى: ﴿قَدَ اَفْلَحَ مَن زَكَّيٰهَا﴾ [الشمس: 9]، وإهمالها هو المراد بقول الله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّيٰهَاۖ﴾ [الشمس: 10]، أما إن تشدد فقد حاد عن المنهج الحق وخالف الهدي النبوي، وهو الذي قوم سلوك النفر الثلاثة حتى ردهم إلى الاعتراف والحاجة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى“[2].
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: “أنتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون، لحقكم الملل وأدرككم الضعف والسآمة وانقطع عملكم، فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل[3]“.
وكما ترفض تعاليم الدين من المتدينين الغلو والإفراط والتشدد والتكلف وتحميل النفس ما لا تطيق، ترفض منهم التفريط في أركانه وقيمه، وفي مندوباته ومستحباته، والركون إلى الشهوات والأنانية واتباع الهوى والاستخفاف بشعائر الدين، قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اُ۬للَّهِۖ فَلَا تَعْتَدُوهَاۖ وَمَنْ يَّتَعَدَّ حُدُودَ اَ۬للَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لظَّٰلِمُونَۖ﴾ [البقرة: 227]، هذا هو الدين الكامل ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَٰتُ رَبِّكَ صِدْقاٗ وَعَدْلاٗۖ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۖ وَهُوَ اَ۬لسَّمِيعُ اُ۬لْعَلِيمُۖ﴾ [الأنعام: 116].
أما التدين فهو جهد بشري وكسب إنساني محدود، لا يخرج عن قول الحق سبحانه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اُ۬للَّهُ نَفْساً اِلَّا وُسْعَهَاۖ﴾ [البقرة: 285] وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اُ۬للَّهُ نَفْساً اِلَّا مَآ ءَات۪يٰهَاۖ﴾ [الطلاق: 8] وقوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلِانسَٰنِ إِلَّا مَا سَع۪ىٰۖ﴾ [النجم: 38] وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لِانسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ اِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاٗ﴾ [الانشقاق: 6] وقوله: ﴿ وَقُلِ اِ۪عْمَلُواْ فَسَيَرَى اَ۬للَّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُۥ وَالْمُومِنُونَۖ ﴾ [التوبة: 106]، والتدين كلمة حديثة لمعان قديمة تعني أن يلتزم المسلم بكل ما أمر الله به ولا علاقة لذلك بالمظهر الخارجي للإنسان كما يصنفه البعض، بل جوهره الالتزام بأحكام الشريعة، وأثر ذلك في الأخلاق والتعامل.
التدين يجيب عن سؤال كيف هو حضور توجيهات وقيم الدين في يومك وليلتك، في صحوتك وغفوتك، وفي صداقتك وخصومتك، وفي عبادتك ومعاملتك، وفي غضبك وحلمك؟
التدين الحق لا يكفي فيه صلاح الظاهر والعناية بالصور الجوفاء، وهو ما يسمى بالتدين القشري، بل لا بد من صلاح النفوس والقلوب، وهو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قل آمنت بالله ثم استقم[4]” أن يتحقق الإيمان وكمال الإيمان وتمامه وصدقه، ثم العمل الصالح “الاستقامة”، وتظهر في العبادة والأخلاق والمعاملات، وهنا يحصل التفاوت بين المتدينين على مراتبَ وسبلِِ جعلها القرآن الكريم ثلاثة؛ ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَ۬لْكِتَٰبَ اَ۬لذِينَ اَ۪صْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَاۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٞ لِّنَفْسِهِۦۖ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٞۖ وَمِنْهُمْ سَابِقُۢ بِالْخَيْرَٰتِ بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ هُوَ اَ۬لْفَضْلُ اُ۬لْكَبِيرُۖ﴾ [فاطر: 32]
قال أبو إسحاق السبيعي: “أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج[5]“، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية وقال: كلهم في الجنة، وقرأ عمر بن الخطاب هذه ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له[6]“.
وقد جاء في التفاسير أن؛
الأول: الظالم لنفسه، وهو من خلط عملا صالحا وآخر سيئا،
والثاني: المقتصد، وهو من يطيع الله ولا يعصيه، لكنه لا يتقرب بالنوافل،
والثالث: السابق بالخيرات، وهو من يمتثل للواجبات والمفروضات ولا يقرب المحرمات ويواظب على المندوبات.
قال الطاهر بن عاشور في تفسير الآية: “وأورثنا جعلنا وارثين، يقال: وَرِث، أي صار إليه مال ميت قريب، ويستعمل بمعنى الكسب من غير اكتساب ولا عوض… ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتبُ فيما بشرو به جيء بالتفريع في قوله: “فمنهم ظالم لنفسه”، فهو تفصيل لمراتب المصطفين لتشمل البِشَارة جميع أصنافهم، ولا يُظَنُّ أن الظالم نفسَه محروم منها، فمقام الاصطفاء هو الإيمان والإسلام، وهو الانقياد بالقول والاستسلام، والظالمون لأنفسهم هم الذين يَجُرُّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية، فإن معصية المرء ربَّه ظلم لنفسه لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليلا أو كثيرا، ولذلك قال آدم: “ربنا ظلمنا أنفسنا” أما المقتصد هو غير الظالم، فهو من اتقى الكبائر ولم يحرم نفسه من الخيرات المأمور بها، ولم يأت بمنتهى القربات الرافعة للدرجات، أما السابق بالخيرات فهو الواصل غاية معينة قبل غيره من الماشين إليها، وهو هنا مجاز لإحراز الفضل لأن السابق يحرز السبق”[7].
إذن وبناء على ما سبق يكون التدين تفاعل من المسلمين مع الدين في الحياة كحال الظالم والمقتصد والسابق، معتقَدا أو عملا وسلوكا، وهو كسبهم في الاستجابة لمأمورات الدين ونواهيه وتكييف حياتهم بحسبها لما يغالبون العوائق والشهوات والأنانية وحظوظ النفس، خاصة وأن الضعف في الانسان حاصل والقصور فيه ثابت، كما أن مغالبة الواقع المادي لها نصيب كبير وحظ وافر في هذا التصنيف، إذ هو واقع جعل الإنسانية أشياء وسلعا، وكان سببا في وجود نمط حياة تقودها الطباع السيئة وإن غُلِّفت بأسماء براقة؛ واقع غَلَّبَ نوازع الشهوات والتملكات سعيا وراء حياة يظن أنها ستكون طيبة بتلبية الحاجات المادية، وهذا وهم لأنه يخالف موعود الله في الأسباب المحققة للحياة الطيبة.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وفي حديث سيد الأولين والآخرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] إحياء علوم الدين، الغزالي، كتاب رياضة النفس والتهذيب والأخلاق ومعالجة أمراض القلب، 8/88.
[2] السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الصلاة، باب القصد في العبادة والجهد في المداومة، رقم الحديث 4743.
[3] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي و محمد عبد الكبير البكري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغرب، 1387 هـ، 1/194.
[4] صحيح مسلم، رقم الحديث 38.
[5] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية 1964، 14/346.
[6] سنن البيهقي، رقم الحديث 7327.
[7] التحرير والتنوير، ابن عاشور، الدار التونسية للنشر1984، 22/311.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.