You may also like
Page 1 of 8
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها السادة الأئمة الفضلاء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
سعيد بالتواصل معكم مرة أخرى على مائدة آي الذكر الحكيم؛ لاستكشاف هداياته، وسبر ما ألهم الله من أغواره وأسراره.
ونحن اليوم مع آية أخرى جليلة في تجلية أثر الذكر في تزكية النفس ومحاسبتها، وهي قوله تعالى:
﴿اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ أَلَا بِذِكْرِ اِ۬للَّهِ تَطْمَئِنُّ اُ۬لْقُلُوبُۖ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ طُوب۪ىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـَٔابٖۖ﴾ [الرعد: 29-30].
لخصت هذه الآية الكريمة أسباب السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة في الإيمان والذكر والعمل الصالح، فبينت أن القلوب الذاكرة هي المطمئنة في الدنيا، ولها حسن المآب في الآخرة، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
الهداية الأولى: علاقة الإيمان بالذكر
تهدي الآية إلى أن الإيمان أساس الذكر وعنوان الإنابة وثمرة الهداية؛ وذلك لما ورد في الآية قبلها ﴿وَيَهْدِےٓ إِلَيْهِ مَنَ اَنَابَۖ﴾، ثم أبدل منه: ﴿اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ أَلَا بِذِكْرِ اِ۬للَّهِ﴾. فالإنابة دليل على صحة الإيمان، والذكر وقوده الذي يزداد به إيمانا بعد إيمان، كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿إِنَّمَا اَ۬لْمُومِنُونَ اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَ۬للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمُۥٓ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمُۥٓ إِيمَٰناٗ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَۖ﴾ [الأنفال: 2].
فالله سبحانه وتعالى حصر الإيمان في الذاكرين الذين يزدادون إيمانا بذكر الله جل جلاله. مما يجعل الإيمان متوقفا على الذكر وديمومته باستمرار؛ لإدامة الحياة في النفس؛ وإدامة نور الذكر فيها؛ حتى لا تزيغ بالغفلة والنسيان، فيجدَ الشيطان سبيلا إليها، راكبا على شهواتها وملذاتها وأهوائها المختلفة؛ إذ الغفلة باب أوسع يلج منه الشيطان إلى نفوس العباد، ولا دواء لطرده إلا ذكر الله تعالى كما قال النبي ﷺ: «وآمركم بذكر الله، فإن مَثَلَ ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى على حصن حصين، فأحرز نفسه فيه، فكذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله»([1]).
فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن الذكر يحمي صاحبه من الشيطان، ويحول دون الوصول إليه.
الهداية الثانية: دور الذكر في تنمية الإيمان
الذكر في الآية قيل: القرآن الكريم، وقيل: ذكر الله تعالى باللسان، وقيل: خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه. وهذه المعاني كلها صحيحة، ولها آثار إيجابية على إيمان المؤمن من حيث الأثرُ في النفس والقلب والروح والجسد كذلك، يقول الله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اَ۬للَّهُ صَدْرَهُۥ لِلِاسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۖ فَوَيْلٞ لِّلْقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ أُوْلَٰٓئِكَ فِے ضَلَٰلٖ مُّبِينٍۖ اِ۬للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَ۬لْحَدِيثِ كِتَٰباٗ مُّتَشَٰبِهاٗ مَّثَانِيَۖ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اُ۬لذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمُۥٓ إِلَىٰ ذِكْرِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ هُدَى اَ۬للَّهِ يَهْدِے بِهِۦ مَنْ يَّشَآءُۖ وَمَنْ يُّضْلِلِ اِ۬للَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍۖ﴾ [الزمر: 22-23].
في هاتين الآتين بين الله تعالى أثر الإسلام في القلوب باعتباره نورا يستضيء به صاحبه، ويمشي به في الناس. ثم نعى على الذين قست قلوبهم من ذكر الله، وذلك بالإعراض عنه وعدم الاستفادة من نوره، مما جعلها مستمرة في غيها وضلالها المبين.
كما أثنى سبحانه على الذين تقشعر جلودهم وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله تعالى، وذلك بسبب الخشية الموجودة في قلوبهم.
فاتضح مما سبق ذكره أن ذكر الله تعالى من أهم وأعظم الوسائل التي تُنَمِّي الإيمان في القلوب.
الهداية الثالثة: أثر الذكر في طمأنة القلوب
هذه الآية صريحة في أن الذكر سبب مباشر في طمأنة القلوب، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اِ۬للَّهِ تَطْمَئِنُّ اُ۬لْقُلُوبُۖ﴾، والطمأنينة هي أعلى مستوى إيماني يطلبه المؤمن، كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِےۖ﴾ [البقرة: 259]. فسيدنا إبراهيم عليه السلام: إمام الموحدين، وأبو الأنبياء، وكان أمة وحده في توحيده، وجهاده، ووقوفه ضد عبدة الأوثان ﴿اِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتاٗ لِّلهِ حَنِيفاٗ وَلَمْ يَكُ مِنَ اَ۬لْمُشْرِكِينَۖ﴾ [النحل: 120]. مما يدل على قوة إيمانه ورسوخ يقينه في الله، ومع ذلك يطلب مرتبة أعلى وهي الطمأنينة. واستدل البخاري بقوله: ﴿وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِےۖ﴾ على زيادة الإيمان([2])، وأنه درجات ومقامات تسمو إليها الأرواح العالية، والنفوس الزكية، والقلوب السليمة.
ولذلك ألف العلماء كتبا عديدة في موضوع الرقاق، والرقائق، والزهد، والتزكية، والرعاية، والتصوف، وإحياء علوم الدين، وقوت القلوب، وتغذيتها بالذكرن وأمور الإيمان؛ من أجل الرقي بها في مقامات اليقين.
الهداية الرابعة: في دور الذكر في تزكية النفس ومحاسبتها
إذا كان للذكر، كما أسلفنا، أثر بالغ في تنمية الإيمان وطمأنة القلوب والسمو بالأرواح، فإنه كذلك له أثر بالغ ومفيد في تزكية النفس ومحاسبتها؛ وذلك لما يجعلها فيه من اليقظة الدائمة والشعور المستمر بالمراقبة، فتصحو النفس من الغفلة التي هي الداء العضال لدى الغافلين، ما لم تنزل عليها مواعظ الذكر أو هوادم اللذات.
والذكر يوقظ النفس من غفلتها، ويسمو بها إلى معرفة حقيقتها بمعرفة خالقها ومعرفة واجبها في هذه الحياة، فتعود حينئذ لوامة عما سلف من التفريط أو التقصير، والتقديم أو التأخير. مما يبعثها على الندم والتوبة، والمسارعة إلى استدراك ما فات، وملازمة الاستغفار؛ الذي هو الدواء من كل داء، كما قال النبي ﷺ: «من لزم الاستغفار؛ جعل الله له من كل ضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب» ([3]). فتخرج النفس من ورطتها الضيقة الحرجة، إلى سعة رحمة الله وعظيم فضله وسعة رزقه.
وفي هذه المرحلة يكون الإنسان كأنه ولد من جديد، وانتقل إلى الطمأنينة النفسية، والسعادة الباطنية، والأمن النفسي والروحي الكبير، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا اَ۬لنَّفْسُ اُ۬لْمُطْمَئِنَّةُ اُ۪رْجِعِےٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرْضِيَّةٗ فَادْخُلِے فِے عِبَٰدِے وَادْخُلِے جَنَّتِےۖ﴾ [الفجر: 27-30].
وهنا تبدأ مرحلة أخرى عبر عنها الشيخ ابن عاشر رحمه الله بقوله:
يحاسب النفس على الأنفاس | ويزن الخاطر بالقسطاس |
ويحفظ المفروض رأس المال | والنفل ربحه به يوالي |
ويكثر الذكر بصفو لبه | والعون في جميع ذا بربه |
يجاهد النفس لرب العالمين | ويتحلى بمقامات اليقين |
خوف رجا شكر وصبر توبة | زهد توكل رضى محبة([4]) |
هذه الأبيات لا تحتاج إلى الشرح في طريقة محاسبة النفس، ومراقبتها بالمواظبة على الذكر، والفرائض، والنوافل، مع التحلي بالخوف، والرجاء، وما بعدهما من مقامات اليقين.
الهداية الخامسة: دور الإيمان والعمل الصالح في تزكية النفس وطَمْأَنَةِ القلب: ﴿اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ﴾.
فها هي الآية الكريمة عادت بنا إلى عنصري الحياة الطيبة وشرطي الطمأنينة، وهما الإيمان والعمل الصالح، متجاوبة مع قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ مِّن ذَكَرٍ اَوُ ا۟نث۪ىٰ وَهُوَ مُومِنٞ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗ وَلَنَجْزِيَنَّهُمُۥٓ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ﴾ [النحل: 97].
فبالإيمان الصادق والعمل الصالح تصلح أحوال الفرد والمجتمع، وتحصل القناعة والطمأنينة والرضى بما قضاه الله وقدره، ويكون للمؤمنين العاملين عملا صالحا الموعودُ الحقُّ في مسك ختام الآيتين: ﴿طُوب۪ىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـَٔابٖۖ﴾ وهو:
الهداية السادسة: طوبى لهم وحسن مآب
يهدي قوله سبحانه وتعالى: ﴿طُوب۪ىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَـَٔابٖۖ﴾، إلى ما يؤول إليه أمر الذاكر لله تعالى من الطيبوبة وحسن المصير.
وكلمة طوبى، قال ابن جزي رحمه الله: “مصدر من طاب كبشرى، ومعناها أصابت خيرا وطِيبا، وقيل: هي شجرة في الجنة”([5]).
وقال الشيخ ابن عاشور، في معنى: طوبى لهم: “أي لهم الخير الكامل؛ لأنهم اطمأنت قلوبهم بالذكر، فهم في طيب حال في الدنيا بالاطمئنان، وفي الآخرة بالنعيم الدائم، وهو حسن المآب، وهو مرجعهم في آخر أمرهم”([6]).
وتفسير ابن عاشور: ﴿طُوب۪ىٰ لَهُمْ﴾ بحسن الحال والطمأنينة في الدنيا دليل على أن الذكر له أثر بالغ في تحقيق الحياة الطيبة هنا في الدنيا قبل الآخرة، ولهم في الآخرة حسن المآب، أي المصير الحسن والنعيم المقيم الذي لا ينفد.
فاللهَ تعالى نسأل أن يرزقنا جميعا حياة طيبة في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة مع كريم رضوانه، وجميل عفوه وواسع رحمته. آمين.
وإلى لقاء آخر بحول الله، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
([2]) صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ: “بني الإسلام على خمس، 1/10.
([3]) سنن أبي داود باب في الاستغفار، 1/560.
([4]) منظومة المرشد المعين للشيخ الإمام ابن عاشر رحمه الله، كتاب مبادئ التصوف وهوادي التعرف، آخر المنظومة.
At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.